حرف التاء / التسمّي بقاضي القضاة

           

مصطلح قاضي القضاة مركب من كلمتين؛ هما: (القاضي) و(القضاة)، وكلاهما مشتق من القَضاء؛ وهو الحكم والقَطْع والفَصْل، يقال: قَضَى يَقْضِي قَضاءً فهو قاضٍ؛ إذا حكَم وفَصَل وقطع في الأمر[1].


[1] انظر: لسان العرب (15/186) [دار صادر، ط3، 1414هـ]، والنهاية في غريب الحديث والأثر (4/78) [المكتبة العلمية، ط1399هـ].


قاضي القضاة: هو رئيس القضاة الذي يتصرف في القضاء تقليدًا وعزلاً[1].
وقيل: هو الذي وصل إلى مرتبة في القضاء أو في العلم أعلى من درجة القاضي، فصار قاضي القضاة[2].


[1] انظر: درر الحكام في شرح مجلة الأحكام (4/610) [دار الجيل، ط1، 1411هـ].
[2] انظر: التمهيد لشرح كتاب التوحيد (472) [دار التوحيد، ط1، 1424هـ].


الذين أطلقوا هذه التسمية لا يعنون بها هذه الحقيقة، وهي: أن ذاك يقضي بين القضاة، وإنما يعنون بها كبير القضاة، أو رئيس القضاة، وذلك أنه بلغ مرتبة عالية في القضاء أو في العلم أعلى من درجة القاضي، فصار يطلق عليه قاضي القضاة.



1 ـ أقضى القضاة.
2 ـ موبذ الموبذان: وهذا لفظ فارسي، وهو بمعنى: قاضي القضاة، قال ابن رجب الحنبلي: «كان المجوس يسمون قاضيهم: موبَذ مُوبَذان، يَعنُون بذلك: قاضي القضاة»[1].
3 ـ قاضي الجماعة.
4 ـ رئيس القضاة.
5 ـ شاهان شاه.
6 ـ حاكم الحكام.


[1] ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب (1/34) [دار الكتب، ط1، 1417هـ].


اختلف العلماء في حكم التسمي بقاضي القضاة، وهل يلحق بلقب ملك الأملاك، على قولين:
القول الأول: أن التسمي بقاضي القضاة لا يجوز؛ لأن ذلك من الألفاظ المطلقة في التعظيم التي لا تليق بالمخلوق، وإنما تليق بالخالق عزّ وجل، وقد ورد النهي عن إطلاق مثل هذه الألفاظ على غير الله، كما جاء ذلك مصرحًا به في لقب ملك الأملاك، في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أخنع اسم عِند الله عزّ وجل رجل تسمى مَلِك الأملاك؛ لا مالِك إِلا الله» [1]؛ فإذا نهي عن لقب (ملِك الأملاك) فإن لقب (قاضي القضاة) يأخُذ الحكم نفسه؛ لأنّ العلة في اللقبين واحدة، وهي التعظيم الزائد في حق المخلوق. وهذا القول قد قال به كثير من العلماء، منهم: القاضي ابن جماعة، وابن أبي جمرة، وابن القيم، وعلم الدين العراقي، وزين الدين المليباري الشافعي، وغيرهم.
القول الثاني: أن التسمي بلقب قاضي القضاة جائز، لعدم ورود النص في ذلك، والأصل هو الجواز، وقد أطبق على ذلك اللقب قضاة المسلمين منذ زمن أبي يوسف، صاحب أبي حنيفة، ولم ينكر ذلك أحد من العلماء رغم كثرة ذلك وشهرته فيما بينهم. وقد قال بذلك أبو عبد الله الصيمري الشافعي، وأبو الطيب الطبري وأبو محمد التميمي الحنبلي، وذلك حينما استفتي الفقهاء والقضاة في حادثة وقعت في عصرهم سنة (429هـ)، كما سُمي بذلك كثير من العلماء الذين تولوا القضاء في أزمان متفاوتة؛ كأبي يوسف، صاحب أبي حنيفة، والماوردي ـ رغم إنكاره على من تسمى بملك الملوك من ملوك عصره ـ، وابن حجر العسقلاني، والعيني.
والقول الأول هو الراجح ـ والله أعلم ـ قياسًا على لقب ملك الأملاك؛ لأن العلة واحدة، وقد رجحه جمع من العلماء كما تقدم[2].


[1] أخرجه البخاري (كتاب الأدب، رقم 6205)، ومسلم (كتاب الآداب، رقم 2143) واللفظ له.
[2] انظر: زاد المعاد (2/310، 428) [مؤسسة الرسالة، ط7، 1405هـ]، وفتح الباري لابن حجر (10/590)، وفتح المجيد (503)، وإعانة المستفيد (2/251) [مؤسسة الرسالة، ط1، 1412هـ].


1 ـ حقيقة معنى هذا الاسم:
قاضي القضاة: قاضي بمعنى: حاكم، والقضاة؛ أي: الحكام، و(أل) للعموم.
والمعنى: التسمي بحاكم الحُكَّام ونحوه، مثل ملك الأملاك، وسلطان السلاطين وما أشبه ذلك، مما يدل على النفوذ والسلطان الشامل أو المطلق. وهذا الوصف يليق بالله عزّ وجل خاص به، فهو الذي يقضي بين العباد، بين القضاة وبين العبيد، فهو قاضي القضاة على الحقيقة سبحانه وتعالى وإنما نُهي عنه؛ لأن قاضي القضاة بهذا المعنى الشامل العام لا يليق بالمخلوق، وإنما لا يصلح إلا لله عزّ وجل، فمن تسمى بذلك فقد جعل نفسه شريكًا لله عزّ وجل فيما لا يستحقه إلا الله عزّ وجل؛ لأنه لا أحد يستحق أن يكون قاضي القضاة أو حاكم الحكام أو ملك الأملاك إلا الله عزّ وجل، فهو القاضي فوق كل قاضٍ، وإليه يرجع الحكم كله[1].
2 ـ بداية إطلاق لقب قاضي القضاة:
يذكر المؤرخون أن أول من لقب بهذا اللقب من القضاة هو القاضي أبو يوسف، يعقوب بن إبراهيم الكوفي، وذلك في منتصف القرن الثاني، وقد كان أبو يوسف ولي القضاء ببغداد لموسى الهادي والمهدي والرشيد. وقد اشتهر هذا اللقب بعد ذلك وشاع بين قضاة الأقاليم الإسلامية في بلاد المشرق دون أهل المغرب[2].


[1] القول المفيد على كتاب التوحيد (2/249) [دار ابن الجوزي، ط2، 1424هـ].
[2] انظر: البداية والنهاية (10/187) [دار هجر، ط1، 1417هـ].


قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ *} [النمل] ، وقال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *} [آل عمران] ، وقال تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ *} [غافر] ، وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *} [الملك] .
ومن السُّنَّة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أخنع اسم عند الله عزّ وجل رجل تسمَّى مَلِك الأملاك لا مالك إلا الله» ، وفي لفظ عنه رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أغيظ رجل على الله يوم القيامة، وأخبثه وأغيظه عليه، رجل كان يسمى ملك الأملاك، لا ملك إلا الله»[1].


[1] أخرجه بهذا اللفظ: مسلم (كتاب الآداب، رقم 2143)، وأما اللفظ الأول فقد تقدم تخريجه قريبًا.


قال ابن رجب: «وكان شيخنا أبو عمر عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم بن جماعة الكتاني الشافعي ـ قاضي الديار المصرية، وابن قاضيها ـ يمنع الناس أن يخاطبوه بقاضي القضاة، أو يكتبون له ذلك، وأمرهم أن يبدلوا ذلك بقاضي المسلمين، وقال: إنَّ هذا اللفظ مأثورٌ عن علي رضي الله عنه»[1].
قوال ابن القيم ـ في معرض كلامه على لقب ملك الملوك ـ: «فإن ذلك ليس لأحد غير الله؛ فتسمية غيره بهذا من أبطل الباطل، والله لا يحب الباطل، وقد ألحق بعض أهل العلم بهذا قاضي القضاة، وقال: ليس قاضي القضاة إلا من يقضي الحق وهو خير الفاصلين الذي إذا قضى أمرًا فإنما يقول له: كن فيكون»[2].
وقال ابن حجر: «التسمية بقاضي القضاة وجدت في العصر القديم من عهد أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، وقد منع الماوردي من جواز تلقيب الملك الذي كان في عصره بملك الملوك، مع أن الماوردي كان يقال له: أقضى القضاة، وكأن وجه التفرقة بينهما: الوقوف مع الخبر، وظهور إرادة العهد الزماني»[3].


[1] ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب (3/69).
[2] زاد المعاد (2/310) [مؤسسة الرسالة، ط7].
[3] فتح الباري (10/590).


المسألة الأولى: حكم التسمي بملك الأملاك:
التسمِّي بملك الأملاك لا يجوز؛ لورود النهي عن ذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك» [1]. ولأن ذلك من الألفاظ المطلقة في التعظيم والتي لا تليق إلا بالله عزّ وجل. وهذا القول قد قال به كثير من العلماء منهم، القاضي الماوردي، وابن جماعة، وابن الجوزي، والقرطبي، والنووي، وابن حجر، وابن القيم، وغيرهم.
قال ابن القيم رحمه الله: «ولما كان المُلك الحق لله وحده ولا مَلك على الحقيقة سواه، كان أخنع اسم وأوضعه عند الله وأغضبه له اسم (شاهان شاه)؛ أي: ملك الملوك وسلطان السلاطين، فإن ذلك ليس لأحد غير الله، فتسمية غيره بهذا من أبطل الباطل، والله لا يحب الباطل، وقد ألحق بعض أهل العلم بهذا: قاضي القضاة، وقال: ليس قاضي القضاة إلا من يقضي الحق وهو خير الفاصلين، الذي إذا قضى أمرًا فإنما يقول له: كن فيكون. ويلي هذا الاسم في الكراهة والقبح والكذب: سيد الناس وسيد الكل، وليس ذلك إلا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاصة كما قال: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر» . فلا يجوز لأحد أن يقول عن غيره: إنه سيد الناس وسيد الكل، كما لا يجوز أن يقول: إنه سيد ولد آدم»[2].
وقال ابن رجب رحمه الله: «إن التلقيب بملك الملوك إنما كان من شعائر ملوك الفرس من الأعاجم المجوس ونحوهم، وكذلك كان المجوس يسمون قاضيهم: (موبَذ مُوبَذان)، يَعنُون بذلك: قاضي القضاة، فالكلمتان من شعائرهم، ولا ينبغي التسمية بهما، والله أعلم»[3].
وقال العيني رحمه الله: «وإنما كان (ملك الأملاك) أبغض إلى الله وأكره إليه أن يسمى به مخلوق؛ لأنه صفة الله تعالى، ولا يليق بمخلوق صفات الله وأسماؤه؛ لأن العباد لا يوصفون إلا بالذل والخضوع والعبودية»[4].
المسألة الثانية: حكم التسمي بأقضى القضاة:
لا يجوز التسمي بأقضى القضاة؛ لأنه في معنى (أحكم الحاكمين)، وهذا لا يكون إلا لله عزّ وجل[5].
قال العيني رحمه الله: «يمتنع أن يقال: أقضى القضاة؛ لأن معناه: أحكم الحاكمين، والله سبحانه هو أحكم الحاكمين، وهذا أبلغ من: قاضي القضاة»[6].
المسألة الثالثة: حكم التسمي برئيس القضاة:
يجوز التسمي برئيس القضاة؛ لأن المراد به: من يُرجع إليه في أُمور القضاء وتنظيماته ومُجرياته[7].
المسألة الرابعة: حكم التسمي بشاهان شاه:
شاهان شاه: وهو لفظ أعجمي، معناه: ملك الأملاك، وقد كان الفرس يلقبون به ملوكهم.
قال ابن حجر: «إن لفظ: شاهان شاه، كان قد كثر التسمية به في ذلك العصر، فنبه سفيان على أن الاسم الذي ورد الخبر بذمه لا ينحصر في ملك الأملاك؛ بل كل ما أدى معناه بأي لسان كان فهو مراد بالذم»[8].
والصحيح: أنه لا يجوز التسمي به، قال ابن القيم: «من المحرم التسمية بملك الملوك وسلطان السلاطين وشاهن شاه»[9]، ثم استدل على ذلك بحديث أبي هريرة رضي الله عنه.


[1] أخرجه البخاري (كتاب الأدب، رقم 6205)، ومسلم (كتاب الآداب، رقم 2143).
[2] زاد المعاد (2/311) [مؤسسة الرسالة، ط27].
[3] ذيل طبقات الحنابلة (1/34) [دار الكتب، ط1].
[4] عمدة القاري (22/215) [دار إحياء التراث العربي].
[5] انظر: تيسير العزيز الحميد (532) [المكتب الإسلامي، ط1، 1423هـ]، وفتح الباري لابن حجر (10/590) [دار المعرفة، ط1379هـ]، وطرح التثريب في شرح التقريب للعراقي (8/152) [دار إحياء التراث العربي]، وحاشية البجيرمي على الخطيب (4/343) [دار الفكر، 1415هـ].
[6] عمدة القاري (22/215).
[7] انظر: إعانة المستفيد (2/181) [مؤسسة الرسالة، ط1، 1412هـ].
[8] فتح الباري (10/590).
[9] تحفة المودود (81) [دار الكتب العلمية، ط1].


ـ الفرق بين قاضي القضاة وقاضي الجماعة:
لا فرق بينهما في المنصب الذي يشغله كل منهما، فكلا الاسمين يُطلق على كبير القضاة، إلا أن قاضي القضاة اشتُهر التسمي به في أهل الشرق، وهي تسمية محرمة كما تقدم بيانه، أما قاضي الجماعة فقد اشتُهر التسمي بها في بلاد المغرب، وهذه التسمية (قاضي الجماعة) لا بأس بها؛ لأنه ليس فيها ما يقتضي التعظيم والتقديس الذي لا يكون إلا لله تعالى، فهي كمن يتسمّى بقاضي المسلمين ونحو ذلك[1].
قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: «يلتحق بملك الأملاك قاضي القضاة، وإن كان اشتهر في بلاد الشرق من قديم الزمان إطلاق ذلك على كبير القضاة، وقد سَلِم أهل المغرب من ذلك، فاسم كبير القضاة عندهم: قاضي الجماعة»[2].


[1] انظر: طرح التثريب (8/151)، وفتح الباري لابن حجر (10/590 ـ 591).
[2] انظر: فتح الباري لابن حجر (10/590 ـ 591).


1 ـ أن صاحب ذلك يكون وضيعًا عند الله تعالى؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أخنع اسم عند الله» ، لا سيما إذا كان هو الذي سمى نفسه بذلك.
2 ـ أن التسمي بذلك الاسم ونحوه قد يبعث على التكبر على عباد الله والتعاظم على الضعفاء، ولذلك كان أحب الأسماء إلى الله ما دلَّ على التواضع والتذلل لله تعالى؛ كعبد الله وعبد الرحمن ونحوهما.



الحكمة في النهي عن التسمي بقاضي القضاة وما في معناه ظاهرة في كون ذلك اللقب لا يصلح إلا لله تعالى دون غيره من الخلق.
قال ابن عثيمين: «إن من تسمَّى بهذا الاسم فقد جعل نفسه شريكًا لله؛ لأنه لا أحد يستحق أن يكون قاضي القضاة، أو حكم الحكام، أو ملك الأملاك إلا الله سبحانه وتعالى، فالله هو القاضي فوق كل قاضٍ»[1].


[1] القول المفيد (3/3) [دار العاصمة، ط1، 1415هـ].


1 ـ «شرح صحيح مسلم»، للنووي.
2 ـ «فتح الباري»، لابن حجر.
3 ـ «تحفة المودود بأحكام المولود»، لابن القيم.
4 ـ «زاد المعاد»، لابن القيم.
5 ـ «ذيل طبقات الحنابلة»، لابن رجب.
6 ـ «البداية والنهاية»، لابن كثير.
7 ـ «تيسير العزيز الحميد»، لسليمان بن عبد الله.
8 ـ «القول المفيد على كتاب التوحيد»، لابن عثيمين.
9 ـ «إعانة المستفيد شرح كتاب التوحيد»، للفوزان.
10 ـ «معجم المناهي اللفظية»، لبكر أبي زيد.