التأويل: التصيير، من آل يؤول إلى كذا إذا صار إليه، وأوّلتُه إلى كذا؛ أي: صيرتُه إليه.
قال ابن فارس رحمه الله في مادة: «الهمزة والواو واللام أصلان: ابتداء الأمر، وانتهاؤه. أما الأوَّل فالأوّل، وهو مبتدأُ الشيء... والأصل الثّاني: قال الخليل: الأَيِّل الذَّكَرُ من الوُعول، والجمع أيائِل، وإنّما سمّي أَيِّلاً؛ لأنّه يَؤُول إلى الجبل يتحصَّن... وآلَ يَؤُول؛ أَي: رجع... ومن هذا الباب تأويل الكلام، وهو عاقبتُهُ وما يؤُولُ إليه، وذلك قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} [الأعراف 53] . يقول: ما يَؤُول إليه في وقت بعثهم ونشورهم»[1].
وقال الأزهري رحمه الله: «وأما التأويل فقيل: من أوَّل يُؤَوّل تأويلاً، وثلاثيه: آل يؤول؛ أي: رجع وعاد... قلت: أُلْت الشيء: جمعته وأصلحته، فكأن التأويل جمع معان مشكلة بلفظ واضح لا إشكال فيه... والتأوّل والتأويل: تفسير الكلام الذي تَختلف معانيه، ولا يصح إلا ببيان غير لفظه»[2].
وقال الجوهري رحمه الله: «التَّأْويل: تفسير ما يؤول إليه الشيء. وقد أَوَّلْتُه وتَأَوّلته تأوُّلاً بمعنى»[3].
وقال ابن منظور رحمه الله: «وسئل أَبو العباس أَحمد بن يحيى عن التأْويل فقال: التأْويل والمعنى والتفسير واحد»[4].
[1] مقاييس اللغة (1/158 ـ 162) [دار الجيل، ط2].
[2] تهذيب اللغة (15/329) [دار إحياء التراث العربي].
[3] الصحاح (63) [دار المعرفة، بيروت، ط1].
[4] لسان العرب (1/172) [دار المعارف، بيروت].
التأويل في اصطلاح المتقدمين يأتي لمعنيين: أحدهما: بمعنى التفسير.
وثانيهما: بمعنى الحقيقة والعاقبة التي يؤول إليها الأمر، ولذا عرَّفه ابن عثيمين بقوله: «رد الكلام إلى الغاية المرادة منه بشرح معناه، أو حصول مقتضاه»[1]. وهذا معنى ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله بقوله: «وأما لفظ التأويل في التنزيل فمعناه: الحقيقة التي يؤول إليها الخطاب، وهي نفس الحقائق التي أخبر الله عنها، فتأويل ما أخبر به عن اليوم الآخر: هو نفس ما يكون في اليوم الآخر. وتأويل ما أخبر به عن نفسه: هو نفسه المقدسة الموصوفة بصفاته العلية. وهذا التأويل هو الذي لا يعلمه إلا الله، ولهذا كان السلف يقولون: الاستواء معلوم والكيف مجهول، فيثبتون العلم بالاستواء وهو التأويل الذي بمعنى التفسير، وهو معرفة المراد بالكلام حتى يتدبر ويعقل ويفقه، ويقولون: الكيف مجهول وهو التأويل الذي انفرد الله بعلمه، وهو الحقيقة التي لا يعلمها إلا هو»[2].
[1] تقريب التدمرية لابن عثيمين (75) [دار ابن الجوزي].
[2] درء تعارض العقل والنقل (3/95) [جامعة الإمام محمد بن سعود، ط2، 1411هـ].
وأما في اصطلاح المتكلمين فهو «رد الظاهر إلى ما إليه مآله في دعوى المؤول»[1]. وقال الغزالي رحمه الله: «التأويل عبارة عن احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي يدل عليه الظاهر»[2].
[1] البرهان في أصول الفقه (1/336) [دار الوفاء، مصر، ط4]، وانظر: مدارج السالكين (2/85) [دار الكتاب العربي، بيروت، ط3]، وجناية التأويل الفاسد على العقيدة الإسلامية لأحمد محمد لوح (10) [دار ابن عفان].
[2] المستصفى للغزالي [دار الكتب العلمية، ط1].
يحرم التأويل الذي بمعنى صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى آخر بدون دليل؛ لأنه تحريف للكلم عن مواضعه والتحريف مذموم، وهو من صنع اليهود، قال الله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 41] .
حقيقة التأويل: هو صرف اللفظ عن ظاهر معناه وإخراجه إلى معنى آخر، فإن كان هذا الصرف والإخراج عن الظاهر لدليل صحيح صار هذا التأويل صحيحًا وجائزًا، وإلا صار فاسدًا.
فحقيقة التأويل الجائز إما أنه بيان للحقيقة التي يؤول إليها الكلام، فإن كان خبرًا كان تأويله وقوعه كما قال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} [الأعراف: 53] ؛ أي: وقوع ما أخبر به من العذاب والنكال والجنة والنار[1]، وإن كان أمرًا كان تأويله امتثاله؛ كحديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللَّهُمَّ ربنا وبحمدك اللَّهُمَّ اغفر لي» ؛ يتأول القرآن[2]؛ أي: يعمل بما جاء فيه من الأمر بالتسبيح والتحميد والاستغفار[3]، وإن كان تركًا كان تأويله تركه.
وإما أنه بيان لمعنى النص وتفسير لمدلوله؛ كقول بعض السلف ـ كابن جرير وغيره ـ: القول في تأويل قوله تعالى كذا؛ أي: تفسيره ومعناه.
وحقيقة التأويل المذموم هو التحريف والتغيير للكلم عن مواضعه؛ لأنه صرف لدلالة اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى آخر ليس لدليل من الكتاب والسُّنَّة؛ لأن هذا محل اتفاق، وهو يعتبر تفسيرًا، وإنما لشيء يتوهمه المؤول، كمن يصرف لفظ استوى عن ظاهر معناه ـ وهو: علا وارتفع ـ إلى استولى، فهذا تحريف؛ لأنه ما دلَّ عليه دليل؛ بل الدليل على خلافه[4]، ولذا يعبر ابن تيمية رحمه الله عن واقعهم هذا فيقول: «وأما التأويل المذموم والباطل: فهو تأويل أهل التحريف والبدع الذين يتأولونه على غير تأويله ويدعون صرف اللفظ عن مدلوله إلى غير مدلوله، بغير دليل يوجب ذلك»[5].
[1] انظر: تفسير ابن كثير (3/425)، وتفسير السعدي (291).
[2] أخرجه البخاري (كتاب التفسير، رقم 4968) ومسلم (كتاب الصلاة، رقم 484).
[3] انظر: فتح الباري لابن حجر (8/734) [دار المعرفة].
[4] انظر: شرح الواسطية لابن عثيمين (1/89) [دار ابن الجوزي، ط5].
[5] مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (3/67).
دلَّت النصوص الشرعية على التأويل الصحيح وهو ما كان بمعنى التفسير، وبمعنى حقيقة ما يؤول إليه الأمر.
أما الأول: ففي قوله تعالى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ *} [يوسف] .
وأما الثاني: ففي قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 53] .
قال ابن تيمية رحمه الله: «لفظ التأويل قد صار بتعدد الاصطلاحات مستعملاً في ثلاثة معان:
أحدها: وهو اصطلاح كثير من المتأخرين من المتكلمين في الفقه وأصوله: أن التأويل هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح؛ لدليل يقترن به...
الثاني: أن التأويل بمعنى التفسير وهذا هو الغالب على اصطلاح المفسرين للقرآن كما يقول ابن جرير رحمه الله وأمثاله من المصنفين في التفسير...
الثالث من معاني التأويل: هو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام كما قال الله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 53] »[1].
وقال ابن القيم: «التأويل (تفعيل) من: آل يؤول إلى كذا؛ إذا صار إليه، فالتأويل: التصيير، وأوَّلته تأويلاً؛ إذا صيَّرته إليه فآل وتأوّل، وهو مطاوع أولته. وقال الجوهري: التأويل تفسير ما يؤول إليه الشيء وقد أولته وتأولته تأوُّلاً بمعنى... ثم تسمى العاقبة تأويلاً؛ لأن الأمر يصير إليها، ومنه قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً *} [النساء] . وتسمى حقيقة الشيء المخبر به: تأويلاً؛ لأن الأمر ينتهي إليها، ومنه قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 53] ... فالتأويل في كتاب الله سبحانه وتعالى المراد به حقيقة المعنى الذي يؤول اللفظ إليه، وهي الحقيقة الموجودة في الخارج»[2].
وقال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله: «قد صار اصطلاح المتأخرين في معنى التأويل: أنه صرف اللفظ عن ظاهره، وبهذا تسلط المحرفون على النصوص، وقالوا: نحن نتأول ما يخالف قولنا، فسموا التحريف تأويلاً، تزيينًا له وزخرفة ليقبل، وقد ذمَّ الله الذين زخرفوا الباطل، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112] »[3].
[1] مجموع الفتاوى (3/55 ـ 56).
[2] الصواعق المرسلة (1/175 ـ 177) [دار العاصمة].
[3] شرح العقيدة الطحاوية (1/251).
يشترط لصحة التأويل وقبوله الأمور الآتية:
الأولى: أن يكون اللفظ الذي يراد تأويله يحتمل المعنى المؤول به لغة أو شرعًا.
الثانية: احتمال السياق للمعنى المؤول به.
الثالثة: قيام دليل معتبر شرعًا على أن المراد هو المعنى المؤول به.
الرابعة: سلامة دليل التأويل من معارض أقوى منه[1].
قال ابن تيمية رحمه الله: «والمتأول عليه وظيفتان: بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي ادعاه وبيان الدليل الموجب للصرف إليه عن المعنى الظاهر»[2].
[1] انظر: شرح الرسالة التدمرية لمحمد الخميس (294 ـ 295) [دار أطلس الخضراء]، وجناية التأويل الفاسد على العقيدة الإسلامية لمحمد لوح (13)، ومصطلحات في كتب العقائد لمحمد الحمد (15 ـ 16) [دار ابن خزيمة].
[2] مجموع الفتاوى لابن تيمية (13/288) وانظر: المصدر نفسه (6/21).
ينقسم التأويل إلى قسمين:
القسم الأول: التأويل الصحيح، وهو نوعان:
النوع الأول: تأويل التفسير، وهو بيان الكلام بذكر معناه المراد به. ومنه ما حكاه الله تعالى عن صاحبي السجن وهما يخاطبان نبي الله يوسف عليه السلام: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ *} [يوسف] .
قال ابن تيمية: «ويجوز باتفاق المسلمين أن تفسر إحدى الآيتين بظاهر الأخرى، ويصرف الكلام عن ظاهره؛ إذ لا محذور في ذلك عند أحد من أهل السُّنَّة، وإن سمي تأويلاً وصرفًا عن الظاهر، فذلك لدلالة القرآن عليه، ولموافقة السُّنَّة والسلف عليه؛ لأنه تفسير القرآن بالقرآن؛ ليس تفسيرًا له بالرأي. والمحذور إنما هو صرف القرآن عن فحواه بغير دلالة من الله ورسوله والسابقين»[1].
النوع الثاني: ما كان بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها الأمر، كما في قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 53] .
القسم الثاني: التأويل الباطل، وهو: صرف اللفظ عن ظاهره من غير دليل معتبر شرعًا، وهذا هو المشهور عند المؤولة للصفات وهو مردود لما سيأتي[2].
[1] مجموع الفتاوى لابن تيمية (6/21).
[2] لمعرفة أنواع التأويل انظر: مجموع الفتاوى (3/55 ـ 56)، وجناية التأويل الفاسد لمحمد لوح (11، و18).
المسألة الأولى: حكم المتأول:
يختلف حكمه باختلاف أحوال المتأولين، وبيان هذا على النحو التالي:
الأول: أن يكون التأويل صادرًا عن اجتهاد وحسن نية، بحيث إذا تبين له الصواب رجع عن تأويله إلى الحق، فهذا معفو عنه؛ لأنه بذل ما في وسعه في طلب الحق، وقد قال الله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] .
الثاني: أن يكون صادرًا عن هوى وتعصب، وله وجه في اللغة العربية، فهو فسق وليس بكفر، إلا أن يتضمن نقصًا أو عيبًا في حق الله فيكون كفرًا.
الثالث: أن يكون صادرًا عن هوى وتعصب وليس له وجه في العربية، فهذا كفر؛ لأن حقيقته التكذيب حيث لا وجه له. مثل أن يقول في قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] المراد بيديه: السماوات والأرض، فهو كفر؛ لأنه لا مسوغ له في اللغة العربية، لكن إن قال: المراد باليد النعمة أو القوة فلا يكفر؛ لأن اليد في اللغة تطلق بمعنى النعمة[1].
المسألة الثانية: تفسير النص ببعض معانيه أو بلازمه ليس تأويلاً:
لا شكَّ أن تفسير النص ببعض معانيه أو بعض لوازمه الحقة ليس من التأويل في شيء، مثال ذلك لفظ المعية فإنه يدل على العلم ويدل على المصاحبة، ثم إذا أضيفت فيكون معناها على حسب ما تضاف إليه، فتفسير المعية بأحد المعنيين ليس تأويلاً، ومن ذلك تفسير السلف للمعية في قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] بالعلم؛ لأنه لا يمكن لأي إنسان يعرف قدر الله ويعرف عظمته أن يخطر في باله أنه تعالى بذاته مع الناس في أمكنتهم ودورهم[2].
[1] انظر: الشرح الممتع لابن عثيمين (14/412 ـ 413) [دار ابن الجوزي، ط1، 1428هـ].
[2] انظر: مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (5/173).
الفرق بين التأويل والتحريف:
يختلف التأويل عن التحريف من وجوه؛ منها:
الأول: أن التحريف جاء في الشرع ذمه، كما في قوله تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 41] ، بخلاف التأويل؛ فإنه مع ورود ذكره في الشرع لم يأت ذمه.
الثاني: أن التحريف لفظ صريح في دلالته على التغيير والتبديل، بخلاف التأويل فهو لفظ مجمل قد يحتمل معنى صحيحًا وقد يحتمل معنى فاسدًا[1].
[1] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (3/165) ومجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (1/181).
إن التأويل الفاسد جر إلى الإسلام وأهله مفاسد عديدة، وترك فيهم آثارًا سيئة؛ فبسببه دب تحريف الأسماء والصفات بين بعض المجتمعات المسلمة، وانتشرت البدع، وسفكت الدماء، وروِّعت الأنفس البريئة. وهل قُتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان، وقتل الحسين، وخرجت الخوارج، واعتزلت المعتزلة، ورفضت الروافض، وتتابعت فرق الضلال والبدعة إلا بسبب التأويل الفاسد؟[1].
[1] انظر: الكافية الشافية لابن القيم (104 ـ 106) [عالم الفوائد]، وشرح الطحاوية (1/208 ـ 209).
ذهب المؤولة جميعًا إلى صرف النصوص الشرعية عن ظاهرها إلى معان أخرى لا يدل عليها اللفظ بغير دليل معتبر شرعًا، زاعمين أن هذا حقيقة التنزيه للربِّ سبحانه، وسمَّوا هذا تأويلاً[1].
[1] انظر: أساس التقديس (220 ـ 221) [مكتبة الكليات الأزهرية]، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (3/53) والصفدية لابن تيمية (1/237) [مكتبة ابن تيمية، ط2]، وبيان تلبيس الجهمية (6/341 ـ 344) [مجمع الملك فهد]، والصواعق المرسلة (1/219)، وجناية التأويل الفاسد لمحمد لوح (222 ـ 232، 271 ـ 276، 466، 523، 528).
لا شك أن صرف النصوص عن دلالاتها الظاهرة بغير دليل معتبر شرعًا في غاية الفساد، ويتضح ذلك من خلال التالي:
أولاً: أن القول بتأويل النصوص عن ظاهرها بغير حجة هو تحريف بيّن وتعطيل صراح عند الأئمة، وهو ظاهر الفساد[1].
قال ابن تيمية رحمه الله: «وأما التأويل المذموم والباطل، فهو تأويل أهل التحريف والبدع، الذين يتأولونه على غير تأويله، ويدعون صرف اللفظ عن مدلوله إلى غير مدلوله بغير دليل يوجب ذلك، ويدعون أن في ظاهره من المحذور ما هو نظير المحذور اللازم فيما أثبتوه بالعقل، ويصرفونه إلى معان هي نظير المعاني التي نفوها عنه، فيكون ما نفوه من جنس ما أثبتوه، فإن كان الثابت حقًّا ممكنًا كان المنفي مثله، وإن كان المنفي باطلاً ممتنعًا كان الثابت مثله»[2].
ثانيًا: أن في القول بالتأويل فتحًا للباب للمضلين ينفذون منه لإبطال الشرع بشتى التأويلات الباطلة[3].
ثالثًا: أن تأويل التحريف هو تركة يهودية مشؤومة؛ لأنه مأخوذ من الأصل عن اليهود، فهم الراسخون فيه، وهم شيوخ المحرفين وسلفهم[4].
قال ابن أبي العز رحمه الله: «وأما من أبى إلا تحريفها بما يسميه تأويلاً، فتأويل نصوص المعاد والجنة والنار والحساب، أسهل من تأويلها على أرباب التأويل، ولا يشاء مبطل أن يتأول النصوص ويحرفها عن مواضعها إلا وجد إلى ذلك من السبيل ما وجده متأول هذه النصوص. وهذا الذي أفسد الدنيا والدين، وهكذا فعلت اليهود والنصارى في نصوص التوراة والإنجيل، وحذرنا الله أن نفعل مثلهم، وأبى المبطلون إلا سلوك سبيلهم»[5].
رابعًا: أن المتأولين عاجزون عن تحقيق الفرق بين ما يسوغ تأويله وما لا يسوغ[6].
خامسًا: أن تأويل المؤولة ناشئ عن سوء فهمهم لمعاني النصوص، حيث جعلوا النصوص دالة على معاني باطلة ثم أخذوا يصرفونها عن ظاهرها فجمعوا بين التشبيه والتعطيل[7].
سادسًا: القول بالتأويل يلزم منه لوازم فاسدة؛ منها:
1 ـ أن يكون الله سبحانه قد أنزل في كتابه وسُنَّة نبيّه من هذه الألفاظ ما يكون ظاهره سببًا في إضلالهم وإيقاعهم في التشبيه والتمثيل[8].
2 ـ نسبة أهل القرون المفضلة إلى الكتمان أو التجهيل؛ لأنه لم يؤثر عنهم التأويل الذي سلكه المعطلة[9].
[1] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (13/295).
[2] الرسالة التدمرية (71) [جامعة الإمام، ط4].
[3] انظر: الصواعق المرسلة (1/216، 248).
[4] انظر: المصدر السابق (1/215 ـ 216).
[5] شرح الطحاوية لابن أبي العز (1/208 ـ 209).
[6] انظر: الصواعق المرسلة (1/223).
[7] انظر: المصدر السابق (1/238).
[8] انظر: المصدر السابق (1/314).
[9] انظر: الصواعق المرسلة (1/315).
1 ـ «جناية التأويل الفاسد على العقيدة الإسلامية»، لمحمد أحمد لوح.
2 ـ «درء تعارض العقل والنقل» (ج3)، لابن تيمية.
3 ـ «الرسالة التدمرية»، لابن تيمية.
4 ـ «شرح العقيدة الطحاوية» (ج1)، لابن أبي العز.
5 ـ «شرح العقيدة الواسطية» (ج1)، لابن عثيمين.
6 ـ «الصفدية» (ج1)، لابن تيمية.
7 ـ «الصواعق المرسلة» (ج1)، لابن القيم.
8 ـ «الكافية الشافية»، لابن القيم.
9 ـ «مدارج السالكين» (ج)، لابن القيم.
10 ـ «ذم التأويل»، لابن قدامة.