التجلي في اللغة: هو الظهور والانكشاف، والجلي ضد الخفي، قال ابن فارس: «الجيم واللام والحرف المعتل أصل واحد وقياس مطرد، وهو انكشاف الشيء وبروزه»[1]، ومنه يقال: جلا لي الخبر؛ أي: وضح، ويقال: تجلى الشيء: إذا ظهر وبان وانكشف[2].
[1] مقاييس اللغة (1/240) [دار الكتب العلمية].
[2] انظر: الصحاح (3/2303 ـ 2305) [دار العلم للملايين)، ومقاييس اللغة (1/240).
تجلي الله سبحانه وتعالى صفة فعلية خبرية اختيارية، فهو سبحانه بان وظهر وتجلى للجبل، لما قال له موسى عليه السلام: أرني أنظر إليك، وكذلك سيتجلى سبحانه لعباده المؤمنين يوم القيامة[1].
[1] انظر: كتاب التوحيد لابن منده (3/40) [الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ط1]، ومجموع الفتاوى (6/37 و23/76) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف]، وصفات الله سبحانه وتعالى الواردة في الكتاب والسُّنَّة للسقاف (92) [دار الهجرة، ط3].
قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ *} [الأعراف] .
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث طويل، وفيه: «...فتدعى الأمم بأوثانها وما كانت تعبد الأول فالأول، ثم يأتينا ربنا بعد ذلك فيقول: من تنظرون؟ فيقولون: ننظر ربنا. فيقول: أنا ربكم. فيقولون: حتى ننظر إليك فيتجلى لهم يضحك...» الحديث[1].
[1] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 191).
قال ابن قتيبة: «وعدل القول في هذه الأخبار: أن نؤمن بما صح منها بنقل الثقات لها، فنؤمن بالرؤية والتجلي، وأنه يعجب وينزل إلى السماء الدنيا، وأنه على العرش استوى، وبالنفس واليدين من غير أن نقول في ذلك بكيفية أو حد أو أن نقيس على ما جاء ما لم يأت، فنرجو أن نكون في ذلك القول والعقد على سبيل النجاة غدًا إن شاء الله تعالى»[1].
وقال ابن منده: «إن الله يتجلى لعباده كيف شاء»[2].
وقال ابن عبد البر: «وقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يَنْزِل ربُّنَا إلى السماء الدنيا» عندهم مثل قول الله سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف: 143] ، ومثل قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *} [الفجر] ، كلهم يقول: يَنْزِل ويَتَجَلَّى ويجيء، بلا كيف، لا يقولون: كيف يجيء؟ وكيف يَتَجَلَّى؟ وكيف يَنْزِل؟ ولا من أين جاء؟ ولا من أين تَجَلَّى؟ ولا من أين يَنْزِل؟ لأنه ليس كشيءٍ من خلقه، وتعالى عن الأشياء، ولا شريك له، وفي قول الله سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف: 143] دلالةٌ واضحةٌ أنه لم يكن قبل ذلك متجلِّيًا للجبل، وفي ذلك ما يفسر معنى حديث التَنْزيل... لا يُرَى في الدنيا؛ لأن أبصار الخلائق لم تعط في الدنيا تلك القوة»[3].
وقال ابن تيمية: «والله تعالى في القرآن يثبت الصفات على وجه التفصيل، وينفي عنه ـ على طريق الإجمال ـ التشبيه والتمثيل. فهو في القرآن يخبر أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه عزيز حكيم، غفور رحيم، وأنه سميع بصير، وأنه غفور ودود، وأنه تعالى ـ على عظم ذاته ـ يحب المؤمنين، ويرضى عنهم، ويغضب على الكفار، ويسخط عليهم، وأنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استوى على العرش، وأنه كلَّم موسى تكليمًا، وأنه تَجَلَّى للجبل فجعله دكًّا؛ وأمثال ذلك»[4]. وقال أيضًا: «وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة: أنه إذا تَجَلَّى لهم يوم القيامة سجد له المؤمنون، ومن كان يسجد في الدنيا رياءً يصيُر ظهرُه مثل الطبق[5]»[6].
[1] الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة (53) [دار الراية الرياض، ط1، 1412هـ].
[2] كتاب التوحيد لابن منده (3/40).
[3] التمهيد (7/153) [وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المملكة المغربية].
[4] مجموع الفتاوى (6 / 37).
[5] جاء هذا عند البخاري (كتاب تفسير القرآن، رقم 4919)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، فيبقى كل من كان يسجد في الدنيا رياءً وسمعةً، فيذهب ليسجد، فيعود ظهره طبقًا واحدًا».
[6] المصدر السابق (23/76).
ليس في هذه الدنيا بشر تجلى له الرب تبارك وتعالى وظهر، وكلَّمه مشافهة ومواجهة من غير حجاب، ولا رسول، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِي بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ *} [الشورى] وإنما يتجلى الرب تبارك وتعالى للمؤمنين في الآخرة فيراهم ويرونه تبارك وتعالى ، ويكلمهم من غير حجاب ولا رسول ولا ترجمان.
وأما ما جاء عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لقيني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال لي: «يا جابر! ما لي أراك منكسرًا؟» قلت: يا رسول الله! استشهد أبي، قتل يوم أُحد، وترك عيالاً ودَيْنًا. قال: «أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك؟» قال: قلت: بلى يا رسول الله. قال: «ما كلم الله أحدًا قط إلا من وراء حجاب، وأحيا أباك؛ فكلَّمه كفاحًا، فقال: يا عبدي تمن علي أعطك، قال: يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية. قال الرب سبحانه وتعالى : إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون...» الحديث[1].
فلا شك أن هذه منقبة له، ولكنه لا يتعارض مع الآية الكريمة، فإنها تتعلق بدار الدنيا، قال ابن القيم معلقًا عليها: «فلما أخبر أنه يكلم البشر من وراء حجاب دلَّ على أنه قد يكلِّم غيرهم مع رفع ذلك الحجاب، كما قال النبي لجابر بن عبد الله رضي الله عنهما: «إن الله ما كلم أحدًا إلا من وراء حجاب، وإنه أحيا أباك وكلمه كفاحًا» ، وكما في الحديث: «ما منكم من أحد إلا سيكلِّمه ربه ليس بينه وبينه حجاب يحجبه ولا ترجمان» [2]، فلا يناقض هذا ما دلَّت عليه الآية، فإن هذا في الدنيا وما دلَّت عليه السُّنَّة في دار الآخرة وتكليم عبد الله بن حرام والد جابر كان بعد الموت، لم يكن في الدنيا»[3].
[1] أخرجه الترمذي (أبواب تفسير القرآن، رقم 3010) وحسنه، وابن ماجه (المقدمة، رقم 190)، وابن حبان (كتاب إخباره صلّى الله عليه وسلّم عن مناقب الصحابة، رقم 7022)، والحاكم (كتاب معرفة الصحابة، رقم 4914) وصححه، وصححه الألباني أيضًا في صحيح الترغيب والترهيب (رقم 1361).
[2] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، رقم 7443)، ومسلم (كتاب الزكاة، رقم 1016).
[3] الصواعق المرسلة (4/1247 ـ 1248) [دار العاصمة، الرياض، ط3، 1418هـ].
إن الله سبحانه وتعالى لم يتجل للعباد في هذه الدنيا ليتحقق لهم الإيمان بالغيب، ولأنهم لا يطيقون رؤيته في هذا الدنيا، ويتجلى للمؤمنين في الآخرة من باب الإكرام لهم وتمام الإنعام عليهم، وعندما يكشف عن ساقه يخر له المؤمنون ساجدين، وأما المنافقون الذين كانوا يسجدون رياء وسمعة فلا يتمكنون من السجود، فيتميز أهل التوحيد والإخلاص من أهل الرياء والنفاق.
الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم يؤولون تجلي الرب تبارك وتعالى بظهور قدرته وسلطانه وآياته؛ وذلك تبعًا لاعتقادهم أن رؤية الله تعالى غير جائزة[1]، وهو قول باطل ورأي فاسد؛ لكونه مخالفًا لنصوص الكتاب والسُّنَّة وأقوال سلف الأمة، وأما آيات الله وسلطانه وقدرته فهي واضحة ظاهرة بادية في كل وقت وحين لدى جميع أولي الأبصار والنهى، وليس ذلك مقصورًا على المؤمنين، ولا خاصًّا بيوم القيامة، قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ *} [البقرة] .
[1] انظر من كتب أهل السُّنَّة: المحرر الوجيز لابن عطية (2/451) [دار الكتب العلمية، ط1]، واجتماع الجيوش الإسلامية (184) [مكتبة دار البيان، دمشق، ط3]، ومناهج اللغويين في تقرير العقيدة لمحمد الشيخ (155) [دار المنهاج، الرياض، ط1]، وانظر من كتب المعتزلة: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار (232 ـ 277) [مكتبة وهبة، ط2]، ومن كتب الأشاعرة: أساس التقديس للرازي (105، 129 ـ 130) [مكتبة الكليات الأزهرية].
1 ـ «اجتماع الجيوش الإسلامية»، لابن القيم.
2 ـ «الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة»، لابن قتيبة الدينوري.
3 ـ «التمهيد» (ج7)، لابن عبد البر.
4 ـ «الجامع لأحكام القرآن» (ج9)، للقرطبي.
5 ـ «صفات الله سبحانه وتعالى الواردة في الكتاب والسُّنَّة»، لعلوي بن عبد القادر السقاف.
6 ـ «الصواعق المرسلة» (ج4)، لابن القيم.
7 ـ «كتاب التوحيد» (ج3)، لابن منده.
8 ـ «مجموع الفتاوى» (ج6 و23)، لابن تيمية.
9 ـ «المحرر الوجيز» (ج2)، لابن عطية.
10 ـ «مناهج اللغويين في تقرير العقيدة إلى نهاية القرن الرابع الهجري»، لمحمد الشيخ عليو محمد.