قال ابن فارس: «الصاد والواو والراء كلمات كثيرة متباينة الأصول، وليس هذا الباب بباب قياس ولا اشتقاق»[1].
التصوير مشتق من الأصل الثلاثي: (صور) الدالُّ على إمالة الشيء إليك، وقيل: إنه مشتق من: صار يصير، وعليه تكون الصورة هي منتهى الأمر ومصيره. والفعل: صوَّر يصوِّر تصويرًا وصورة فهو مصَوِّر ومُصَوَّر؛ إذا جعل له هيئة وصورة، والصورة: الهيئة والخِلْقة والشكل، وما يُنتقش به الأعيان، والتصوير: نقش صورة الأشياء أو الأشخاص على لوح أو حائط ونحوه بالقلم أو بآلة التصوير[2]. فالصورة تأتي بمعنى حقيقة الشيء وهيئته وصفته، وبمعنى الصنف، والوجه، وتطلق على كل ما أخذ عن أصله مطابقًا له، وعلى ما يرسم في الذهن[3].
[1] مقاييس اللغة (3/319) [دار الجيل، 1420هـ].
[2] انظر: تهذيب اللغة (12/159) [دار إحياء التراث العربي، ط1، 2001م]، والصحاح للجوهري (2/716 ـ 717) [دار العلم للملايين، ط4، 1990م]، ومقاييس اللغة (3/320)، ومفردات ألفاظ القرآن للراغب (497) [دار القلم، ط2، 1418هـ]، والمعجم الوسيط (1/28) [دار الدعوة، ط2، 1972م].
[3] انظر: تهذيب اللغة (6/58، و12/160)، والصحاح للجوهري (2/705، 717)، والقاموس المحيط427) [مؤسسة الرسالة، ط8، 1426هـ]، ولسان العرب (4/473) [دار صادر، ط1]، ومعجم لغة الفقهاء (278) [دار النفائس، ط2، 1408هـ].
ذهب بعض الباحثين إلى أن التصوير لا يمكن تعريفه تعريفًا عامًّا؛ لاختلاف وسائله، ولا بدّ من تعريف كل نوع منه على النحو التالي:
ـ التصوير اليدوي: هو «فن تمثيل الأشخاص والأشياء بالألوان»[1].
ـ التصوير الضوئي الفوتوغرافي: هو «آلة تنقل صورة الأشياء المجسمة بانبعاث أشعة ضوئية من الأشياء تسقط على عدسة في جزئها الأمامي ومن ثم إلى شريط أو زجاج حساس في جزئها الخلفي، فتطبع عليه الصورة بتأثير الضوء فيه تأثيرًا كيمياويًّا»[2].
[1] أحكام التصوير في الفقه الإسلامي لمحمد بن أحمد واصل (38).
[2] المعجم الوسيط (1/528) [مكتبة الشروق الدولية، ط4، 1425هـ].
يحرم تصوير ذوات الأرواح من غير ضرورة؛ لما ثبت عن الله عزّ وجل ورسوله صلّى الله عليه وسلّم من تحريم ذلك، كما جاء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنه قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «قال الله عزّ وجل : ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة أو شعيرة» [1]. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم» [2]. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت محمدًا صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من صور صورة في الدنيا كُلِّف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ»[3].
[1] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، رقم 7559)، ومسلم (كتاب اللباس والزينة، رقم 2111).
[2] أخرجه البخاري (كتاب اللباس، رقم 5951)، ومسلم (كتاب اللباس والزينة، رقم 2108).
[3] أخرجه البخاري (كتاب اللباس، رقم 5963)، ومسلم (كتاب اللباس والزينة، رقم 2110).
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن أشد الناس عذابًا عند الله يوم القيامة المصورون»[1].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت محمدًا صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من صور صورة في الدنيا كُلِّف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ»[2].
وعن سعيد بن أبي الحسن قال: «جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إني رجل أصور هذه الصور، فأفتني فيها. فقال له: ادن مني. فدنا منه. ثم قال: ادن مني. فدنا حتى وضع يده على رأسه، قال: أنبئك بما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صوّرها نفسًا فتعذبه في جهنم» وقال: إن كنت لا بد فاعلاً، فاصنع الشجر، وما لا نَفْسَ له»[3].
وعن عائشة رضي الله عنها: «أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فقام النبي صلّى الله عليه وسلّم بالباب فلم يدخل، فقلت: أتوب إلى الله مما أذنبت، قال: ما هذه النمرقة؟ قلت: لتجلس عليها وتوسدها، قال: إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم، وإن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه الصورة»[4].
[1] أخرجه البخاري (كتاب اللباس، رقم 5950)، ومسلم (كتاب اللباس والزينة، رقم 2109).
[2] أخرجه البخاري (كتاب اللباس، رقم 5963)، ومسلم (كتاب اللباس والزينة، رقم 2110).
[3] أخرجه مسلم (كتاب اللباس والزينة، رقم 2110).
[4] أخرجه البخاري (كتاب اللباس، رقم 5957)، ومسلم (كتاب اللباس والزينة، رقم 2107).
قال النووي رحمه الله: «قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: تصوير صورة الحيوان شديد التحريم، وهو من الكبائر؛ لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد المذكور في الأحاديث، وسواء صنعه بما يمتهن، أو بغيره فصنعته حرام بكل حال؛ لأن فيه مضاهاة لخلق الله تعالى، وسواء ما كان في ثوب، أو بساط، أو درهم، أو دينار، أو فلس، أو إناء، أو حائط، أو غيرها، وأما تصوير صورة الشجر، ورحال الإبل، وغير ذلك، مما ليس فيه صورة حيوان فليس بحرام»[1].
وقال ابن حجر رحمه الله في حديث عائشة رضي الله عنها السابق: «وإنما قدم الجملة الأولى عليها؛ اهتمامًا بالزجر عن اتخاذ الصور؛ لأن الوعيد إذا حصل لصانعها فهو حاصل لمستعملها؛ لأنها لا تصنع إلا لتستعمل، فالصانع متسبب والمستعمل مباشر، فيكون أولى بالوعيد، ويستفاد منه: أنه لا فرق في تحريم التصوير بين أن تكون الصورة لها ظل أو لا، ولا بين أن تكون مدهونة أو منقوشة أو منقورة أو منسوجة، خلافًا لمن استثنى النسج وادّعى أنه ليس بتصوير»[2].
وقال ابن باز رحمه الله ردًّا على سوال نصّه: «ما قولكم في حكم التصوير الذي قد عمت به البلوى وانهمك فيه الناس؟ تفضلوا بالجواب الشافي عما يحل منه وما يحرم، أثابكم الله تعالى.
[1] شرح صحيح مسلم للنووي (14/81) [المطبعة المصرية بالأزهر، ط1، 1347هـ].
[2] فتح الباري لابن حجر (10/389 ـ 390).
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد، فقد جاءت الأحاديث الكثيرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في الصحاح والمسانيد والسنن دالة على تحريم تصوير كل ذي روح، آدميًّا كان أو غيره، وهتك الستور التي فيها الصور، والأمر بطمس الصور ولعن المصورين، وبيان أنهم أشد الناس عذابًا يوم القيامة. وأنا أذكر لك جملة من الأحاديث الصحيحة الواردة في هذا الباب... وهذه الأحاديث وما جاء في معناها دالة دلالة ظاهرة على تحريم التصوير لكل ذي روح، وأن ذلك من كبائر الذنوب المتوعد عليها بالنار. وهي عامة لأنواع التصوير، سواء كان للصورة ظل أم لا، وسواء كان التصوير في حائط أو ستر أو قميص أو مرآة أو قرطاس أو غير ذلك؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يفرق بين ما له ظل وغيره، ولا بين ما جعل في ستر أو غيره؛ بل لعن المصور، وأخبر أن المصورين أشد الناس عذابًا يوم القيامة، وأن كل مصور في النار، وأطلق ذلك ولم يستثنِ شيئًا»[1].
[1] مجموع فتاوى ابن باز (4/210 ـ 215) [جمع: محمد الشويعر، دار القاسم للنشر، ط1، 1420هـ].
ينقسم التصوير إلى عدة أقسام، فهو باعتبار الوسيلة التي يتم بها التصوير ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: التصوير اليدوي، وهو ما يتم بمباشرة اليد لعملية التصوير، بالقلم أو الفرشة أو المنشار أو المنحات ونحو ذلك[1].
القسم الثاني: التصوير الآلي، وهو: «العلم والفن المعنيان بتكوين وتثبيت صورة على شريط أو لوح صنع حساسًا للضوء»[2].
والتصوير الآلي أنواع:
1 ـ التصوير الفوتوغرافي: وهو التقاط الصورة عن طريق جهاز الكاميرا من خلال تصويبه نحو الهدف[3].
2 ـ التصوير السينمائي: وهو الذي ينقل الصورة المتحركة مع الصوت لمدة زمنية محددة[4].
3 ـ التصوير التلفزيوني: وهو «الذي ينقل الصوت والصورة في وقت واحد بطريق الدفع الكهربي»[5].
4 ـ التصوير بالأشعة: وهو أنواع متعددة لأغراض مختلفة جدًّا، لكن العين الباصرة لا ترى عند التصوير إلا الأشعة الضوئية فقط[6].
وأما التصوير باعتبار الصورة فهو من جهة الروح ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: تصوير ما له روح؛ كالإنسان والحيوان، وهذا النوع من التصوير حرام للنصوص السابقة. ويستثنى منه ما تمس إليه الحاجة فيباح منه على قدر الحاجة.
القسم الثاني: تصوير ما ليس له روح؛ كالأنهار والبحار والجبال والشمس والقمر، وهذا مباح[7].
وباعتبار الجسم وعدمه ينقسم إلى قسمين أيضًا:
القسم الأول: الصورة المجسمة، وهي كل صورة لها جسم شاخص، ويكون لها ظل إذا قابلت الضوء[8].
القسم الثاني: الصورة المسطحة أو غير المجسمة.
[1] انظر: أحكام التصوير في الفقه الإسلامي (63).
[2] الموسوعة العربية الميسرة (1/528)، وأحكام التصوير في الفقه الإسلامي (61 ـ 62).
[3] انظر: المصدر السابق (64).
[4] انظر: المصدر السابق (65).
[5] انظر: أحكام التصوير في الفقه الإسلامي (65، والموسوعة العربية الميسرة (1/544).
[6] انظر: أحكام التصوير في الفقه الإسلامي (67 ـ 68).
[7] انظر: مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (2/264) [دار الوطن ودار الثريا، 1413هـ].
[8] انظر: أحكام التصوير في الفقه الإسلامي (70 ـ 71).
المسألة الأولى: في مجيئ التصوير صفة لله عزّ وجل:
من أسماء الله الحسنى: اسم الله (المصور)، الدال على إثبات صفة التصوير لله على الوجه اللائق به تعالى، قال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىءُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الحشر: 24] .
ووصف الله بها نفسه فقال الله عزّ وجل : {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عمران: 6] ، وقال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64] ، وقال الله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ *الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ *فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ *} [الانفطار] . قال الأزهري: «فالمصور من صفات الله تعالى؛ لتصويره صور الخلق»[1]، وقال السمعاني: «وقوله: {الْمُصَوِّرُ} [الحشر: 24] هو التصوير المعلوم، يصور كل خلق على ما يشاء»[2]. وقال ابن كثير: «وقوله: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىءُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر: 24] الخلق: التقدير، والبرء: هو الفري، وهو التنفيذ وإبراز ما قدره وقرره إلى الوجود، وليس كل من قدر شيئًا ورتبه يقدر على تنفيذه وإيجاده سوى الله عزّ وجل، قال الشاعر يمدح آخر:
ولأنتَ تفري ما خلقتَ وبعــضُ القومِ يخلقُ ثم لا يفري
أي: أنت تنفذ ما خلقت؛ أي: قدرت، بخلاف غيرك؛ فإنه لا يستطيع ما يريد. فالخلق: التقدير. والفري: التنفيذ. ومنه يقال: قدر الجلاد ثم فرى؛ أي: قطع على ما قدره بحسب ما يريده.
وقوله تعالى: {الْخَالِقُ الْبَارِىءُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر: 24] ؛ أي: الذي إذا أراد شيئًا قال له: كن، فيكون على الصفة التي يريد، والصورة التي يختار؛ كقوله: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ *} [الانفطار] ، ولهذا قال: {الْمُصَوِّرُ}؛ أي: الذي ينفذ ما يريد إيجاده على الصفة التي يريدها»[3].
وقال الشنقيطي: «و{الْمُصَوِّرُ} المشكّل لكل موجود على الصورة التي أوجده عليها، ولم يفرد كل فرد من موجوداته على صورة تختص به إلا الله سبحانه وتعالى، كما هو موجود في خلق الله للإنسان والحيوان والنبات كل في صورة تخصه»[4].
المسألة الثانية: فيما قيل من التفريق في الحكم بين الصورة المجسمة والصورة غير المجسمة:
ذهب بعض أهل العلم إلى أن التصوير المحرم هو تصوير ما كان له ظل، وأما ما ليس له ظل فهو جائز مطلقًا، وعزا النووي هذا القول إلى محمد بن القاسم[5]، وعزاه إليه أيضًا ابنُ حجر؛ فذكر أنه «نقله ابن أبي شيبة عن القاسم بن محمد بسند صحيح»[6]، ثم ساق لفظه.
ومحمد بن القاسم هذا هو أحد الفقهاء السبعة في عصر التابعين، فـ«يحتمل أنه تمسك بعموم قوله: «إلا رقمًا في ثوب»؛ فإنه أعم من أن يكون معلقًا أو مفروشًا»[7].
وهذا الحديث قطعة من حديث بسر بن سعيد عن زيد بن خالد عن أبي طلحة رضي الله عنه صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه الصورة» ، قال بسر: ثم اشتكى زيد فعدناه، فإذا على بابه ستر فيه صورة، فقلت لعبيد الله ـ ربيب ميمونة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم ـ: ألم يخبرنا زيد عن الصور يوم الأول؟ فقال عبيد الله: ألم تسمعه حين قال: إلا رقمًا في ثوب» [8]. وأشار ابن باز إلى من تعلق بهذا الحديث على هذا التفريق فقال: «وأما ما ورد عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة إلا رقمًا في ثوب» ، فهذا الحديث لا شك في صحته، وقد تعلق به بعض من أجاز الصور الشمسية»[9]، وقال الشيخ أيضًا: «ولعل زيدًا رضي الله عنه لم يعلم الستر المذكور، أو لم تبلغه الأحاديث الدالة على تحريم تعليق الستور التي فيها الصور، فأخذ بظاهر قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إلا رقمًا في ثوب» فيكون معذورًا لعدم علمه بها.
وتبنى بعض المتأخرين هذا القول وتعلقوا لإثباته ـ إضافة إلى هذا الحديث ـ بقوله تعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64] ، كما جاء في سؤال ورد على الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ عما كتبه أحدهم في مجلة «الهدي النبوي» من الفتوى بشأن التصوير الشمسي، والفتوى بجوازه مطلقًا واستدلاله بالحديث والآية السابقين[10].
ومما احتجوا به أيضًا زعمهم أن التصوير الشمسي هو «نظير ظهور الوجه في المرآة ونحوها من الصقيلات»[11].
[1] تهذيب اللغة (12/160).
[2] تفسير السمعاني (5/410) [دار الوطن، الرياض، ط1، 1418هـ].
[3] تفسير ابن كثير (8/80) [دار طيبة، ط2، 1420هـ].
[4] أضواء البيان (8/77) [دار الفكر، 1415هـ].
[5] انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (14/82) [دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط2، 1392هـ].
[6] فتح الباري لابن حجر (10/388).
[7] المصدر نفسه.
[8] أخرجه البخاري (كتاب اللباس، رقم 5957)، ومسلم (كتاب اللباس والزينة، رقم 2107).
[9] مجموع فتاوى ابن باز (3/224).
[10] انظر: فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (1/183)، جمع وترتيب: محمد بن القاسم [مطبعة الحكومة بمكة المكرمة، ط1، 1399هـ].
[11] انظر: فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (1/187).
لا شكَّ أن هذا التفريق في الحكم بين الصورة المجسمة فتحرم، وغير المجسمة فتحل هو تفريق غير صحيح؛ لأمور:
الأمر الأول: مصادمته لعموم الأحاديث التي فيها النهي عن التصوير ولعن المصورين وبيان جزائهم يوم القيامة، كما تقدمت تحت فقرة الأدلة.
ولذا ردَّ عليهم سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بقوله: «وجوابي عن ذلك أن أقول: تصوير ما له روح لا يجوز، سواء في ذلك ما كان له ظل وما لا ظل له، وسواء كان في الثياب والحيطان والفرش والأوراق وغيرها. هذا الذي تدل عليه الأحاديث الصحيحة؛ كحديث مسروق الذي في البخاري، قال: سمعت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون» [1]... فهذه الأحاديث الصحيحة وأمثالها دلَّت بعمومها على منع التصوير مطلقًا»[2].
وقال أيضًا: «وأما الصور المخططة في البياض من الورق وغيره فهي ملحقة بها في التحريم، لعموم الأدلة، ولوجود حقيقة العلة. نعم بعض من كان لهم نصيب من اتباع المتشابه وترك المحكم يتعلقون بحديث: «إلا رقمًا في ثوب» ، فلا يمنعون من الصور إلا ما كان مجسدًا. وأتباع الأئمة الأربعة وسائر السلف على المنع عملاً بالمحكم إلا من شذ، وتقديمًا له على المتشابه، وحمل المتشابه على حالة لا تعارض المحكمات»[3].
وقال ابن باز بعد أن سرد جملة من الأحاديث الواردة في هذا الباب: «إن الأحاديث الواردة في تحريم التصوير، ولعن المصورين، والتصريح بأنهم أشد الناس عذابًا يوم القيامة مطلقة عامة، ليس فيها تقييد ولا استثناء، فوجب الأخذ بها والتمسك بعمومها وإطلاقها»[4].
الأمر الثاني: مخالفته لصريح حديث عائشة رضي الله عنها: «أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فقام النبي صلّى الله عليه وسلّم بالباب فلم يدخل، فقلت: أتوب إلى الله مما أذنبت. قال: «ما هذه النمرقة؟» قلت: لتجلس عليها وتوسدها، قال: «إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم، وإن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه الصورة»»[5].
قال النووي: «وقال بعض السلف: إنما ينهى عما كان له ظل، ولا بأس بالصور التي ليس لها ظل، وهذا مذهب باطل؛ فإن الستر الذي أنكره النبي صلّى الله عليه وسلّم الصورة فيه لا يشك أحد أنه مذموم، وليس لصورته ظل، مع باقي الأحاديث المطلقة في كل صورة. وقال الزهري: النهي في الصورة على العموم، وكذلك استعمال ما هي فيه، ودخول البيت الذي هي فيه، سواء كانت رقمًا في ثوب أو غير رقم، وسواء كانت في حائط أو ثوب أو بساط ممتهن أو غير ممتهن، عملاً بظاهر الأحاديث، لا سيما حديث النمرقة الذي ذكره مسلم، وهذا مذهب قوي»[6].
وقال ابن تيمية في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إلا رقمًا في ثوب» [7]: «فالمراد بها ـ والله أعلم ـ: ما رقم من الصور التي لا روح فيها أو كان يوطأ ويداس من الصور في الثياب»[8].
وردَّ ابن باز بوجوه كثيرة على من قال بالتفريق اعتمادًا منه على حديث: «إلا رقمًا في ثوب» ، منها: «أنه صلّى الله عليه وسلّم لما رأى الصور المشبهة للشمسية، وهي الصور الموجودة في الستور والحيطان، غضب وتلون وجهه، وأمر بهتك الستور التي فيها الصور، ومحو الصور التي في الجدران، وباشر محوها بنفسه لما رآها في جدران الكعبة...
ومنها: أن الاستثناء المذكور، إنما ورد في سياق الأحاديث الدالة على امتناع الملائكة من دخول البيت الذي فيه تصاوير، ولم يرد في سياق الأحاديث المانعة من التصوير، وفرق عظيم بين الأمرين.
ومنها: أن قوله: «إلا رقمًا في ثوب» يجب أن يحمل على النقوش التي ليست بصور، أو على الصور التي قطع رأسها أو طمس، أو التي في الثياب التي تمتهن باتخاذها وسائد وبسطًا ونحو ذلك، لا فيما ينصب ويرفع كالستور على الأبواب والجدران والملابس، فإن الأحاديث الصحيحة صريحة في تحريم ذلك، وأنه يمنع من دخول الملائكة كما ورد ذلك في حديث عائشة وأبي هريرة وغيرهما.
وبما ذكرناه يتضح الجمع بين الأحاديث وأن الاستثناء إنما ورد في سياق الأحاديث الدالة على امتناع دخول الملائكة البيت الذي فيه الصور، وأن المراد بها الصور الممتهنة في الوسائد والبسط ونحوها، أو مقطوعة الرأس، والله ولي التوفيق»[9]. وعليه فـ«من علم الأحاديث الصحيحة، الدالة على تحريم نصب الستور التي فيها الصور، فلا عذر له في مخالفتها. ومتى خالف العبد الأحاديث الصحيحة الصريحة اتّباعًا للهوى، أو تقليدًا لأحد من الناس، استوجب غضب الرب ومقته، وخيف عليه من زيغ القلب وفتنته»[10].
الأمر الثالث: أن كلًّا من الصورتين المجسمة وغير المجسمة يطلق عليهما: صورة، لغةً وشرعًا وعرفًا، والقول بأن حقيقة الصورة يطلق على الصورة المجسمة فقط هو خروج عن اللغة والشرع والعرف، وهو مردود. أما اللغة والشرع فقد تقدم بيانهما، وأما العرف فحتى القائلون بالتفريق في الحكم بينهما يسمون الصورة غير المجسمة بالصورة، وما دام اسم الصورة يطلق عليها فإن الحكم الشرعي ـ وهو تحريم التصوير بصفة عامة ـ يشملها ويعمها.
وأما استدلالهم بالآية وهي قوله تعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64] فهو استدلال فاسد؛ فإن جعلهم الآية «معارضة لما دلَّت عليه النصوص النبوية بعمومها تارة وبظاهرها أخرى فهذا من أفحش الغلط، ومن أبين تحريف الكلم عن مواضعه، فإن التصوير الشمسي وإن لم يكن مثل المجسد من كل وجه فهو مثله في علة المنع، وهي إبراز الصورة في الخارج بالنسبة إلى المنظر»[11].
و«زعم بعض مجيزي التصوير الشمسي أنه نظير ظهور الوجه في المرآة ونحوها من الصقيلات»[12]، فهذا جمع بين المختلفات وقياس مع الفارق، وهو«فاسد؛ فإن ظهور الوجه في المرآة ونحوها شيء غير مستقر، وإنما يرى بشرط بقاء المقابلة، فإذا فقدت المقابلة فقد ظهور الصورة في المرآة ونحوها، بخلاف الصورة الشمسية، فإنها باقية في الأوراق ونحوها مستقرة، فإلحاقها بالصور المنقوشة باليد أظهر وأوضح وأصح من إلحاقها بظهور الصورة في المرآة ونحوها، فإن الصورة الشمسية وبدوّ الصورة في الأجرام الصقيلة ونحوها يفترقان في أمرين:
أحدهما: الاستقرار والبقاء.
الثاني: حصول الصورة عن عمل ومعالجة. فلا يطلق لا لغة ولا عقلاً ولا شرعًا على مقابل المرآة ونحوها أنه صور ذلك، ومصور الصور الشمسية مصور لغة وعقلاً وشرعًا، فالمسوي بينهما مسوٍّ بين ما فرق الله بينه. والمانعون منه قد سووا بين ما سوى الله بينه، وفرقوا بين ما فرق الله بينه، فكانوا بالصواب أسعد، وعن فتح أبواب المعاصي والفتن أنفر وأبعد، فإن المجيزين لهذه الصور جمعوا بين مخالفة أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونفث سموم الفتنة بين العباد بتصوير النساء الحسان، والعاريات الفتان، في عدة أشكال وألوان، وحالات يقشعر لها كل مؤمن صحيح الايمان، ويطمئن إليها كل فاسق وشيطان»[13].
وقال ابن باز: «وكل من تأمل الأحاديث الواردة في هذا الباب، وما أحدثه الناس اليوم من التوسع في التصوير، وانتشاره في كل مكان، والعناية بتصوير الزعماء والرؤساء والنساء الخليعات وغيرهم، علم الكثير من حكمة الشارع في النهي عن التصوير والتحذير منه، وعرف الكثير من مفاسد ذلك ومضاره على المجتمع في دينه وأخلاقه، وفي دنياه وسلوكه وفي سائر أحواله وشؤونه، ولقد غلط غلطًا فاحشًا من فرّق بين التصوير الشمسي والتصوير النحتي، وبعبارة أخرى بين التصوير الذي له ظل والذي لا ظل له؛ لأن الأحاديث الصحيحة الواردة في هذه المسألة تعم النوعين وتنتظمهما انتظامًا واحدًا، ولأن المضار والمفاسد التي في التصوير النحتي وما له ظل مثل المفاسد والأضرار التي في التصوير الشمسي؛ بل التصوير الشمسي أعظم ضررًا وأكثر فسادًا من وجوه كثيرة»[14].
المسألة الثالثة: فيما يباح تصويره:
الحديث على هذه المسألة يشمل أمرين:
الأمر الأول: تصوير ما ليس له روح:
حكم هذا الأمر قد يكون مفهومًا من المسألة الثانية، ولكن لا بد من إبرازه هنا.
وعليه؛ فتصوير ما لا روح فيه جائز، وبه قال الجمهور[15]، وجاء ما يدل عليه عن سعيد بن أبي الحسن قال: «جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إني رجل أصور هذه الصور فأفتني فيها، فقال له: ادن مني، فدنا منه، ثم قال: ادن مني، فدنا حتى وضع يده على رأسه، قال: أنبئك بما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفسًا فتعذبه في جهنم» ، وقال: إن كنت لا بد فاعلاً فاصنع الشجر وما لا نفس له»[16].
وقال ابن باز: «فإن الأستوديو يصور الجائز والممنوع، فإذا صور فيه ما هو جائز من السيارات والطائرات والجبال وغيرها مما ليس فيه روح، فلا بأس أن يبيع ذلك ويصور هذه الأشياء التي قد يحتاج إليها الناس وليس فيها روح»[17].
وذهب بعض أهل العلم كمجاهد والقرطبي[18] إلى منع التصوير مطلقًا، سواء كان له روح أم لا. واحتجوا بعموم الأحاديث المانعة من التصوير؛ كحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن أشد الناس عذابًا عند الله يوم القيامة المصورون» [19]، وبحديث: «ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقًا كخلقي» [20]، وحديث: «أشد الناس عذابًا عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله»[21].
والحق أن هذه الأحاديث وما في معناها محمولة على تصوير ما له روح، كما فعل ابن عباس رضي الله عنهما، حيث أفتى السائل بقوله: «فاصنع الشجر وما لا نفس له»[22]. وفي بعضها القرينة واضحة؛ كقوله: «يقال لهم: أحيوا ما خلقتم» [23]، فقوله: «أحيوا ما خلقتم» قرينة قوية توضح أن المقصود بالصور المنهي عنها والمتوعد على صناعتها واستعمالها هي صور ذوات الأرواح[24].
قال النووي: «وأما الشجر ونحوه مما لا روح فيه فلا تحرم صنعته ولا التكسب به، وسواء الشجر المثمر وغيره، وهذا مذهب العلماء كافة إلا مجاهدًا، فإنه جعل الشجر المثمر من المكروه. قال القاضي: لم يقله أحد غير مجاهد، واحتج مجاهد بقوله تعالى: «ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقًا كخلقي» [25]، واحتج الجمهور بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم» ؛ أي: اجعلوه حيوانًا ذا روح كما ضاهيتم، وعليه رواية: «ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقًا كخلقي» [26]، ويؤيده حديث ابن عباس رضي الله عنهما المذكور فى الكتاب: «إن كنت لا بد فاعلاً فاصنع الشجر وما لا نفس له»[27][28].
الأمر الثاني: تصوير ما له روح عند الاضطرار:
وأما تصوير ما فيه روح عند الاضطرار فلا بأس به، لكن لا بد من تقدير هذه الضرورة بقدرها، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] . قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}: «إلا في حال الاضطرار، فإنه يباح لكم ما وجدتم»[29]. وقال ابن باز: «أما تصوير ذوات الأرواح من بني الإنسان أو الدواب والطيور فلا يجوز إلا للضرورة، كما لو صور شيئًا مما يضطر إليه الناس كالتابعية التي يحتاجها الناس، وتسمى حفيظة النفوس، فلا بأس، وهكذا جواز السفر، والشهادة العلمية التي لا تحصل إلا بالصورة، وهكذا تصوير المجرمين ليُعرَفوا ويتحرز من شرهم، وهكذا أشباه ذلك مما تدعو إليه الضرورة»[30].
[1] أخرجه البخاري (كتاب اللباس، رقم 5950)، ومسلم (كتاب اللباس والزينة، رقم 2109).
[2] فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (1/183 ـ 184).
[3] فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم (1/180).
[4] مجموع فتاوى ابن باز (3/224).
[5] أخرجه البخاري (كتاب اللباس، رقم 5957).
[6] انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (14/82).
[7] أخرجه البخاري (كتاب اللباس، رقم 5958)، ومسلم (كتاب اللباس والزينة، رقم 2106).
[8] شرح العمدة لابن تيمية (395) [دار العاصمة، ط1].
[9] مجموع فتاوى ابن باز (3/224 ـ 225).
[10] المصدر نفسه (4/218).
[11] فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم (1/186).
[12] المصدر السابق (1/187).
[13] المصدر السابق (1/187).
[14] تقدمة الشيخ ابن باز لكتاب: إعلان النكير على المفتونين بالتصوير لحمود التويجري (3 ـ 4) [دار الهجرة].
[15] انظر: تفسير القرطبي (13/221) [دار الكتب المصرية، ط2، 1384هـ]، ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (7/2855) [دار الفكر، ط1، 1422هـ].
[16] أخرجه مسلم (كتاب اللباس والزينة، رقم 2110).
[17] مجموع فتاوى ابن باز (6/380).
[18] انظر: تفسير القرطبي (13/221، و222).
[19] أخرجه البخاري (كتاب اللباس، رقم 5950)، ومسلم (كتاب اللباس والزينة، رقم 2109).
[20] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، رقم 7559)، ومسلم (كتاب اللباس والزينة، رقم 2111).
[21] أخرجه البخاري (كتاب اللباس، رقم 5954)، ومسلم (كتاب اللباس والزينة، رقم 2107) واللفظ له.
[22] أخرجه مسلم (كتاب اللباس والزينة، رقم 2110).
[23] أخرجه البخاري (كتاب اللباس، رقم 5951)، ومسلم (كتاب اللباس والزينة، رقم 2108).
[24] انظر: أحكام التصوير في الفقه الإسلامي (176).
[25] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، رقم 7559)، ومسلم (كتاب اللباس والزينة، رقم 2111).
[26] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، رقم 7559)، ومسلم (كتاب اللباس والزينة، رقم 2111).
[27] أخرجه مسلم (كتاب اللباس والزينة، رقم 2110).
[28] شرح النووي على مسلم (14/91).
[29] تفسير ابن كثير (3/323).
[30] مجموع فتاوى ابن باز (6/380).
الفرق بين التصوير والخلق والبَرء:
لفظ التصوير والخلق والبرء كلها متقاربة المعنى، وهي مراحل الخلق والإيجاد من العدم، دلَّ عليها قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىءُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر: 24] ، وفي بيان الفروق بينها قال القرطبي: «الخالق هنا: المقدر، والبارئ: المنشئ المخترع، والمصور: مصور الصور ومركبها على هيئات مختلفة؛ فالتصوير مرتب على الخلق والبراية وتابع لهما. ومعنى التصوير: التخطيط والتشكيل. وخلق الله الإنسان في أرحام الأمهات ثلاث خِلَق: جعله علقة، ثم مضغة، ثم جعله صورة، وهو التشكيل الذي يكون به صورة وهيئة يعرف بها ويتميز عن غيره بسمتها. فتبارك الله أحسن الخالقين...
وقد جعل بعض الناس الخلق بمعنى التصوير، وليس كذلك، وإنما التصوير آخِرًا والتقدير أولاً والبراية بينهما. ومنه قول الحق: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} [المائدة: 110] »[1].
وقال الشنقيطي: «فالخالق: هو المقدر قبل الإيجاد. والبارئ: الموجد من العدم على مقتضى الخلق والتقدير، وليس كل من قدر شيئًا أوجده إلا الله. والمصور: المشكّل لكل موجود على الصورة التي أوجده عليها، ولم يفرد كل فرد من موجوداته على صورة تختص به إلا الله سبحانه وتعالى، كما هو موجود في خلق الله للإنسان والحيوان والنبات، كل في صورة تخصه»[2].
[1] تفسير القرطبي (18/48).
[2] أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (8/77).
هناك آثار سيئة للتصوير، منها:
ـ ظهور الشرك بين قوم نوح كما هو مبين في الفقرة التالية.
ـ انحراف كثير من الناس و«نفث سموم الفتنة بين العباد بتصوير النساء الحسان، والعاريات الفتان في عدة أشكال وألوان، وحالات يقشعر لها كل مؤمن صحيح الإيمان، ويطمئن إليها كل فاسق وشيطان»[1].
ـ بسبب انتشار الصور أصيب كثير من المسلمين بقلة الإحساس بما يخالف الدين وفشو الجهل بين كثير منهم قال الشيخ حمود التويجري: «وقد عظُمت البلوى بصناعة الصور وبيعها وابتياعها، وافتتن باقتنائها واقتناء الجرائد والمجلات والكتب التي فيها ذلك كثير من المنتسبين إلى العلم من معلمين ومتعلمين فضلاً عن غيرهم، وصار نصبها في المجالس والدكاكين عادة مألوفة عند كثير من الناس، ومن أنكر ذلك عليهم أو أنكر صناعتها فأقل الأحوال أن يستهزئوا به، ويهمزوه ويلمزوه، وهذا دليل على استحكام غربة الإسلام وظهور الجهل بما بعث الله به رسوله محمدًا صلّى الله عليه وسلّم وما أمر به من هدم الأوثان وكسر الأصنام والصلبان وطمس الصور ولطخها، فالله المستعان.
وهذا المنكر الذميم ـ أعني: صناعة الصور ونصبها في المجالس وغيرها ـ موروث عن قوم نوح، ثم عن النصارى ومن بعدهم، وكذلك عن مشركي العرب، فإنهم كانوا يصنعون الصور وينصبونها»[2].
[1] فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم (1/187).
[2] إعلان النكير على المفتونين بالتصوير للتويجري (9).
الحكمة من تحريم التصوير:
أولاً: أنه وسيلة إلى الغلو فيها، وربما يؤدي في النهاية إلى الوقوع في الشرك بالله، من الخضوع للصور والتقرب إليها وتقديسها كما حصل لقوم نوح، فقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا *} [نوح] أنه قال عن هؤلاء أنهم: «أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت»[1]. قال ابن حجر: «والمشهور أنهم كانوا على صورة البشر، وهو مقتضى ما تقدم من الآثار في سبب عبادتها»[2].
فأضلَّت كثيرًا من الناس كما قال تعالى: {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [نوح: 24] ، قال الإمام ابن كثير: «يعني: الأصنام التي اتخذوها أضلوا بها خلقًا كثيرًا، فإنه استمرت عبادتها في القرون إلى زماننا هذا في العرب والعجم وسائر صنوف بني آدم»[3].
الأمر الثاني: أنه لما في التصوير من المضاهاة لخلق الله، كما ثبت من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «دخل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل، فلما رآه هتكه، وتلون وجهه، وقال: «يا عائشة! أشد الناس عذابًا عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله» . قالت عائشة: فقطعناه، فجعلنا منه وسادة أو وسادتين»[4].
وعن أبي زرعة قال: دخلت مع أبي هريرة رضي الله عنه في دار مروان فرأى فيها تصاوير، فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «قال الله عزّ وجل : ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقًا كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة»[5].
[1] أخرجه البخاري (كتاب التفسير، رقم 4920).
[2] فتح الباري لابن حجر (8/669).
[3] تفسير ابن كثير (8/236).
[4] أخرجه البخاري (كتاب اللباس، رقم 5954)، ومسلم (كتاب اللباس والزينة، رقم 2107) واللفظ له.
[5] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، رقم 7559)، ومسلم (كتاب اللباس والزينة، رقم 2111).
1 ـ «أحكام التصوير في الفقه الإسلامي»، لمحمد بن أحمد واصل.
2 ـ «أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن» (ج8)، للشنقيطي.
3 ـ «إعلان النكير على المفتونين بالتصوير»، لحمود بن عبد الله التويجري.
4 ـ «التصوير: أنواعه وحكمه»، لعبد الله بن عبد الحميد.
5 ـ «تفسير السمعاني» (ج5).
6 ـ «فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ» (ج1).
7 ـ «فتح الباري» (ج11)، لابن حجر.
8 ـ «مجموع فتاوى ورسائل الشيخ عبد العزيز بن باز» (ج3).
9 ـ «الملخص في شرح كتاب التوحيد»، لصالح الفوزان.
10 ـ «شرح صحيح مسلم» (ج14)، للنووي.