حرف التاء / التحسين والتقبيح العقليان

           

قال ابن فارس: «الحاء والسين والنون أصلٌ واحد، فالحُسن ضد القُبح. يقال: رجل حَسن وامرأة حسناء... والمحاسن من الإنسان وغيره: ضد المساوئ»[1]. فالقبح نقيض الحسن، وقَبَّحه الله؛ أي: نَحّاه عن الخير[2]، والمَقْبوح: الذي يُرَدّ ويَخْسأ[3].


[1] مقاييس اللغة (2/57 ـ 58) [دار الجيل، ط1].
[2] انظر: الصحاح (1/393) [دار العلم للملايين، ط3]، مقاييس اللغة (5/47).
[3] انظر: لسان العرب (2/552) [دار صادر].


التحسين والتقبيح العقليان هما الحكم على الشيء بأنه حسن أو قبيح، وما يترتب عليه من استحقاق الثواب أو العقاب بدليل العقل.



1 ـ أن حسن الأشياء وقبحها، بمعنى استحقاق الثواب والعقاب عليها يعرف من جهة العقل، لكن لا يعاقب أحدٌ إلا بعد بلوغ الرسالة[1]. ومن الأفعال ما يكتسب صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع[2]. فلا يصح حصر معرفة الحسن والقبح بالعقل، كما أن القول بترتيب الثواب والعقاب على معرفة الحسن والقبح بالعقل وقبل ورود الشرع مخالف لنصوص الكتاب، ويلزم منه وصف الله بالظلم.
2 ـ أن نفي الحسن والقبح العقليين مطلقًا فلم يقله أحد من سلف الأمَّة ولا أئمتها؛ بل نفي ذلك من البدع التي حدثت في الإسلام[3].


[1] انظر: مجموع الفتاوى (8/309 ـ 310)، والرد على المنطقيين (421)، ودرء التعارض (8/493)، ومفتاح دار السعادة (2/7) [دار الكتب العلمية].
[2] انظر: مجموع الفتاوى (8/434 ـ 436)، والرد على المنطقيين (420 ـ 421)، ودرء التعارض (8/493).
[3] انظر: درء التعارض (9/50)، والرد على المنطقيين (421)، ومنهاج السُّنَّة (1/450).


للحُسْن والقُبْح معانٍ ثلاثة[1]:
الأول: أن الحسن هو ملاءمة الطبع، والقبح هو منافرته؛ كقولنا: إنقاذ الغريق حسن، واتهام البريء قبيح.
الثاني: أن الحسن هو الكمال، والقبح هو النقص كقولنا: العلم حسن، والجهل قبيح.
الثالث: أن الحسن هو استحقاق الثواب والمدح، والقبح استحقاق العقاب والذم.
قال القرافي رحمه الله: «والأولان عقليَّان إجماعًا»[2]، كما يمكن معرفتها بالشرع[3]، واختلفوا في المعنى الثالث؛ هل يعرف بالعقل أم بالشرع؟
ويرى ابن تيمية أن هذه المعاني ترجع لمعنى واحد، فالحسن هو الملائم والموافق للطبع، وما تلتذ به النفس من الكمال والثواب والمدح، والقبح هو المنافي للطبع وما تتألم منه النفس من النقص والذم والعقاب. يقول رحمه الله: «وتنازعوا في الحسن والقبح بمعنى كون الفعل سببًا للذم والعقاب؛ هل يعلم بالعقل أم لا يعلم إلا بالشرع؟ وكان من أسباب النزاع أنهم ظنوا أن هذا القسم مغاير للأول، وليس هذا خارجًا عنه، فليس في الوجود حسن إلا بمعنى الملائم، ولا قبيح إلا بمعنى المنافي، والمدح والثواب ملائم، والذم والعقاب مناف، فهذا نوع من الملائم والمنافي... ومن الناس من أثبت قسمًا ثالثًا للحسن والقبح وادعى الاتفاق عليه، وهو كون الفعل صفة كمال أو صفة نقص، وهذا القسم لم يذكره عامة المتقدمين المتكلمين في هذه المسألة؛ ولكن ذكره بعض المتأخرين؛ كالرازي، وأخذه عن الفلاسفة. والتحقيق أن هذا القسم لا يخالف الأول، فإن الكمال الذي يحصل للإنسان ببعض الأفعال هو يعود إلى الموافقة والمخالفة، وهو اللذة أو الألم، فالنفس تلتذ بما هو كمال لها، وتتألم بالنقص، فيعود الكمال والنقص إلى الملائم والمنافي»[4].
أما الخلاف في المعنى الثالث فهو كالآتي:
القول الأول: أن حسن الأشياء وقبحها، والثواب عليها والعقاب يعرف من جهة الشرع، وأن الفعل لا يكون حسنًا أو قبيحًا لنفسه وجنسه وصفة لازمة له؛ بل يعرف ذلك من الشرع وحده، وهو قول جماهير الأشاعرة[5]، وطائفة من المنتسبين للسُّنَّة من أصحاب الأئمة؛ مالك والشافعي وأحمد[6].
القول الثاني: أن حسن الأشياء وقبحها، والثواب عليها والعقاب يعرف من جهة العقل، وإن لم يرد سمع، وهو قول المعتزلة[7] والرَّافضة[8]، ومن وافقهم من أصحاب أبي حنيفة وغيرهم[9].
القول الثالث: أن حسن الأشياء وقبحها، بمعنى استحقاق الثواب والعقاب عليها يعرف من جهة العقل، لكن لا يعاقب أحدٌ إلا بعد بلوغ الرسالة، وهو قول أهل السُّنَّة والجماعة[10]، وجمهور الماتريديَّة[11] والكرَّاميَّة[12].
ويرى أهل السُّنَّة ومن وافقهم أن الأفعال ثلاثة أنواع[13]:
أحدها: أن يكون الفعل مشتملاً على مصلحة أو مفسدة ولو لم يرد الشرع بذلك، كما يعلم أن العدل مشتمل على مصلحة العالم، والظلم يشتمل على فسادهم؛ لكن لا يلزم من حصول هذا القبح أن يكون فاعله معاقبًا في الآخرة إذا لم يرد شرع بذلك.
النوع الثاني: أن الشارع إذا أمر بشيء صار حسنًا، وإذا نهى عن شيء صار قبيحًا، واكتسب الفعل صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع.
والنوع الثالث: أن يأمر الشارع بشيء ليمتحن العبد هل يطيعه أم يعصيه، ولا يكون المراد فعل المأمور به، كما أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه.


[1] انظر: الذخيرة للقرافي (1/71) [دار الغرب، 1994م]، ومجموع الفتاوى (8/309 ـ 310) .
[2] الذخيرة للقرافي (1/71).
[3] انظر: مجموع الفتاوى (8/90).
[4] مجموع الفتاوى (8/309 ـ 310).
[5] انظر: الإرشاد (258) [مكتبة الخانجي، 1396هـ]، والإحكام للآمدي (1/119 ـ 126) [دار الكتاب العربي، ط1]، والمواقف للإيجي (323) [عالم الكتب]، وشرح المقاصد (4/282) [عالم الكتب، ط1، 1409هـ].
[6] انظر: درء التعارض (8/493)، ومجموع الفتاوى (8/90).
[7] انظر: المغني للقاضي عبد الجبار (14/7، 151 ـ 173) [الدار المصرية، 1385هـ]، وشرح الأصول الخمسة (565) [مكتبة وهبة، ط2، 1408هـ].
[8] انظر: أصول الفقه لمحمد رضا الشيعي (2/122).
[9] انظر: درء التعارض (8/493)، ومجموع الفتاوى (8/90).
[10] انظر: مجموع الفتاوى (8/309 ـ 310)، والرد على المنطقيين (421)، ودرء التعارض (8/493)، ومفتاح دار السعادة (2/7).
[11] انظر: الماتريدية دراسة وتقويمًا (151 ـ 154) [دار العاصمة، ط1، 1413هـ].
[12] انظر: الملل والنحل (1/113) [دار المعرفة].
[13] انظر: مجموع الفتاوى (8/434 ـ 436)، والرد على المنطقيين (420 ـ 421)، ودرء التعارض (8/493).


أدلة أهل السُّنَّة في إثبات الحسن والقبح العقليين:
استدلوا بأدلة نقلية وعقلية؛ منها:
ـ قوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ *} [الأعراف] ، فقد أخبر الله عن نفسه في سياق الإنكار عليهم أنه لا يأمر بالفحشاء، فدل ذلك على أنه منزه عنه، فلو كان جائزًا عليه لم يتنزه عنه فعلم أنه لا يجوز عليه الأمر بالفحشاء، وذلك لا يكون إلا إذا كان الفعل في نفسه سيئًا وقبيحًا[1].
ـ وقوله سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وسَاءَ سَبِيلاً *} [الإسراء] . فقد علل سبحانه وتعالى النهي عنه بما اشتمل عليه من أنه فاحشة وأنه ساء سبيلاً، فلو كان إنما صار فاحشة وساء سبيلاً بالنهي لما صح ذلك؛ لأن العلة تسبق المعلول لا تتبعه[2].
وأن من أنكر أن يكون للفعل صفات ذاتية لم يحسن إلا لتعلق الأمر به، وأن الأحكام بمجرد نسبة الخطاب إلى الفعل فقط، فقد أنكر ما جاءت به الشرائع من جلب المصالح ودرء المفاسد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما في الشريعة من المناسبات بين الأحكام وعلـلها، وأنكر خاصةً الفقه في الدين الذي هو معرفة حكمة الشريعة ومقاصدها ومحاسنها[3].
وأنَّ نفي الحسن والقبح العقليين مطلقًا لم يقله أحد من سلف الأمَّة ولا أئمتها، وهذا يؤخذ من كلام الأئمَّة والسلف في تعليل الأحكام، وبيان حكمة الله في خلقه وأمره، فنفي ذلك من البدع التي حدثت في الإسلام[4].


[1] انظر: مجموع الفتاوى (15/8)، ومفتاح دار السعادة (2/9 ـ 10).
[2] انظر: مجموع الفتاوى (15/8 ـ 9)، ومفتاح دار السعادة (2/7).
[3] انظر: مجموع الفتاوى (11/354)، ومفتاح دار السعادة (2/2).
[4] انظر: الرد على المنطقيين (421)، ومنهاج السُّنَّة (1/450)، ودرء التعارض (9/50).


قال ابن تيمية رحمه الله: «أن الفعل تارة يكون حسنه من جهة نفسه، وتارة من جهة الأمر به، وتارة من الجهتين جميعًا. ومن أنكر أن يكون للفعل صفات ذاتية لم يحسن إلا لتعلق الأمر به، وأن الأحكام بمجرد نسبة الخطاب إلى الفعل فقط، فقد أنكر ما جاءت به الشرائع من المصالح والمفاسد، والمعروف والمنكر، وما في الشريعة من المناسبات بين الأحكام وعللها، وأنكر خاصة الفقه في الدين، الذي هو معرفة حكمة الشريعة ومقاصدها ومحاسنه»[1].
وقال ابن القيم رحمه الله: «كل من تكلم في علل الشرع ومحاسنه، وما تضمنه من المصالح ودرء المفاسد، فلا يمكنه ذلك إلا بتقرير الحسن والقبح العقليين، إذ لو كان حسنه وقبحه بمجرد الأمر والنهي؛ لم يتعرض في إثبات ذلك لغير الأمر والنهي فقط»[2].


[1] مجموع الفتاوى (11/354).
[2] مفتاح دار السعادة (2/42).


ـ الإيجاب والتحريم العقليان:
«الإيجاب والتحريم طلب للفعل والترك على سبيل الاستعلاء»[1]، وهل يعرف بالعقل أم بالشرع؟ فيه خلاف مبني على الخلاف في التحسين والتقبيح العقليين، والأقوال فيه ثلاثة:
القول الأول: المعتزلة قالوا: يجب على العبد عقلاً بعض الأفعال الحسنة، ويحرم عليه القبيح، ويستحق الثواب والعقاب على ذلك، وأنه يجب على الرب سبحانه وتعالى فعل الحسن ورعاية الصلاح والأصلح، ويحرم عليه فعل القبيح والشر وما لا فائدة فيه كالعبث، ووضعوا بعقولهم شريعة أوجبوا بها على الرب سبحانه وتعالى وحرموا عليه، وشبهوه بخلقه في أفعاله بحيث ما حسن منهم حسن منه، وما قبح منهم قبح منه.
القول الثاني: الأشاعرة جوَّزوا عليه سبحانه وتعالى ما يتعالى ويتنزه عنه لمنافاته حكمته وكماله، ونفوا ما أوجبه وحرمه على نفسه، ونفوا حكمته، فهم يرون أن الحسن والقبح راجع للأمر والنهي والإرادة، وليس لصفات في الفعل.
القول الثالث: أهل السُّنَّة أثبتوا له سبحانه وتعالى ما أثبته لنفسه من الإيجاب، والتحريم الذي هو مقتضى أسمائه وصفاته، الذي لا يليق به نسبته إلى ضده؛ لأنه موجب كماله وحكمته وعدله، ولم تدخله تحت شريعة وضعتها بعقولها، كما فعل المعتزلة، ولم تجوِّز عليه ما نزه نفسه عنه كما فعلت الأشاعرة، وأن العقل يعرف الحسن والقبيح، لكن ترتيب الثواب والعقاب بعد بلاغ الرسل[2].


[1] مفتاح دار السعادة (2/52).
[2] انظر: مفتاح دار السعادة (2/52 ـ 61)، ولوامع الأنوار البهية (1/287 ـ 288) [مؤسسة الخافقين، ط2].


أولاً: مذهب الأشاعرة في التحسين والتقبيح:
نفى الأشاعرة الحسن والقبح العقليين، واستدلوا لنفي التحسين والتقبيح العقليين بقوله سبحانه وتعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً *} [الإسراء] ونحوها[1].
وقد أجاب أهل السُّنَّة بأن هذه الآية ونحوها لا تنفي اشتمال الأفعال على الصفات الحسنة والسيئة، ولكنها تنفي العذاب قبل بعثة الرسل، وهذا مسلّم، فالأفعال متصفة بصفات حسنة وسيئة تقتضي الحمد والذم، ولكن لا يعاقَب أحدٌ إلا بعد بلوغ الرسالة[2].
كما استدلوا بأدلة عقلية[3]، وقد أجاب عنها أهل السُّنَّة[4].
ثانيًا: قول المعتزلة في إيجاب الثواب العقاب بالعقل وإن لم يرد سمع. وقد رد عليهم أهل السُّنَّة بما يلي:
1 ـ النصوص الكثيرة في القرآن التي تدل على أن الله لا يعذب أحدًا إلا بعد بلوغ الرسالة؛ كقوله سبحانه وتعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً *} [الإسراء] ، وغير ذلك من الآيات التي تؤكِّد هذا المعنى[5].
2 ـ أن الله تعالى قد أخبر في غير موضع أنه لا يكلف نفسًا إلا وسعها؛ كقوله سبحانه وتعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ، فهذه الآية وأمثالها تدلُّ على أن المكلف لا يؤاخذ بما فعله أو تركه مما لم ينه عنه الشرع، أو لم يأمر به؛ لأنَّه خارج عن قدرته واستطاعته[6].
3 ـ أن مؤاخذة وتعذيب من لم يأت إليه شرع ظلم، والله سبحانه وتعالى نزَّه نفسه عن الظلم في مواضع كثيرة من القرآن[7].
فهذه بعض أدلة أهل السُّنَّة والجماعة في إثبات التحسين والتقبيح العقليين دون ترتيب الثواب والعقاب عليهما.


[1] انظر: شرح المقاصد (4/284).
[2] انظر: درء التعارض (8/493)، ومجموع الفتاوى (19/215)، ومفتاح دار السعادة (2/39).
[3] انظر: شرح المقاصد (4/284)، والإحكام (1/123).
[4] انظر: مفتاح دار السعادة (2/24 ـ 26).
[5] انظر: مجموع الفتاوى (8/435) (19/215)، ودرء التعارض (8/493)، ومفتاح دار السعادة (2/39).
[6] انظر: مجموع الفتاوى (19/216 ـ 217).
[7] انظر: مجموع الفتاوى (19/215 ـ 216).


1 ـ «التحسين والتقبيح العقليان وأثرهما في مسائل أصول الفقه»، لعايض الشهراني.
2 ـ «التحسين والتقبيح وجذوره في ضوء عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة»، لعلي الزهراني.
3 ـ «الحكمة والتعليل في أفعال الله»، لمحمد المدخلي.
4 ـ «درء التعارض» (ج8، 9)، لابن تيمية.
5 ـ «الرد على المنطقيين»، لابن تيمية.
6 ـ «مجموع الفتاوى» (19)، لابن تيمية.
7 ـ «مفتاح دار السعادة» (ج2)، لابن القيم.



8 ـ «درء القول القبيح في التحسين والتقبيح»، للطوفي.