التحريف لغة: التغيير والتبديل، قال ابن فارس: «الحاء الراء والفاء ثلاثة أصول: حدُّ الشيء، والعُدول، وتقدير الشَّيء. فأمّا الحدّ فحرْفُ كلِّ شيء حدُّه؛ كالسيف وغيره، ومنه الحَرْف، وهو الوجْه. تقول: هو مِن أمرِه على حَرْفٍ واحد؛ أي: طريقة واحدة... والأصل الثاني: الانحراف عن الشَّيء، يقال: انحرَفَ عنه يَنحرِف انحرافًا. وحرّفتُه أنا عنه؛ أي: عدَلتُ به عنه. ولذلك يقال: مُحَارَفٌ، وذلك إذا حُورِف كَسْبُه فمِيلَ به عنه، وذلك كتحريف الكلام، وهو عَدْلُه عن جِهته. قال الله تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 46] . والأصل الثالث: المِحراف، حديدة يقدَّر بها الجِراحات عند العِلاج»[1].
وقال الأزهري: «وقال الليث: التحريفُ في القرآن: تغييرُ الكلِمَةِ عَنْ مَعْنَاهَا، وهي قريبَةُ الشَّبَهِ، كما كانت اليهودُ تُغَير مَعانِيَ التوْراةِ بالأَشْبَاه، فوصَفَهم الله بِفِعْلِهم فقال: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 46] ، قال: وإذا مال إنسانٌ عن شيء يقال: تحرّف وانْحَرَفَ واحْرَوْرَف»[2].
[1] مقاييس اللغة (2/42 ـ 43) [دار الجيل، ط2].
[2] تهذيب اللغة (5/12) [دار إحياء التراث العربي].
هو: «العدول بالكلام عن وجهه وصوابه إلى غيره»[1].
وبعبارة أخرى هو «تفسير للنصوص بالمعاني الباطلة التي لا تدل عليها بوجه من الوجوه»[2].
أو «هو تغيير النص لفظًا أو معنى»[3].
[1] الصواعق المرسلة (1/215) [دار العاصمة، ط1].
[2] التنبيهات اللطيفة على ما احتوت عليه العقيدة الواسطية من المباحث المنيفة (22)، وانظر: مختصر الأسئلة والأجوبة الأصولية على العقيدة الواسطية (23).
[3] فتح رب البرية بتلخيص الحموية (18) [دار الوطن].
حقيقة التحريف هو التغيير وزنًا ومعنًى، فهو نفي للمعنى الصحيح الذي دلَّت عليه النصوص واستبداله بمعنى آخر غير صحيح[1]، ومنه صنيع اليهود حين أمرهم الله أن يدخلوا الباب سُجدًا ويقولوا حطة فبدلوا كلام الله وحرفوه فقالوا حبة في شعرة، فقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قيل لبني إسرائيل: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58] ، فبدلوا، فدخلوا يزحفون على أستاههم، وقالوا: حبة في شعرة»[2].
[1] انظر: تفسير ابن كثير (2/65) [دار طيبة، ط2]، وأصول الإيمان في ضوء الكتاب والسُّنَّة لنخبة من العلماء (78) [وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية، ط1، 1421هـ].
[2] أخرجه البخاري (كتاب الأنبياء، رقم 3403).
من النصوص التي دلَّت على تحريم التحريف للكلم عن مواضعه قول الله سبحانه: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 13] .
وقوله: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [النساء: 46] .
قال ابن تيمية: «تحريف الكلم عن مواضعه كما ذمَّه الله تعالى في كتابه وهو إزالة اللفظ عما دلَّ عليه من المعنى، مثل تأويل بعض الجهمية لقوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا *} [النساء] ؛ أي: جرحه بأظافير الحكمة تجريحًا»[1].
وقال ابن القيم: «من فسد من العلماء فاستعمل أخلاق اليهود من تحريف الكلم عن مواضعه وكتمان ما أنزل الله إذا كان فيه فوات غرضه وحسد من آتاه الله من فضله... إلى غير ذلك من الأخلاق التي ذمَّ بها اليهود من الكبر واللي والكتمان والتحريف والتحيُّل على المحارم، وتلبيس الحق بالباطل فهذا شبهه باليهود ظاهر»[2].
وقال ابن أبي العز رحمه الله: «فسموا التحريف تأويلاً؛ تزيينًا له وزخرفة ليُقبل، وقد ذمَّ الله الذين زخرفوا الباطل، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112] ، والعبرة للمعاني لا للألفاظ، فكم من باطل قد أقيم عليه دليل مزخرف عورض به دليل الحق»[3].
قال ابن عثيمين: «وأما التحريف، فهو تغيير لفظها، أو صرف معناها عما أراد الله بها ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، مثل أن يقول: استوى على العرش؛ أي: استولى، أو: ينزل إلى السماء الدنيا؛ أي: ينزل أمره»[4].
[1] مجموع الفتاوى لابن تيمية (3/165).
[2] بدائع الفوائد (2/440 ـ 441) [عالم الفوائد، ط2].
[3] شرح الطحاوية (1/251) [مؤسسة الرسالة].
[4] شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين (1/126) [دار ابن الجوزي، ط5، 1419هـ].
ينقسم التحريف إلى قسمين:
الأول: تحريف اللفظ بزيادة أو نقص أو تغيير شكل ـ سواء تغير معه المعنى أو لم يتغير، وإن كان هذا الثاني لا يقع إلا من جاهل ـ وذلك كقول اليهود: حنطة، لما قيل لهم: (قولوا حطة)، وكقراءة بعض المبتدعة: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا *} [النساء] ، بنصب لفظ الجلالة.
الثاني: تحريف المعنى، وهو تغييره مع إبقاء لفظه على حاله، وذلك كتفسير الغضب بإرادة الانتقام، وكقولهم: معنى الرحمة إرادة الإنعام[1].
قال ابن القيم: «والتحريف نوعان: تحريف اللفظ: وهو تبديله، وتحريف المعنى: وهو صرف اللفظ عنه إلى غيره مع بقاء صورة اللفظ»[2].
[1] انظر: هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى (49) [الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة]، ومختصر الأسئلة والأجوبة الأصولية على العقيدة الواسطية (23)، وفتح رب البرية (18)، ومعتقد أهل السُّنَّة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات لمحمد التميمي (70) [دار إيلاف الدولية، ط1].
[2] الصواعق المرسلة (1/358).
المسألة الأولى: تحديد المعاني الشرعية موقوف على النصوص:
لا شكَّ أن تعيين المعاني الشرعية لا سبيل إليه إلا عن طريق النصوص الشرعية، فهي التي تبين المعنى المراد شرعًا وتحدده. ونكتفي بمثالين:
أحدهما: تفسير المعية بالعلم في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ *} [المجادلة] .
فدلَّت الآية هنا على تحديد المعنى الشرعي للمعية، وهو العلم؛ حيث بدأت الآية بالحديث عن بيان إحاطة علم الله بكل معلوم، ثم ختمت به أيضًا، فدل هذا على أن المقصود بالمعية هنا هو المعية العلمية.
والآخر: الصلاة، فهي لغة الدعاء، لكن حدَّد الشرع معناها الشرعي بالعبادة ذات الأقوال والأفعال المخصوصة المفتتحة بالتكبير والمختتمة بالتسليم.
المسألة الثانية: السلامة من التحريف:
التحريف أمره خطير وشرّه مستطير، فهو تغيير وتبديل للمعاني والألفاظ عما هي عليه، فتتغير الحقائق، ويبطل الخطاب، وتفسد المعاني، ويدب التعطيل.
وسبيل الوقاية منه يكون بأمور؛ منها:
ـ لزوم الشرع والانقياد له، والاعتقاد الجازم بأنه طريق الهداية.
ـ المحافظة على ألفاظ الشرع والعناية بها. ومما يدل على ذلك حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال: «قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، وقل: اللَّهُمَّ أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رهبة ورغبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فإن مت مت على الفطرة، فاجعلهن آخر ما تقول. فقلت أستذكرهن: وبرسولك الذي أرسلت. قال: لا، وبنبيّك الذي أرسلت»[1].
ـ أن يفهم معاني النصوص الشرعية على ضوء فهم السلف الصالح الذين تلقوه من فم النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقد كانوا أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقهم علمًا، وأسدّهم رأيًا، وأبعدهم عن التكلف، وأحرصهم على امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وأنصحهم للخلق بعد نبيهم، ومرضيًّا عنهم رضًا مطلقًا.
قال ابن تيمية: «فمن لم يأخذ معاني الكتاب والسُّنَّة من الصحابة والتابعين... لم يكن له طريق أصلاً إلا ما يرد عليه من الآفات... من عدل عما فسَّر به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه والتابعون القرآن فأحد الأمرين لازم له: إما أن يعدل إلى تفسيره بما هو دون ذلك؛ فيكون محرفًا للكلم عن مواضعه، وإما أن يبقى أصم أبكم لا يسمع من كلام الله ورسوله إلا الصوت المجرد، الذي يشركه فيه البهائم ولا يعقله، وكل من هذين الأمرين باطل محرم»[2].
ـ هجر من تلبس بهوى وبدعة.
ـ كشف التحريف والمحرفين وبيان حالهم وفضحهم باللسان والقلم.
ـ الحجر على علماء ومفتي الضلالة لمن أمكنه ذلك[3].
[1] أخرجه البخاري (كتاب الدعوات، رقم 6311)، ومسلم (كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، رقم 2710).
[2] جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية لابن تيمية (19 ـ 20) [عالم الفوائد، ط1، 1429هـ].
[3] انظر لهذه الثلاث: تحريف النصوص من مآخذ أهل الأهواء في الاستدلال لبكر أبو زيد (43).
الفرق بين التحريف والتأويل:
يختلف التحريف عن التأويل من الوجوه التالية:
الأول: أن التحريف جاء في الشرع ذمه كما في قوله تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 41] ، بخلاف التأويل فإنه مع ورود ذكره في الشرع لم يأت ذمه.
الثاني: أن التحريف لفظ صريح في دلالته على التغيير والتبديل، بخلاف التأويل، فهو لفظ مجمل قد يحتمل معنى صحيحًا وقد يحتمل معنى فاسدًا[1].
[1] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (3/165)، ومجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (1/181) [جمع وترتيب: فهد السليمان، دار الوطن، ودار الثريا، 1413هـ].
ذكر أهل العلم أن التحريف شيء ممقوت، وتركة مشؤومة ورثها المعطلة عن اليهود، وفتحوا بها بابًا واسعًا يلج منه كل ملحد للقدح في الإسلام، والطعن في أصوله العظام، قال ابن تيمية رحمه الله: «ولما فسر هؤلاء الأفولَ بالحركة، وفتحوا باب تحريف الكلم عن مواضعه، دخلت الملاحدة من هذا الباب، ففسَّر ابن سينا وأمثاله من الملاحدة الأفول بالإمكان الذي ادعوه»[1].
وقال ابن القيم رحمه الله: «ذكر الله سبحانه التحريف وذمَّه، حيث ذكره وذكر التفسير وذكر التأويل، فالتفسير هو إبانة المعنى وإيضاحه، قال الله تعالى: {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا *} [الفرقان] ، وهذا غاية الكمال أن يكون المعنى في نفسه حقًّا، والتعبير عنه أفصح تعبير وأحسنه، وهذا شأن القرآن وكلام الرسول.
والتحريف العدول بالكلام عن وجهه وصوابه إلى غيره وهو نوعان: تحريف لفظه، وتحريف معناه، والنوعان مأخوذان من الأصل عن اليهود، فهم الراسخون فيهما، وهم شيوخ المحرفين وسلفهم، فإنهم حرفوا كثيرًا من ألفاظ التوراة، وما غلبوا عن تحريف لفظه حرفوا معناه، ولهذا وصفوا بالتحريف في القرآن دون غيرهم من الأمم، ودرج على آثارهم الرافضة، فهم أشبه بهم من القذة بالقذة، والجهمية؛ فإنهم سلكوا في تحريف النصوص الواردة في الصفات مسالك إخوانهم من اليهود، ولما لم يتمكنوا من تحريف نصوص القرآن حرفوا معانيه، وسطوا عليها، وفتحوا باب التأويل لكل ملحد يكيد الدين فإنه جاء فوجد بابًا مفتوحًا وطريقًا مسلوكة، ولم يمكنهم أن يخرجوه من باب أو يردوه من طريق قد شاركوه فيها وإن كان الملحد قد وسع بابًا هم فتحوه وطريقًا هم اشتقوه»[2].
[1] مجموع الفتاوى لابن تيمية (5/550).
[2] الصواعق المرسلة (1/215 ـ 216).
1 ـ «تحريف النصوص من مآخذ أهل الأهواء في الاستدلال»، لبكر أبو زيد.
2 ـ «التحفة المهدية شرح العقيدة التدمرية»، لفالح بن مهدي.
3 ـ «التنبيهات اللطيفة على ما احتوت عليه العقيدة الواسطية من المباحث المنيفة»، للسعدي.
4 ـ «جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية»، لابن تيمية.
5 ـ «شرح العقيدة الواسطية» (ج1)، لابن عثيمين.
6 ـ «الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية المعطلة» لابن القيم (ج/1)، تحقيق: علي محمد الدخيل الله.
7 ـ «فتح رب البرية بتلخيص الحموية»، لابن عثيمين.
8 ـ «مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين» (ج1).
9 ـ «مختصر الأسئلة والأجوبة الأصولية على العقيدة الواسطية»، لعبد العزيز السلمان.
10 ـ «معتقد أهل السُّنَّة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات»، لمحمد التميمي.