قال الجوهري: «تقول في تركيب الفَصّ في الخاتَم، والنّصْل في السهم: ركّبْتُه فتركب، فهو مُرَكّب وركِيب. والمُرَكَّب أيضًا: الأصل والمنْبِت، يقال: فلان كريم المرَكَّب؛ أي: كريم أصل منْصِبِه في قومه»[1].
و«استركبته فأركبني. وركب الفص في الخاتم، والسنان في القناة فتركّب فيه. وركبته: ضربت ركبتيه»[2].
ومنه قوله تعالى: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ *} [الانفطار] ويقال لغة: ركّبت الباب في موضعه، وقد يقال: المركب لما كان متفرقًا فجمع كجمع الأدوية والأغذية المركبة[3].
[1] الصحاح (424) [دار المعرفة، بيروت،ط1].
[2] أساس البلاغة (1/379) [دار الكتب العلمية].
[3] انظر: الصفدية لابن تيمية (1/105) [دار الفضيلة، الرياض، ط2، 1406هـ].
التركيب: «فِي علم الفلسفة: تأليف الشَّيْء من مكوناته البسيطة، ويقابله التَّحْلِيل»[1].
وقال محمد بن عمر الرازي: «التركيب عبارة عن اجتماع الوحدات»[2].
وقال ابن القيم بعد أن ذكر معنى التركيب في لغة الشرع: «ثم اصطلح عليه بعض الناس وجعل كل ما تميز منه شيء عن شيء مركبًا، وإن كان حقيقته واحدة»[3].
[1] المعجم الوسيط (1/368) [دار الدعوة].
[2] أساس التقديس للرازي (77).
[3] الصواعق المرسلة (2/676).
لفظ التركيب من الألفاظ المجملة التي أحدثها المبتدعة، وهي تحتمل حقًّا وباطلاً، فلا يجوز إثباتها لله ولا نفيها عنه إلا بعد معرفة مراد قائلها، فإن أراد بها باطلاً يتوقف في لفظها ورد معناها، وإن أراد بها حقًّا يتوقف في لفظها، وقبل معناها وعبَّر عنه باللفظ الشرعي[1].
[1] انظر: الصفدية (2/62)، ودرء التعارض (1/229).
من الألفاظ المبتدعة التي أحدثها الفلاسفة وتبعهم عليها المتكلمون لفظ التركيب.
قال ابن تيمية: «لفظ التركيب لفظ مجمل وأنه إن أريد ما ركبه غيره، أو ما كان مفترقًا فاجتمع، أو ما يمكن انفصال بعضه عن بعض فهذا منتف وذلك غير لازم من اتصافه بالصفات والأفعال. وهم لم يريدوا هذا، وإنما أرادوا تعدد المعاني التي يتصف بها، وهذا لا دليل على نفيه بل الأدلة تستلزم ثبوته»[1].
ذكر ابن القيم أن التركيب «اصطلح عليه بعض الناس وجعل كل ما تميز منه شيء عن شيء مركبًا، وإن كان حقيقته واحدة، فالعرب إنما تطلق لفظ التركيب والمركب في نحو: تركيب الدواء، وتركيب الخشبة على الجدار، وتركيب المادة في صورة من الصور، ولا يسمى الهواء مركبًا ولا النار ولا الماء ولا التراب، وإنما المركب عندهم: ما ركب فيه شيء على شيء. خالف المتأخرون الاصطلاح الحادث، ثم نفوا مسماه الاصطلاحي عن الربِّ سبحانه، ورأوا الأدلة اللفظية من القرآن والسُّنَّة لا تساعدهم على ذلك، فقالوا: لا تفيد اليقين»[2].
وقال ابن أبي العز: «التركيب من الذات والصفات، هم سمُّوه تركيبًا؛ لينفوا به صفات الرب تعالى، وهذا اصطلاح منهم لا يعرف في اللغة، ولا في استعمال الشارع، فلسنا نوافقهم على هذه التسمية ولا كرامة. ولئن سموا إثبات الصفات تركيبًا، فنقول لهم: العبرة للمعاني لا للألفاظ، سموه ما شئتم، ولا يترتب على التسمية بدون المعنى حكم! فلو اصطلح على تسمية اللبن خمرًا، لم يحرم بهذه التسمية»[3].
[1] الصفدية (2/62).
[2] الصواعق المرسلة (2/676).
[3] شرح الطحاوية (1/241) [مؤسسة الرسالة، ط10].
ينقسم التركيب إلى أقسام عدة:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عنهم: «فقالوا: التركيب خمسة أنواع وكلها يجب نفيها عن الله:
الأول: التركيب من الوجود والماهية، فلا يكون له حقيقة سوى الوجود المطلق بشرط الإطلاق؛ لأنه لو كان له حقيقة مغايرة لذلك لكانت موصوفة بالوجود، وحينئذ فيكون الوجود الواجب لازمًا ومعلولاً لتلك الحقيقة، فيكون الواجب معلولاً.
الثاني: التركيب من العام والخاص؛ كتركيب النوع من الجنس والفصل وهذا يجب نفيه.
الثالث: التركيب من الذات والصفات، وهذا يجب نفيه. وهذه الثلاث تركيبات في الكيفية.
الرابع: التركيب في الكم وهو تركيب الجسم من أبعاضه، إما من الجواهر المفردة، وهو التركيب الحسي، وإما من المادة والصورة، وهو التركيب العقلي، وهذان النوعان هما الرابع والخامس »[1].
[1] الصفدية (1/104 ـ 105).
من الآثار السيئة التي جرَّها القول بالتركيب، نفي صفات الكمال، ونعوت الجلال عن الحق جلَّ في علاه، فكل من أراد تعطيل الله عن كماله المطلق، تسلق على هذا المصطلح الكلامي المحدث المشؤوم، وتقنع بهذا اللفظ المجمل ليظهر بمظهر أهل التنزيه، فانطلت حقيقة حاله على كثير من الناس، وبث من ورائه النفي والتعطيل لصفات الباري سبحانه بهذا التلبيس.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في ردِّه على من نفى الصفات متكئًا على هذا اللفظ المبتدع: «وإنما أردت ما سميتموه أنتم تأليفًا وتركيبًا كما سمَّى المنطقيون الموصوف بالصفات مركبًا مؤلفًا، وبمثل هذا الكلام المجمل المتشابه الذي يذكرونه وليس له أصل في كتاب الله وسُنَّة رسوله ضل من ضلَّ، كما وصف ذلك الأئمة وذموا المتكلمين بمثل هذا الكلام؛ كقول الإمام أحمد: فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب متفقون على مخالفة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يُلَبِّسون عليهم»[1].
[1] بيان تلبيس الجهمية (5/442) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف]، وانظر: درء التعارض (3/435).
يرى الفلاسفة وأهل الكلام الذين قلَّدوهم في أصولهم الفاسدة، أن إثبات صفات متعددة لذات واحدة تركيب وتجسيم، وأن المركب مفتقر إلى جزئه وجزء غيره، وهذا كله غير لائق بالله؛ لأن واجب الجود غني عن غيره، وبالتالي نفوا صفات الله تعالى[1].
[1] انظر: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار (195) [مكتبة وهبة، ط3، 1416هـ]، وأساس التقديس للرازي (19 ـ 20، و77) [مكتبة الكليات الأزهرية]، والصفدية (1/104 ـ 105) والبيهقي وموقفه من الإلهيات لأحمد الغامدي (193 ـ 194) [الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ط2]، وموقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود (2/854) [مكتبة الرشد، ط1].
تسمية الأشياء بأسماء ما، لا يغير من حقائق المسميات، فإذا كان اتصاف الله بما يليق به من صفات الكمال المتعددة يسميه هؤلاء تركيبًا في اصطلاحهم، فيجب إثباته لله على الوجه اللائق به سبحانه؛ لدلالة الكتاب والسُّنَّة على اتصاف الله به، وأما نفيه عنه فهو باطل ويمكن بيان هذا من وجوه عديدة، منها:
الأول: أن إخضاع النصوص لمصطلحات حادثة فاسدة هو في غاية البطلان.
الثاني: أن إطلاق التركيب على الذات المتصفة بما يليق بها من الصفات، لا يعرفه أهل اللسان الذي نزل به الشرع، فهو إذن إطلاق مردود.
وبعبارة أخرى أن تسمية الواحد الموصوف بصفاته مركبًا؛ كتسمية الحي العالم القادر الموصوف بالحياة والعلم والقدرة مركبًا هذا اصطلاح لهم لا يعرف في شيء من الشرائع، ولا اللغات ولا عقول جماهير العقلاء جعْلُ هذا تركيبًا ولا تسميته مركبًا[1].
الثالث: أن من أثبت ذاتًا متصفة بصفات تليق بها لا يقال: إنه أثبت لها ما تفتقر فيه إلى مركب يركبه معها؛ لأن صفاته تعالى القديمة لازمة لذاته لا يفتقر فيها إلى أحد سواه، ومن جعل اتصافه بها مفتقرًا إلى مركب غيره فهو كافر عند مثبتة الصفات[2].
الرابع: إن مما يبين فساد قولهم بالتركيب: «أن المعنى الذي يقصدونه بذلك، يجب أن يتصف به كل موجود سواء كان واجبًا أو ممكنًا، وأن القول بامتناع ذلك يستلزم السفسطة المحضة وتبين أن كل أحد يلزمه أن يقول بمثل هذا المعنى الذي سماه تركيبًا حتى الفلاسفة»[3].
الخامس: يقال لمن نفى الصفات بزعمه أن إثباتها يلزم منه التركيب: ماذا تقصد به؟ إن كنت تقصد بالتركيب ما ركبه غيره، أو ما كان متفرقًا فاجتمع، أو ما يمكن تفريق بعضه عن بعض؟ فلا شك أن هذا باطل والله منزَّه عنه.
وإن كنت تعني ما تميز منه شيء عن شيء؛ كتميز العلم عن القدرة، أو ما تركب من الذات وصفاتها فهذا حق، وتسميته تركيبًا هو اصطلاح حادث لا يدل عليه شرع ولا لغة[4].
[1] انظر: الرد على المنطقيين (267، وشرح حديث النزول (85) [دار العاصمة، ط1]، والصفدية (2/62).
[2] انظر: درء التعارض (3/435) [جامعة الإمام، ط2].
[3] بيان تلبيس الجهمية (3/441).
[4] موقف ابن تيمية (3/1102 ـ 1103).
1 ـ «بيان تلبيس الجهمية» (ج3)، لابن تيمية.
2 ـ «البيهقي وموقفه من الإلهيات»، لأحمد الغامدي.
3 ـ «درء تعارض العقل والنقل» (ج/3)، لابن تيمية.
4 ـ «الرد على المنطقيين»، لابن تيمية.
5 ـ «شرح الطحاوية» (ج1)، لابن أبي العز الحنفي.
6 ـ «شرح حديث النزول»، لابن تيمية.
7 ـ «الصفدية» (ج1)، لابن تيمية.
8 ـ «الصواعق المرسلة» (ج3)، لابن القيم.
9 ـ «موقف ابن تيمية من الأشاعرة» (ج3)، لعبد الرحمن بن صالح المحمود.