الإحسان مصدر للفعل: أحسَنَ، وهو مشتقّ من الحُسْن، والحُسْن ضِدُّ القبح، والإحسان هو الإفضال، والإتيان بما هو حسن، وهو ضد الإساءة.
والإحسان يتعدى بإلى، وباللام، تقول: أحسنت إلى فلان، وأحسنت لفلان، إذا أوصلت إليه النفع، وأنعمت عليه، كما يتعدى الإحسان بالباء، ومنه قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف] ؛ أي: أحسن إلي.
والإحسان قد يكون إلى الغير، وإلى النفس؛ فعلى الأول تكون الهمزة في (أحسن) للتعدية، وعلى الثاني تكون الهمزة للصيرورة، يقال: أحسن الرجل؛ إذا صار حسنًا أو دخل في شيء حسن[1].
[1] انظر: مقاييس اللغة (2/57) و(4/508) [دار الجيل، ط2، 1420هـ]، والصحاح (5/2099) [دار العلم للملايين، ط4، 1990م]، ولسان العرب (13/114) [دار صادر، ط1]، وتاج العروس (18/142) [دار الهداية]، والكليات (53) [مؤسسة الرسالة، 1419هـ].
الإحسان جاء تعريفه في حديث جبريل عليه السلام، وهو: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»[1].
والإحسان ضد الإساءة، وهو فعل الحسن، سواء كان لازمًا لصاحبه، أو متعديًا إلى الغير[2].
والإحسان هو فعل المعروف، والإتقان فيه، وصنع الجميل للنفس أو للغير[3].
العلاقة بين المعنى اللغوي والشرعي:
العلاقة بين المعنى اللغوي والشرعي بيِّنة، وذلك أن المعاني الشرعية للإحسان ـ من الإحسان في عبادة الله، والإحسان للنفس وللغير ـ هي الإتيانُ بما هو حسن في حق من يتوجه له الإحسان، وهي بخلاف معنى القبح، كما إن الإحسان إلى الغير هو إفضال يوجهه المرء لغيره.
[1] أخرجه البخاري (كتاب الإيمان، رقم 50)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 9)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه مسلم أيضًا (كتاب الإيمان، رقم 8)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[2] مجموع الفتاوى (30/364) [مكتبة ابن تيمية، ط2].
[3] انظر: المفردات (118 ـ 119) [دار المعرفة]، والكليات (53)، والإحسان في ضوء الكتاب والسُّنَّة (1/20).
لقد جاء الأمر بالإحسان في كتاب الله وسُنَّة نبيِّه صلّى الله عليه وسلّم، وسيأتي ذكر الأدلة على ذلك.
والإحسان في حكمه على درجات ومراتب:
أ ـ فمن الإحسان ما لا يصح الإيمان إلا به؛ كالإيمان بالله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.
ب ـ ومن الإحسان ما يكون واجبًا، يأثم تاركه ولا يكفر، ويندرج فيه:
ـ الإحسان بأداء العبادات الواجبة ـ سوى ما تقدم ـ كإحسان الظن بالله، وبر الوالدين، والإحسان في الذبح فيما جاز ذبحه، وإحسان الوضوء والصلاة، وعامّة الطاعات الواجبة داخلة في ذلك.
ـ ومن الإحسان الواجب: أن يأتي بهذه الواجبات على وجه الكمال الواجب.
ـ ومن الإحسان الواجب: الإحسان في ترك المحرمات، بالانتهاء عنها، وترك ظاهرها وباطنها، كما قال تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام: 120] ، فهذا القدر من الإحسان فيها واجب.
ـ ومن الإحسان الواجب في معاملة الخلق ومعاشرتهم: القيام بما أوجب الله من حقوق ذلك كُلِّه.
ج ـ ومن الإحسان ما يكون من المستحبات، التي يثاب فاعلها امتثالاً، ولا يستحق العقاب تاركها؛ كصدقة التطوع، ونحوها.
ومن الإحسان المستحب: الإتيان بالواجبات على وجه الكمال المستحب[1].
«والإحسان المأمور به ما يمكن اجتماعه مع العدل، فأما ما يرفع العدل فذاك ظلم، وإن كان فيه نفع لشخص، مثل نفع أحد الشريكين إعطاءً أكثر من حقه، ونفع أحد الخصمين بالمحاباة له، فإن هذا ظلم، وإن كان فيه نفعٌ قد يُسمى إحسانًا»[2].
[1] انظر: الجواب الصحيح لابن تيمية (6/21) [مطبعة المدني]، وجامع المسائل له (6/35 ـ 38) [دار عالم الفوائد، ط1]، وجامع العلوم والحكم (1/151 ـ 152)، والإحسان في ضوء الكتاب والسُّنَّة (1/110).
[2] جامع المسائل لابن تيمية (6/38).
لقد بيَّن النبي صلّى الله عليه وسلّم حقيقة الإحسان حين سأله جبريل عليه السلام عنه، فقال: «الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك»[1].
فقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أن تعبد الله كأنك تراه» : «يشير إلى أن العبد يعبد الله تعالى على هذه الصفة، وهو استحضار قربه، وأنه بين يديه كأنه يراه، وذلك يوجب الخشية والخوف والهيبة والتعظيم... ويوجب أيضًا النصح في العبادة، وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها»[2].
فالإحسان في حق الله، هو أن يعبد المؤمن ربه في الدنيا على وجه الحضور والمراقبة، حتى يغلب عليه مشاهدة الله بقلبه كأنه يراه بعينه، وهذا يقتضي تمام الإتقان والإخلاص والمتابعة والخشية والتعظيم، مع النصح في العبادة، وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها[3].
فالإحسان في عبادة الله يتضمن أمرين:
« أحدهما: مقام الإخلاص، وهو أن يعمل العبد على استحضار مشاهدة الله إياه، واطلاعه وقربه منه، فإذا استحضر العبد هذا في عمله وعمل عليه فهو مخلص لله تعالى؛ لأن استحضاره ذلك في عمله يمنعه من الالتفات إلى غير الله وإرادته بالعمل.
والثاني: مقام المشاهدة، وهو أن يعمل العبد على مقتضى مشاهدته لله تعالى بقلبه، وهو أن يتنور القلب بالإيمان، وتنفذ البصيرة في العرفان، حتى يصير الغيب كالعيان.
وهذا هو حقيقة مقام الإحسان المشار إليه في حديث جبريل عليه السلام، ويتفاوت أهل هذه المقامات فيه بحسب قوة نفوذ البصائر»[4].
ومن الإحسان المشروع الإحسان إلى الخلق، كبِرِّ الوالدين، وصلة الرحم، وإكرام الضيف، والإحسان إلى الجار.
وأعلى منازل الإحسان إلى الخلق «هو أن يقابل إساءة المسيء إليه بالإحسان، فيحسن إليه كلما أساء هو إليه، ويهون هذا عليه: علمه بأنه قد ربح عليه، وأنه قد أهدى إليه حسناته ومحاها من صحيفته، وأثبتها في صحيفة من أساء إليه، فينبغي لك أن تشكره وتحسن إليه بما لا نسبة له إلى ما أحسن به إليك»[5].
ومن الإحسان في ولاية الخلق وسياستهم: القيام بواجبات الولاية كلها، والقدر الزائد على الواجب في ذلك كله إحسان ليس بواجب.
ومن ذلك: الإحسان في قتل ما يجوز قتله من الناس والدواب، بإزهاق نفسه على أسرع الوجوه وأسهلها وأرجاها، من غير زيادة في التعذيب، فإنه إيلام لا حاجة إليه[6].
[1] تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
[2] جامع العلوم والحكم (1/35).
[3] انظر: جامع المسائل لابن تيمية (4/49)، والاستقامة لابن تيمية (2/308) [طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط1، 1403هـ]، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (7/622)، وجامع العلوم والحكم (1/35 ـ 36)، وفتح الباري لابن حجر (1/121)، والإحسان في ضوء الكتاب والسُّنَّة (1/126).
[4] جامع العلوم والحكم (1/35)، وانظر: معارج القبول (3/999).
[5] مدارج السالكين (2/320).
[6] انظر: جامع العلوم والحكم (1/152).
مرتبة الإحسان هي أسمى مراتب الدين وأكملها، فهو غاية مراد العابدين، ومنتهى آمال المتَّقين، وأهله أشرف خلق الله أجمعين.
فهو أعلى مراتب الدين الثلاث، والتي جاء ذكرها في حديث جبريل عليه السلام، وهي: الإسلام، وأعلى منه: الإيمان، وأعلى منه: الإحسان.
والمرتبتان اللتان قبله داخلتان فيه، فكل محسن فإنه مسلم مؤمن، وليس كل مسلم محسنًا، ولا كل مؤمن محسنًا، فالإحسان أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أصحابه[1].
يقول العلامة ابن القيم مبيِّنًا أهمية منزلة الإحسان من بين منازل السائرين إلى الله: «ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين: منزلة الإحسان. وهي لُبُّ الإيمان وروحه وكماله، وهذه المنزلة تجمع جميع المنازل، فجميعها منطوية فيها، وكل ما قيل من أول الكتاب إلى ههنا فهو من الإحسان»[2].
«ومشهد الإحسان أصلُ أعمال القلوب كُلِّها، فإنه يوجب الحياء والإجلال والتعظيم والخشية والمحبة والإنابة والتوكل والخضوع لله سبحانه والذل له»[3].
ولما كان الإحسان أعلى مراتب الدين، وصف الله به صفوة خلقه، وأفضل رسله، فقال عن نبيِّه نوح عليه السلام: {سَلاَمٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ *إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *} [الصافات] . وقال عن نبيِّه إبراهيم عليه السلام: {سَلاَمٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ *كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *} [الصافات] . وقال عن موسى وهارون عليه السلام: {سَلاَمٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ *إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *} [الصافات] . وقال عن خاتم رسله محمد صلّى الله عليه وسلّم: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ *لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ *} [الزمر] ، ويدخل في هذه الآية كلّ من دعا إلى توحيد الله، وتصديق رسله، والعمل بما ابتعث به رسوله من بين رسل الله وأتباعه والمؤمنين به[4].
كما أن الإحسان إلى الخلق وبذل المعروف لهم صفة من صفات الأنبياء، كما قال صاحبا السجن لنبي الله يوسف عليه السلام: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ *} [يوسف] .
وقد غفر الله للمرأة البغي التي أسقت كلبًا في يوم حارٍّ وهو يطوف بالبئر[5]، فالإحسان إلى الناس أعظم منزلة، وأعلى قدرًا.
[1] انظر: الإيمان الكبير لابن تيمية، ضمن مجموع الفتاوى (7/7 ـ 10، 117).
[2] مدارج السالكين (2/459) [دار الكتاب العربي، ط2، 1393هـ]، وقد ذكر ابن القيم قبل منزلة الإحسان اثنتين وخمسين منزلة.
[3] رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه (44) [دار عالم الفوائد، ط1].
[4] انظر: تفسير الطبري (21/289 ـ 291) [مؤسسة الرسالة، تحقيق: أحمد شاكر، ط1، 1420هـ].
[5] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3467)، ومسلم (كتاب السلام، رقم 2245).
أهمية منزلة الإحسان تتبين من خلال الأمور التالية:
1 ـ أنه أعلى مراتب الدين الثلاث، كما تقدم، وأصحابه أحسن الناس ديانة، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النساء: 125] .
2 ـ محبة الله للمحسنين، قال تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ *} [البقرة] .
3 ـ الإحسان صفة من صفات الأنبياء عليهم السلام وقد تقدمت أدلة ذلك.
4 ـ أن الكافر في الآخرة يتمنى أن يكون في الدنيا ليكون من أهل الإحسان، قال تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ *أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ *أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ *أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ *} [الزمر] .
5 ـ عظم عناية القرآن والسُّنَّة بالإحسان، فقد تكررت لفظة الإحسان وما يتصرف بها في مواضع كثيرة جدًّا يصعب حصرها[1].
[1] انظر: الإحسان في ضوء الكتاب والسُّنَّة (1/103 ـ 107).
1 ـ قال تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ *} [البقرة] .
2 ـ وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: 90] .
3 ـ وقال تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ *} [الزمر] .
4 ـ وعن عمر رضي الله عنه؛ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك»[1].
5 ـ وعن شدّاد بن أوسٍ رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الله كتب الإحسان على كل شيءٍ، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبح، وليُحدّ أحدكم شفرته فليرح ذبيحته»[2].
[1] تقدم تخريجه قريبًا.
[2] أخرجه مسلم (كتاب الصّيد والذّبائح وما يؤكل من الحيوان، رقم 1955).
عن عبيد الله بن عديّ بن خيار: أنّه دخل على عثمان بن عفّان رضي الله عنه وهو محصور فقال: «إنّك إمام عامّة، ونزل بك ما نرى، ويصلّي لنا إمام فتنة ونتحرّج. فقال عثمان: «الصّلاة أحسن ما يعمل النّاس، فإذا أحسن النّاس فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم»[1].
وقال سفيان الثوري رحمه الله: «الإحسان أن تحسن إلى المسيء، فإن الإحسان إلى المحسن تجارة»[2].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «والعمل الصالح هو الإحسان، وهو فعل الحسنات، وهو ما أمر الله به، والذي أمر الله به هو الذي شرعه الله، وهو الموافق لكتاب الله وسُنَّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فقد أخبر الله تعالى أنه من أخلص قصده لله وكان محسنًا في عمله فإنه مستحق للثواب، سالم من العقاب»[3].
[1] أخرجه البخاري (كتاب الأذان، رقم 695) معلقًا.
[2] تفسير البغوي (1/275) [دار طيبة، ط4، 1417هـ]
[3] الاستقامة (2/308).
الإحسان على أقسام ثلاثة:
الأول: الإحسان في عبادة الله تعالى، وهو ما تقدم بيانه في حديث جبريل عليه السلام: «أن تعبد الله كأنك تراه...» . وهو عام لجميع ما يقوم به الإنسان من عبادات ظاهرة وباطنة.
الثاني: إحسان الإنسان مع نفسه، وذلك بتطهيرها وتزكيتها من أمراض الظاهر والباطن، وتحليتها بالعبادات القلبية واللسانية والعملية. والإحسان إلى النفس يتضمن إخلاص العبادة وكمال الطّاعة، قال تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَِنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7]
الثالث: الإحسان مع الخلق، ويكون بفعل ما أوجب لهم من الإحسان، وترك ما لا يجوز من الإساءة. والإحسان إلى الخلق مراتب وأنواع، ومنها:
ـ الإحسان إلى الوالدين، وهو أعلاها قدرًا وأوجبها، ولذا قرن الله حق الوالدين بحقه فقال آمرًا بالإحسان إليهما: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء: 23] .
ـ الإحسان للأقارب والفقراء والجيران، وقول الحسنى للناس جميعًا، قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة: 83] .
ـ الإحسان في حق الحيوان.
ـ الإحسان في كل شيء، كما جاء في قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة»[1].
وهذه الأقسام الثلاثة للإحسان (في حق الله، وفي حق النفس، وفي حق الخلق) غير متمايزة، بل متداخلة أو متلازمة، فمن أحسن في عبادته لله فهو محسن لنفسه، ومن أحسن إلى الناس فهو محسن لنفسه أيضًا[2].
[1] تقدم تخريجه قريبًا.
[2] مجموع الفتاوى لابن تيمية (30/365).
المسألة الأولى: الإحسان يزيد وينقص:
لمّا كانت منزلة الإحسان متضمنة للإيمان والإسلام، ولمّا كان الإيمان يزيد وينقص كما دلَّت على ذلك النصوص، والإسلام كذلك، ويتفاضل أهلهما فيهما تفاضلاً كبيرًا، علم بالضرورة أن الإحسان كذلك يتفاضل ويزيد وينقص.
قال ابن رجب رحمه الله ـ بعدما ذكر مقامي الإحسان، وهما الإخلاص والمشاهدة ـ: «ويتفاوت أهل هذه المقامات فيه بحسب قوة نفوذ البصائر»[1].
المسألة الثانية: المراد بالحسنى:
الحسنى في اللغة: تأنيث الأحسن يقال: الاسم الأحسن، والأسماء الحسنى[2]، وليست جمعًا لـ(الحسن)، فهي اسم تفضيل معرَّف باللام، وذلك يدل على ما بلغ في الحسن غايته وكماله ومنتهاه، فكان حسنًا تام الحسن[3]. قال شيخ الإسلام: «الحسنى: هي المفضلة على الحسنة، والواحد: الأحاسن»[4].
وقد وردت كلمة الحسنى في كتاب الله عزّ وجل في عدة مواضع، وتعدد المراد بها بحسب مواضعها. فمن معاني الحسنى في كتاب الله عزّ وجل:
1 ـ الحسنى بمعنى العليا[5]، كما في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180] ، وذلك أن «أسماءه سبحانه وتعالى كلها أسماء مدح وثناء وتمجيد، ولذلك كانت حسنى»[6].
2 ـ الحسنى بمعنى الجنة، وذلك في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] ، فالحسنى هنا بمعنى الجنة، والزيادة هي رؤية المؤمنين وجه الله تعالى في الجنة، وهذا ما عليه جماهير المفسرين[7]. وكذا في قوله: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى} [الرعد: 18] [8].
المسألة الثالثة: معنى قول الله تعالى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ *} [الأعراف] :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وقوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ *} له دلالة بمنطوقه ودلالة بإيمائه وتعليله بمفهومه؛ فدلالته بمنطوقه على قرب الرحمة من أهل الإحسان، ودلالته بإيمائه وتعليله على أن هذا القرب مستحق بالإحسان، وهو السبب في قرب الرحمة منهم، ودلالته بمفهومه على بعده من غير المحسنين. فهذه ثلاث دلالات لهذه الجملة. وإنما اختص أهل الإحسان بقرب الرحمة لأنها إحسان من الله عزّ وجل أرحم الراحمين، وإحسانه تبارك وتعالى إنما يكون لأهل الإحسان؛ لأن الجزاء من جنس العمل، وكلما أحسنوا بأعمالهم أحسن إليهم برحمته، وأما من لم يكن من أهل الإحسان فإنه لما بعد عن الإحسان بعدت عنه الرحمة، بعد ببعد وقرب بقرب، فمن تقرب إليه بالإحسان تقرب الله إليه برحمته، ومن تباعد عن الإحسان تباعد الله عنه برحمته»[9].
المسألة الرابعة: ما الأفضل؛ العدل بين الناس، أم الإحسان إليهم؟
لا تخلو المسألة من حالتين:
الأولى: في حكم الحاكم بين الناس غيره، والقسم بينهم. فالعدل بين الناس هو المتعين، وهو الأفضل، فلا يحسن لأحدهم دون أحد، بل العدل بينهم هو تحقيق للإحسان إليهم جميعًا.
الثانية: فيما بين الإنسان وبين خصمه، في الدم والمال والعرض. فإن الاستيفاء عدل، والعفو إحسان، والإحسان هنا أفضل. ويدخل في قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ *} [الأعراف] .
ومن هذا القسم:
لكن هذا الإحسان لا يكون إحسانًا إلا بعد العدل، وهو أن لا يحصل بالعفو ضرر، فإذا حصل منه ضرر، كان ظلمًا من العافي، إما لنفسه، وإما لغيره، فلا يشرع.
فالعدل واجب في جميع الأمور، والإحسان قد يكون واجبًا، وقد يكون مستحبًّا.
ومن العدل الواجب: أن الظالم لا يجوز أن يظلم، بل لا يعتدى عليه إلا بقدر ظلمه، كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ *} [البقرة] ، وقال: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ، وقال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا} [البقرة: 190] .
وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله كتبَ الإحسانَ على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسِنوا القِتلةَ، وإذا ذَبحتم فأحسِنوا الذِّبحةَ» [10]. فتبيَّن أن الإحسان واجب حتى في القتل المستحق بإحسان القتلة والذبحة[11].
[1] جامع العلوم والحكم (1/35).
[2] تهذيب اللغة. [دار إحياء التراث العربي ط1].
[3] انظر: العواصم والقواصم لابن الوزير (7/228) [مؤسسة الرسالة، ط3، 1415هـ]، والقواعد المثلى لابن عثيمين ضمن مجموع فتاواه (3/269) [دار الوطن، ط1، 1407هـ]، وفقه الأسماء الحسنى لعبد الرزاق البدر (29) [دار التوحيد، ط1، 1429هـ]، ومعتقد أهل السُّنَّة في أسماء الله الحسنى لمحمد خليفة التميمي (396) [دار إيلاف، ط1، 1417هـ].
[4] مجموع الفتاوى (6/141).
[5] انظر: تفسير البحر المحيط (4/429) [دار الفكر، ط2، 1403هـ].
[6] مدارج السالكين (1/125).
[7] انظر: تفسير الطبري (15/62)، وتفسير ابن كثير (4/263).
[8] انظر: تفسير الطبري (16/416)، وتفسير البغوي (4/309).
[9] مجموع الفتاوى (15/27).
[10] تقدم تخريجه قريبًا.
[11] انظر: جامع المسائل لابن تيمية (6/38 ـ 40).
الفرق بين الإحسان والإنعام:
الفرق بين الإحسان والإنعام: أن الإحسان يكون لنفس الإنسان ولغيره، تقول: أحسنت إلى نفسي، والإنعام لا يكون إلا لغيره، فالإحسان أعم من الإنعام[1].
الفرق بين العدل والإحسان:
العدل هو أن يعطي ما عليه ويأخذ ما له. والإحسان هو أن يعطي أكثر مما عليه ويأخذ أقل مما له. فالعدل إنصاف، والإحسان تفضل، فالإحسان زائد على العدل.
وتحري العدل واجب، وتحري الإحسان ندب وتطوع[2].
[1] انظر: المفردات للراغب (119)، لسان العرب (13/117).
[2] انظر: المفردات للراغب (119)، والكليات (640).
لمّا كانت منزلة الإحسان أعلى منازل الدين، ولمّا كانت المنازل التي قبلها (الإسلام والإيمان) داخلة فيها، كانت كل ثمرة ترتبت على أمر من أمور الدين وشرائعه مندرجة تحت ثمرات الإحسان، ولهذا جاءت النصوص ببيان عظم أجر الإحسان، وتعليق أعظم الأجور وأوفر الجزاء لأصحابه، فمما جاء في ذلك[1]:
1 ـ ثبوت محبة الله لأهله، قال تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ *} [البقرة] .
2 ـ ثبوت معية الله للمحسنين، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقُوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ *} [النحل] .
3 ـ قرب رحمة الله من المحسنين، قال تعالى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ *} [الأعراف] .
4 ـ مضاعفة الأجر للمحسنين. فعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب بمثلها حتى يلقى الله»[2].
5 ـ الفوز بالجنة والخلود فيها، قال تعالى: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ *} [المائدة] .
6 ـ النظر إلى وجه الله في الجنة، وذلك أعلى النعيم فيها، قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] . وقد ثبت في «صحيح مسلم» عن النبي صلّى الله عليه وسلّم تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله تعالى في الجنة[3]، وهذا مناسب لجعله جزاء لأهل الإحسان، ولأن الإحسان هو أن يعبد المؤمن ربه في الدنيا على وجه الحضور والمراقبة كأنه يراه بقلبه، وينظر إليه في حال عبادته، فكان جزاء ذلك النظر إلى وجه الله عيانًا في الآخرة[4].
[1] انظر: نضرة النعيم في محاسن أخلاق الرسول الكريم (2/90)، الإحسان في ضوء الكتاب والسُّنَّة (1/114) و(2/837 ـ 853).
[2] أخرجه البخاري (كتاب الإيمان، رقم 42)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 129).
[3] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 298).
[4] جامع العلوم والحكم (1/35)، وانظر: معارج القبول (3/1001).
1 ـ «الإحسان في ضوء الكتاب والسُّنَّة»، لأحمد الغامدي، [رسالة دكتوراه].
2 ـ «الاستقامة»، لابن تيمية.
3 ـ «الإيمان الكبير»، ضمن مجموع الفتاوى لابن تيمية.
4 ـ «جامع العلوم والحكم»، لابن رجب.
5 ـ «جامع المسائل»، لابن تيمية.
6 ـ «رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه».
7 ـ «طريق الهجرتين وباب السعادتين»، لابن القيم.
8 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.
9 ـ «مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين»، لابن القيم.
10 ـ «معارج القبول»، لحافظ الحكمي.
11 ـ «موسوعة نضرة النعيم في محاسن أخلاق الرسول الكريم»، لمجموعة من المؤلفين.