قال ابن فارس رحمه الله: «الصاد والدال والقاف أصل يدل على قوة في الشيء قولاً وغيره؛ من ذلك الصِّدق: خلاف الكذب، سمِّي لقوته في نفسه، ولأن الكذب لا قوة له، هو باطل»[1].
وأصل هذا من قولهم: شيء صدق؛ أي: صلب. ورمح صدق. ويقال: صدقوهم القتال، وفي خلاف ذلك كذبوهم. والصديق: الملازم للصدق، أو الدائم التصديق[2].
[1] مقاييس اللغة (3/339) [دار الجيل، 1420هـ].
[2] انظر: مقاييس اللغة (3/339)، والصحاح للجوهري (4/1506) [دار العلم للملايين، ط4]، ولسان العرب لابن منظور (7/307) [دار إحياء التراث العربي، ط3، 1419هـ].
التصديق: هو قول القلب، ومعرفته، وإقراره بألوهية الله تعالى، وبربوبيته، وبأسمائه وصفاته، وبكل ما جاء به على ألسنة رسله عليهم السلام.
قال أبو نصر المروزي رحمه الله: «التصديق: هو المعرفة بالله، والاعتراف له بالربوبية، وبوعده، ووعيده، وواجب حقه، وتحقيق ما صدق به من القول والعمل»[1].
[1] تعظيم قدر الصلاة للمروزي (2/695) [مكتبة الدار، المدينة المنورة، 1406هـ].
حقيقة التصديق: هو قول القلب، وإيقانه، وإقراره، ومعرفته، وإذعانه لخبر الله ورسله عليهم السلام، المتضمن للقبول والانقياد، فهو نوع من العلم والقول، وهو غالبًا ما يستعمل في جنس الأخبار، غيبية كانت أو مشاهدة، وقد يستعمل في العمل والإرادة.
قال ابن تيمية رحمه الله: «فإن الإيمان بحسب كلامِ الله ورسالته، وكلامُ الله ورسالته يتضمن أخباره وأوامره، فيصدق القلب أخباره تصديقًا يوجب حالاً في القلب، يحس المصدق به، والتصديق هو نوع من العلم والقول، وينقاد لأمره ويستسلم، وهذا الانقياد والاستسلام هو نوع من الإرادة والعمل، ولا يكون مؤمنًا إلا بمجموع الأمرين»[1].
وقال أيضا: «والتصديق يستعمل في الخبر، وفي الإرادة؛ يقال: فلان صادق العزم، وصادق المحبة، وحملوا حملة صادقة»[2].
[1] الصارم المسلول على شاتم الرسول (3/967 ـ 968) [رمادي للنشر، ط1، 1417هـ].
[2] مجموع الفتاوى (7/533) [مجمع الملك لطباعة المصحف الشريف بالمدينة، ط2، 1425هـ].
قال تعالى في مدح الصديقين: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ *} [الحديد] .
ومن السُّنَّة: عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من سأل الله القتل في سبيله صادقًا من قلبه أعطاه الله أجر الشهادة»[1].
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم ومعي نفر من قومي فقال: «أبشروا وبشروا من وراءكم، أنه من شهد أن لا إله إلا الله صادقًا بها دخل الجنة»[2].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة»[3].
[1] أخرجه أبو داود (كتاب الجهاد، رقم 2541، والترمذي (أبواب فضائل الجهاد، رقم 1654) وصححه، والنسائي (كتاب الجهاد، رقم 3141)، وأحمد (36/342) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (رقم 2291).
[2] أخرجه أحمد (32/370) [مؤسسة الرسالة، ط1]، قال البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة (6/408) [دار الوطن للنشر، الرياض ط1]: هذا إسناد صحيح، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 712).
[3] أخرجه البخاري (كتاب الإيمان، رقم 36) واللفظ له، ومسلم (كتاب الإمارة، رقم 1876).
قال ابن جرير الطبري رحمه الله: «فإذا كان الإيمان في كلامها ـ يعني: في كلام العرب ـ: التصديق، والتصديق يكون بالقلب واللسان والجوارح، وكان تصديق القلب: العزم والإذعان، وتصديق اللسان الإقرار، وتصديق الجوارح السعي والعمل، كان المعنى الذي يستحق العبد المدح، والولاية من المؤمنين هو إتيانه بهذه المعاني الثلاثة»[1].
قال ابن بطة العكبري رحمه الله: «اعلموا ـ رحمكم الله ـ أن الله ـ جلَّ ثناؤه وتقدست أسماؤه ـ فرض على القلب المعرفة به، والتصديق له، ولرسله، ولكتبه، وبكل ما جاءت به السُّنَّة، وعلى الألسن النطق بذلك، والإقرار به قولاً، وعلى الأبدان والجوارح العمل بكل ما أمر به، وفرضه»[2].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «تصديق القلب يتبعه العمل، فالقلب إذا صدَّق بما يستحقه الله من الألوهية، وما يستحقه الرسول من الرسالة، تبع ذلك لا محالة محبة الله ورسوله، وتعظيم الله ورسوله، والطاعة لله ورسوله أمر لازم لهذا التصديق، لا يفارقه إلا لعارض، من كبر، أو حسد، أو نحو ذلك»[3].
[1] تهذيب الآثار (2/685) [مطبعة المدني، القاهرة].
[2] الإبانة الكبرى (2/760).
[3] شرح الأصبهانية (665) [دار المنهاج، ط1، 1430هـ].
التصديق على ثلاثة أضرب:
1 ـ إما بغلبة الظن، وهو أن يكون عليه دلالة وقد يعترضه شُبه توهنه وتبطله.
2 ـ وإما بعلم اليقين، وهو أن يصير بحيث يعلم ويعلم أنه يعلم ولا تعترضه شبه توهنه.
3 ـ وإما بعين اليقين، وهو أن يرى بعقله الشيء ويعانيه ببصيرته[1].
[1] تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين (88) [دار مكتبة الحياة، بيروت، 1983م].
المسألة الأولى: علاقة التصديق بالإيمان:
من المسائل المتعلقة بالتصديق وعلاقته بالإيمان: أنه من المعلوم أن قول القلب وقول اللسان وعمل القلب وعمل الجوارح إذا زال زال الإيمان بكماله، وإذا زال تصديق القلب لم تنفع بقية الأجزاء، فإن تصديق القلب شرط في اعتقادها وكونها نافعة، وإذا زال عمل القلب مع التصديق: فأهل السُّنَّة مجمعون على زوال الإيمان، وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب، وهو محبته وانقياده كما لم ينفع إبليس وفرعون وقومه واليهود والمشركين الذين كانوا يعتقدون صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم بل ويقرون به سرًّا وجهرًا ويقولون ليس بكاذب ولكن لا نتبعه ولا نؤمن به[1].
قال ابن تيمية رحمه الله: «تصديق القلب يتبعه العمل، فالقلب إذا صدَّق بما يستحقه الله من الألوهية، وما يستحقه الرسول من الرسالة، تبع ذلك لا محالة محبة الله ورسوله، وتعظيم الله ورسوله، والطاعة لله ورسوله أمر لازم لهذا التصديق، لا يفارقه إلا لعارض، من كبر، أو حسد، أو نحو ذلك من الأمور التي توجب الاستكبار عن عبادة الله، والبغض لرسوله، ونحو ذلك من الأمور التي توجب الكفر؛ ككفر إبليس، وفرعون وقومه، واليهود، وكفار مكة، وغير هؤلاء من المعاندين الجاحدين، ثم هؤلاء إذا لم يتبعوا التصديق بموجبه من عمل القلب واللسان وغير ذلك، فإنه قد يُطبع على قلوبهم حتى يزول عنها التصديق»[2].
المسألة الثانية: التصديق يكون بالفعل:
كما أن التصديق يكون بالقلب واللسان، فكذلك يكون بالفعل والعمل، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في الحديث المشهور: «والفرج يصدق ذلك كله ويكذبه» [3].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «التصديق يكون بالقلب واللسان وسائر الجوارح»[4].
المسألة الثالثة: التصديق شرط في كلمة التوحيد:
والمراد بذلك أن يكون صادقًا في قول: (لا إله إلا الله) واعتقاد مدلولها، صدقًا ينافي الكذب ظاهرًا، ويمنع من النفاق، فلا يخالف ظاهره باطنه؛ بل يتواطأ ظاهره مع باطنه، وما في داخل قلبه مع ما يقوله بلسانه، ويجري على جوارحه من الأعمال. وهذا هو الصدق الذي يمنع من النفاق باطنًا.
كذلك لا يظهر على جوارحه ما يناقض ما في قلبه من الاعتقاد بمدلول (لا إله إلا الله) ومقتضاها، واليقين به، وهذا هو الصدق الذي ينافي الكذب ظاهرًا[5].
والدليل على ذلك قول الله سبحانه وتعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ *وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ *} [العنكبوت] .
[1] انظر: الصلاة وحكم تاركها (56) [مكتبة الثقافة، المدينة المنورة].
[2] شرح الأصبهانية (665) [دار المنهاج، ط1، 1430هـ].
[3] أخرجه البخاري (كتاب الاستئذان، رقم 6243)، ومسلم (كتاب القدر، رقم 2657).
[4] الإيمان لابن تيمية (101).
[5] المفيد في مهمات التوحيد (72).
الفرق بين التصديق والإيمان[1]:
الفرق الأول: أن الإيمان وإن تضمن التصديق، فليس هو مرادفًا له في اللفظ والمعنى:
فإن الفعل (آمن) لا تتعدى إلا بحرف؛ إما الباء، وإما اللام، فلا يتعدى بنفسه إلا أن يقال: أمنته؛ من الأمان ضد الإخافة، كما تدل على ذلك شواهد القرآن، وأما التصديق فإنه يتعدى بنفسه إلى المصدق به.
وأما في المعنى: فالإيمان بمعنى الإقرار والطمأنينة، وهو لا يقال إلا في الخبر الغائب الذي يؤتمن عليه، وأما التصديق فيقال في كل خبر عن شهادة أو غيب، فيكون الإيمان أخص من التصديق.
الفرق الثاني: أن الإيمان وإن كان يتضمن التصديق فليس هو مجرد التصديق، وإنما هو الإقرار والطمأنينة، وذلك لأن التصديق إنما يعرض للخبر فقط، فأما الأمر فليس فيه تصديق من حيث هو أمر وكلام الله خبر وأمر، فالخبر يستوجب تصديق المخبر والأمر يستوجب الانقياد له والاستسلام، وهو عمل في القلب جماعه الخضوع والانقياد للأمر، وإن لم يفعل المأمور به فإذا قوبل الخبر بالتصديق والأمر بالانقياد فقد حصل أصل الإيمان في القلب وهو الطمأنينة والإقرار.
الفرق الثالث: لفظ التصديق في اللغة يقابل التكذيب، ولفظ الإيمان يقابل الكفر، فالإيمان تصديق مع موافقة وموالاة وانقياد، والتصديق جزء من مسمى الإيمان.
[1] انظر: مجموع الفتاوى (7/122، 196، 290، 529)، وشرح الأصبهانية (669)، والصارم المسلول (3/966)، وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (2/470) [مؤسسة الرسالة، ط13، 1419هـ].
خالف المرجئة بجميع أصنافهم في حقيقة التصديق المطلوب شرعًا، فكانوا على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: مرجئة الفقهاء، ومن وافقهم، فقد جعلوا التصديق باللسان والقلب كافيًا في ثبوت الإيمان الكامل، دون التصديق بالعمل[1].
الدرجة الثانية: وهم الجهمية، ومن وافقهم من الأشعرية، فقد جعلوا التصديق بالقلب فقط كافيًا في تحقيق الإيمان الكامل، دون تصديق اللسان والعمل[2].
الدرجة الثالثة: وهم الكرامية حيث جعلوا التصديق باللسان وحده كاف في تحقيق الإيمان الكامل، دون تصديق القلب والجوارح[3].
وهذه المذاهب الثلاثة باطلة بنص القرآن والسُّنَّة والإجماع، فلا بد من تصديق القلب وعمله، وتصديق اللسان، وتصديق الجوارح في تحقيق الإيمان الكامل.
فمن القرآن: قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ *الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال] .
فبيَّن أن جميع ما تقدم من الأمور القلبية، والأعمال الظاهرة مما يصير بها المؤمن مؤمنًا، فلا بد من تصديق القلب والقول والعمل إذا[4].
وأما من السُّنَّة: فمنها حديث شعب الإيمان المشهور عن رسول الله؛ أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان»[5].
قال ابن جرير الطبري رحمه الله: «فإذا كان الإيمان في كلامها ـ يعني: في كلام العرب ـ: التصديق، والتصديق يكون بالقلب واللسان والجوارح، وكان تصديق القلب: العزم والإذعان، وتصديق اللسان الإقرار، وتصديق الجوارح السعي والعمل، كان المعنى الذي يستحق العبد المدح، والولاية من المؤمنين هو إتيانه بهذه المعاني الثلاثة»[6].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «وبكل حال فالعمل تحقيق لمسمى الإيمان وتصديق له، ولهذا قال طائفة من العلماء؛ كالشيخ أبي إسماعيل الهروي، وغيره: الإيمان كله تصديق؛ فالقلب يصدق ما جاءت به الرسل، واللسان يصدق ما في القلب، والعمل يصدق القول؛ كما يقال: صدق عمله قوله»[7].
[1] انظر: شرح الفقه الأكبر للماتريدي (150) [مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية في الهند، ط1321هـ]، ومجموع الفتاوى (7/195).
[2] انظر: اللمع لأبي الحسن الأشعري (123) [1955م]، والإنصاف للباقلاني (52) [المكتبة الأزهرية للتراث، ط23، 1421هـ]، وأبكار الأفكار للآمدي (5/9) [مكتبة دار الكتب والوثائق القومية، ط2، 1424هـ].
[3] انظر: الإيمان لابن منده (1/331) [مطبعة الجامعة الإسلامية، ط1]، ومجموع الفتاوى (7/195).
[4] انظر: مسائل الإيمان لأبي يعلى (162) [دار العاصمة، ط1، 1410هـ].
[5] أخرجه البخاري (كتاب الإيمان، رقم 9)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 35) واللفظ له.
[6] تهذيب الآثار (2/685) [مطبعة المدني القاهرة].
[7] مجموع الفتاوى (7/555).
1 ـ «أعلام السُّنَّة المنشورة»، لحافظ حكمي.
2 ـ «آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام»، لعبد الله السند.
3 ـ «تعظيم قدر الصلاة»، للمروزي.
4 ـ «الحجة في بيان المحجة» (ج1)، للتيمي.
5 ـ «ذم التأويل»، لابن قدامة.
6 ـ «زيادة الإيمان ونقصانه»، لعبد الرزاق البدر.
7 ـ «الفصل في الملل والأهواء والنحل» (ج3)، لابن حزم.
8 ـ «مسائل الإيمان»، للقاضي أبي يعلى.
9 ـ «معارج القبول»، لحافظ الحكمي.
10 ـ «المفيد في مهمات التوحيد»، لعبد القادر محمد عطا صوفي.