حرف التاء / التردد

           

التردد: من الرد، وأصله المطرد المنقاس: الرجوع، ومنه يقال: ترددت إلى فلان؛ أي: رجعت إليه مرة بعد أخرى، ويقال: تردد في الأمر: إذا اشتبه عليه فلم يجزم به[1]. وقال ابن تيمية رحمه الله: «التردد: تعارض إرادتين»[2]، هذا المعنى هو الأنسب هنا.


[1] انظر: مقاييس اللغة (1/460 ـ 461) [دار الكتب العلمية]، والصحاح (3/473) [دار العلم للملايين]، والمصباح المنير (187)، والمعجم الوسيط (338) [مكتبة الشروق الدولية، ط4].
[2] مجموع الفتاوى (10/58) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف].


تردد الله سبحانه وتعالى في قبض روح المؤمن صفة فعلية خبرية ثابتة لله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه يريد قبض روح المؤمن عند حلول أجله ولكنه تعالى في الوقت نفسه يكره إساءته بقبض روحه إليه، والتردد المنسوب إليه لا يشابه تردد المخلوقين؛ بل هو كما يليق بجلاله وعظمته[1].


[1] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (10/58 ـ 59)، ومجموع فتاوى ومقالات متنوعة للشيخ ابن بار (9/417) [رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء، ط2، 1421هـ]، وصفات الله سبحانه وتعالى الواردة في الكتاب والسُّنَّة (71) [دار الهجرة].


التردد هو تعارض إرادتين، والله سبحانه وتعالى من أجل محبته لعبده المؤمن الصالح لا يريد أن يسوءه بقبض روحه إليه، ولكن من أجل انتهاء وقته ونزول موته يريد أن يتوفاه ويقبضه إليه، فهو سبحانه يتردد بين هاتين الإرادتين عند قبض روح عبده المؤمن.



يجب الإيمان بهذه الصفة لدلالة الحديث النبوي عليها، ويجب إثباتها لله تعالى كما يليق بجلاله وكبريائه وعظمته سبحانه، على الوجه الوارد في الحديث، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل[1].


[1] انظر: التدمرية (7) [مكتبة العبيكان، ط8]، ومجموع فتاوى ومقالات متنوعة للشيخ ابن بار (9/417)، والعقيدة الواسطية مع شرحها لابن عثيمين (56 ـ 92) [دار الثريا، الرياض، ط2، 1426هـ].


إن الله سبحانه وتعالى يريد قبض روح المؤمن الصالح عند نزول موته وحلول أجله وانقضاء أمده، ولكنه سبحانه وتعالى في الوقت نفسه لا يريد أن يسوءه بقبض روحه لمحبته له، فهذا هو التردد المضاف إلى الله سبحانه وتعالى في قبض روح المؤمن[1].


[1] انظر: مجموع الفتاوى (10/58 ـ 59)، ولقاءات الباب المفتوح لابن عثيمين (3/285 ـ 286، اللقاء 59، رقم السؤال: 1367) [دار البصيرة، الإسكندرية].


عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله قال: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن؛ يكره الموت وأنا أكره مساءته» [1].


[1] أخرجه البخاري (كتاب الرقاق، رقم 6502).


قال ابن تيمية رحمه الله: «بيَّن سبحانه أنه يتردد؛ لأن التردد تعارض إرادتين، فهو سبحانه يحب ما يحب عبده، ويكره ما يكرهه، وهو يكره الموت، فهو يكرهه كما قال: «وأنا أكره مساءته» ، وهو سبحانه قد قضى بالموت فهو يريد أن يموت، فسمى ذلك ترددًا. ثم بيَّن أنه لا بد من وقوع ذلك»[1].
وسئل ابن تيمية عن معنى تردد الله في هذا الحديث؟ فأجاب: «هذا حديث شريف، قد رواه البخاري من حديث أبي هريرة، وهو أشرف حديث روي في صفة الأولياء، وقد ردَّ هذا الكلام طائفة، وقالوا: إن الله لا يوصف بالتردد، وإنما يتردد من لا يعلم عواقب الأمور، والله أعلم بالعواقب، وربما قال بعضهم: إن الله يعامل معاملة المتردد. والتحقيق: أن كلام رسوله حق، وليس أحد أعلم بالله من رسوله، ولا أنصح للأمة منه، ولا أفصح ولا أحسن بيانًا منه، فإذا كان كذلك؛ كان المتحذلق والمنكر عليه من أضل الناس وأجهلهم وأسوئهم أدبًا؛ بل يجب تأديبه وتعزيره، ويجب أن يصان كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الظنون الباطلة والاعتقادات الفاسدة، ولكن المتردد منا، وإن كان تردده في الأمر لأجل كونه ما يعلم عاقبة الأمور لا يكون ما وصف الله به نفسه بمنزلة ما يوصف به الواحد منا؛ فإن الله ليس كمثله شيء؛ لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ثم هذا باطل؛ فإن الواحد منا يتردد تارة لعدم العلم بالعواقب، وتارة لما في الفعلين من المصالح والمفاسد، فيريد الفعل لما فيه من المصلحة، ويكرهه لما فيه من المفسدة، لا لجهل منه بالشيء الواحد الذي يحب من وجه ويكره من وجه؛ كما قيل:
الشيب كره وكره أن أفارقه
فاعجب لشيء على البغضاء محبوب
وهذا مثل إرادة المريض لدوائه الكريه؛ بل جميع ما يريده العبد من الأعمال الصالحة التي تكرهها النفس هو من هذا الباب، وفي الصحيح: «حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات» [2]، وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ} الآية [البقرة: 216] . ومن هذا الباب يظهر معنى التردد المذكور في هذا الحديث؛ فإنه قال: «لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه» ؛ فإن العبد الذي هذا حاله صار محبوبًا للحق محبًّا له، يتقرب إليه أولاً بالفرائض وهو يحبها، ثم اجتهد في النوافل التي يحبها ويحب فاعلها، فأتى بكل ما يقدر عليه من محبوب الحق، فأحبه الحق لفعل محبوبه من الجانبين بقصد اتفاق الإرادة؛ بحيث يحب ما يحبه، ويكره ما يكرهه محبوبه، والرب يكره أن يسوء عبده ومحبوبه، فلزم من هذا أن يكره الموت؛ ليزداد من محاب محبوبه، والله سبحانه وتعالى قد قضى بالموت، فكل ما قضى به؛ فهو يريده، ولا بد منه؛ فالرب مريد لموته لما سبق به قضاؤه، وهو مع ذلك كاره لمساءة عبده، وهي المساءة التي تحصل له بالموت، فصار الموت مرادًا للحق من وجه، مكروهًا له من وجه، وهذا حقيقة التردد، وهو أن يكون الشيء الواحد مرادًا من وجه مكروهًا من وجه، وإن كان لا بد من ترجح أحد الجانبين، كما ترجح إرادة الموت، لكن مع وجود كراهة مساءة عبده، وليس إرادته لموت المؤمن الذي يحبه ويكره مساءته كإرادته لموت الكافر الذي يبغضه ويريد مساءته... أن الشيء المعين يكون محبوبًا من وجه مكروهًا من وجه، وأن هذا حقيقة التردد، وكما أن هذا في الأفعال؛ فهو في الأشخاص، والله أعلم»[3].
وقال ابن باز رحمه الله: «التردد وصف يليق بالله تعالى لا يعلم كيفيته إلا هو سبحانه، وليس كترددنا، والتردد المنسوب لله لا يشابه تردد المخلوقين؛ بل هو تردد يليق به سبحانه، كسائر صفاته تبارك وتعالى »[4].
وقال ابن عثيمين رحمه الله: «إثبات التردد لله سبحانه وتعالى على وجه الإطلاق لا يجوز؛ لأن الله تعالى ذكر التردد في هذه المسألة: «ما ترددت عن شيء أنا فاعله كترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن» ، وليس هذا التردد من أجل الشك في المصلحة، ولا من أجل الشك في القدرة على فعل الشيء؛ بل هو من أجل رحمة هذا العبد المؤمن، ولهذا قال في نفس الحديث: «يكره الموت، وأكره إساءته، ولا بد له منه» . وهذا لا يعني أن الله سبحانه وتعالى موصوف بالتردد في قدرته أو في علمه، بخلاف الآدمي فهو إذا أراد أن يفعل الشيء يتردد، إما لشكه في نتائجه ومصلحته، وإما لشكه في قدرته عليه: هل يقدر أو لا يقدر؟ أما الرب سبحانه وتعالى فلا»[5].


[1] مجموع الفتاوى (10/58 ـ 59).
[2] أخرجه البخاري (كتاب الرقاق، رقم 6487)، ومسلم (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم 2822).
[3] مجموع الفتاوى (18/129 ـ 135).
[4] مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (9/417).
[5] لقاءات الباب المفتوح (3/285 ـ 286، اللقاء 59، رقم السؤال: 1367).


إن تردد الله سبحانه وتعالى في قبض روح عبده المؤمن صفة فعلية، فهي من جملة الصفات التي أنكرتها الجهمية والمعتزلة الذين ينكرون الصفات بالكلية، ومن جملة الصفات التي أنكرتها الكلابية ومن وافقهم الذين ينكرون صفات الأفعال لله تعالى[1].
وقد أوَّل بعضهم هذا التردد من الله تعالى بترديد الملائكة إلى ذلك العبد المؤمن لقبض روحه كما في قصة موسى عليه السلام، وأوَّله بعضهم بمرض العبد المؤمن مرضًا مهلكًا ثم حصول الشفاء له من ذلك المرض[2]، وأوَّله بعضهم بأن المؤمن يكون له تركيب معين يحتمل عمرًا معينًا ـ خمسين سنة مثلاً ـ فإذا بلغ قدر هذا التركيب ومرض دعا الله تعالى بالعافية فشفاه الله وقواه، فعاش عشرين سنة أخرى مثلاً، وبذلك بلغ أجله المكتوب له، وهو سبعون سنة مثلاً، فهو حمل التردد على تغيير التركيب وتبليغه إلى الأجل المكتوب[3]، وأوَّله بعضهم بالانتظار، وأن الله ينتظر من ذلك العبد أن يأتي بعمل يكون سببًا للفسحة في أجله؛ كالدعاء أو الصدقة أو صلة الرحم ونحوها، فإن أتى بذلك السبب شفاه الله وأخَّر أجله، وإن لم يأت بذلك السبب مات بالأجل الأول[4].
ولكن التأويلات المذكورة بعيدة جدًّا ولا تتفق مع اللغة ولا مع ألفاظ الحديث[5]. قال ابن تيمية: «والتحقيق: أن كلام رسوله حق، وليس أحد أعلم بالله من رسوله، ولا أنصح للأمة منه، ولا أفصح ولا أحسن بيانًا منه، فإذا كان كذلك؛ كان المتحذلق والمنكر عليه من أضلِّ الناس وأجهلهم وأسوئهم أدباً؛ بل يجب تأديبه وتعزيره، ويجب أن يصان كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الظنون الباطلة والاعتقادات الفاسدة، ولكن المتردد منا، وإن كان تردده في الأمر لأجل كونه ما يعلم عاقبة الأمور لا يكون ما وصف الله به نفسه بمنزلة ما يوصف به الواحد منا؛ فإن الله ليس كمثله شيء؛ لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ثم هذا باطل؛ فإن الواحد منا يتردد تارة لعدم العلم بالعواقب، وتارة لما في الفعلين من المصالح والمفاسد، فيريد الفعل لما فيه من المصلحة، ويكرهه لما فيه من المفسدة، لا لجهل منه بالشيء الواحد الذي يحب من وجه ويكره من وجه؛ كما قيل:
الشيب كره وكره أن أفارقه
فاعجب لشيء على البغضاء محبوب
وهذا مثل إرادة المريض لدوائه الكريه؛ بل جميع ما يريده العبد من الأعمال الصالحة التي تكرهها النفس هو من هذا الباب، وفي الصحيح: «حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات» [6]، وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ} الآية [البقرة: 216] . ومن هذا الباب يظهر معنى التردد المذكور في هذا الحديث»[7]، فالصحيح: أن تردد الله سبحانه وتعالى في قبض روح عبده المؤمن صفة فعلية، يجب إثباتها لله سبحانه وتعالى كما يليق بجلال الله وعظمته، لدلالة الحديث النبوي على ذلك، وما عداه من الأقوال فهي باطلة، والله الموفق.


[1] انظر: مجموع الفتاوى (18/129 ـ 135) وانظر أيضًا: (5/410 و510).
[2] انظر: أعلام الحديث للخطابي (3/2259 ـ 2260) [معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي، ط1]، والتوشيح شرح الجامع الصحيح للسيوطي (9/3863) [مكتبة الرشد، ط1]، ومن كتب المعتزلة: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار (151) [مكتبة وهبة، ط2]، ومن كتب الأشاعرة: أهل السُّنَّة الأشاعرة، إعداد: حمد السنان، وفوزي العنجري (171 ـ 212) [دار الضياء للنشر].
[3] انظر: كشف المشكل من حديث الصحيحين لابن الجوزي (3/527) [دار الوطن الرياض، ط1].
[4] انظر: قطر الولي على حديث الولي للشوكاني (515) [دار إحياء التراث العربي].
[5] انظر: قطر الولي (488 ـ 496)، وأحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين (260 ـ 268) [مكتبة دار المنهاج، ط1].
[6] أخرجه البخاري (كتاب الرقاق، رقم 6487)، ومسلم (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم 2822).
[7] مجموع الفتاوى (18/129 ـ 130).


1 ـ «أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين جمعًا ودراسًة»، لسليمان بن محمد الدبيجي.
2 ـ «أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري» (ج3)، للخطابي.
3 ـ «صفات الله سبحانه وتعالى الواردة في الكتاب والسُّنَّة»، لعلوي بن عبد القادر السقاف.
4 ـ «قطر الولي على حديث الولي»، للشوكاني.
5 ـ «كشف المشكل من حديث الصحيحين» (ج3)، لابن الجوزي.
6 ـ «لقاءات الباب المفتوح مع الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين».
7 ـ «مجموع الفتاوى» (ج5 و10 و18)، لابن تيمية.
8 ـ «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (ج9)، للشيخ عبد العزيز بن باز.
9 ـ «معجم ألفاظ العقيدة»، لعالم عبد الله فالح.