تدور معاني المفاضلة حول المقارنة بين أمرين في صفة ما وغلبة أحدهما فيه. قال ابن فارس رحمه الله: «الفاء والضاد واللام أصل صحيح يدل على زيادة في شيء. من ذلك الفضْلُ: الزيادة والخير. والإفضال: الإحسان. ورجل مُفْضِل. ويقال: فضَل الشيء يفضُل، وربما قالوا: فضِل يفضُل، وهي نادرة. وأما المتفضِّل فالمدعي للفضل على أضرابه وأقرانه. قال الله تعالى في ذكر من قال: {مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} [المؤمنون: 24] »[1].
وقال ابن منظور رحمه الله: «والتفاضل: التمازي في الفضل. وفضله: مزاه. والتفاضل بين القوم: أن يكون بعضهم أفضل من بعض. ورجل فاضل: ذو فضل. ورجل مفضول: قد فضله غيره. ويقال: فضل فلان على غيره إذا غلب بالفضل عليهم. وقوله تعالى: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً *} [الإسراء] »[2].
[1] مقاييس اللغة (4/508) [دار الجيل، ط2].
[2] لسان العرب (11/524) [دار صادر، ط1].
حقيقة التفاضل: هو التمازي في الفضل كما تقدم، ويقع التفاضل بين أسماء الله؛ كتفضيل اسم الله الأعظم على سائر الأسماء الحسنى، وبين صفاته؛ كتفضيل صفة الرحمة على صفة الغضب وسبقها له، وبين أمره ونهيه؛ فما ينسخ الله من آية سواء كان فيها أمر أو نهي إلا ويأتي بخير منها، وبين الملائكة؛ كتفضيل جبريل على سائرهم، وبين الكتب؛ كتفضيل القرآن على الكتب السابقة،حيث جعله الله مهيمنًا عليها، وحجة باقية ومعجزة خالدة إلى قيام الساعة، وبين الأنبياء والرسل؛ كتفضيل أولي العزم على سائر الأنبياء، ومن أولي العزم الخليلان، وأفضل الخليلين محمد عليهم السلام، وبين الصحابة؛ كتفضيل الصديق على هذه الأمة، وبين الأمكنة؛ كتفضيل المسجد الحرام على سائر المساجد، ثم بعده المسجد النبوي، ثم المسجد الأقصى، وبين الأزمنة؛ كتفضيل شهر رمضان على سائر الشهور، وتفضيل يوم عرفة على سائر الأيام، وتفضيل ليلة القدر على سائر الليالي، وتفضيل بني آدم على كثير من خلق الله، إلى غير ذلك.
وردت نصوص عديدة في بيان تفاضل بعض الأمور على بعض فمن ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً *} [الإسراء] .
وقوله سبحانه: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعَضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا *} [الإسراء] .
وقوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ *} [الأنعام] .
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» [1].
وعنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» [2].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها: قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» [3].
[1] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3433)، ومسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2431).
[2] أخرجه البخاري (كتاب الرقاق رقم 6429).
[3] أخرجه البخاري (كتاب الإيمان، رقم 9)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 35).
المسألة الأولى: التفاضل بين أسماء الله الحسنى:
أسماء الله تعالى أفضل الأسماء وأحسنها، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] ، والحسنى تأنيث الأحسن وهو الأفضل، فدلَّ ذلك على أنها أحسن الأسماء وأفضلها، وهي فيما بينها تتفاضل أيضًا، فبعضها أفضل من بعض، وإن كانت لمسمى واحد وهو الله سبحانه، ومن أدلة ذلك ما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في غير ما حديث، منها حديث أنس رضي الله عنه أنه قال: «كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالسًا في الحلقة، ورجل قائم يصلي، فلما ركع وسجد فتشهد، ثم قال في دعائه: اللَّهُمَّ إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان، يا بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، إني أسألك، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أتدرون بما دعا الله؟» قال: فقالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «والذي نفسي بيده لقد دعا الله باسمه الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى»»[1].
فاسمه الأعظم أفضل من بقية الأسماء، وعليه ففي هذه الرواية وأمثالها «دلالة ظاهرة على تفاضل الأسماء الحسنى لدلالتها على أن في الأسماء الحسنى اسم أعظم يفضلها فهو أعظمها»[2].
ومنها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن لله تسعة وتسعين اسمًا مائة إلا واحدًا، من أحصاها دخل الجنة»[3].
فمن له هذه الخصوصية من أسماء الله الحسنى وهي أن من أحصاها دخل الجنة، لا شك أنه أفضل من الأسماء الأخرى.
المسألة الثانية: التفاضل بين صفات الله تعالى:
صفات الله كلها صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه، ومع ذلك فهي متفاوتة في الفضل، بعضها أفضل من بعض لدلالة النصوص على ذلك، منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لما قضى الله الخلق، كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي» [4]. وفي رواية: «سبقت غضبي»[5].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فوصف رحمته بأنها تغلب وتسبق غضبه، وهذا يدل على فضل رحمته على غضبه من جهة سبقها وغلبتها»[6].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: فقدت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان، وهو يقول: «اللَّهُمَّ أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك»[7].
ووجه الدلالة: أن المستعاذ به أفضل من المستعاذ منه[8].
بل؛ إن التفاضل قد يقع في الصفة الواحدة كالتفاضل في صفة الكلام ونحوها، فجميع الكتب المنزلة على أنبياء الله ورسله مع كونها كلام الله، فهي متفاوتة في الفضل، فالقرآن الكريم أفضلها قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة: 48] . وقال سبحانه: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر: 55] .
بل؛ إن القرآن متفاضل فيما بينه، فبعض آياته وسوره أفضل من بعض، فعن أبي بن كعب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا المنذر، أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قال: قلت: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] . قال: فضرب في صدري، وقال: والله ليهنك العلم أبا المنذر»[9].
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن؟» قالوا: وكيف يقرأ ثلث القرآن؟ قال: «{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *} تعدل ثلث القرآن»[10].
وعن النواس بن سمعان الكلابي، قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم، يقول: «يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة، وآل عمران» ، وضرب لهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد، قال: «كأنهما غمامتان، أو ظلتان سوداوان بينهما شرق، أو كأنهما حزقان من طير صواف، تحاجان عن صاحبهما»[11].
المسألة الثالثة: التفاضل بين الأنبياء والرسل عليهم السلام:
لقد اصطفى الله أنبياءه ورسله، فجعلهم هداة للخلق، وسفراء بينه وبينهم، فهم الواسطة بينه وبين عباده في تبليغ الدين، ثم فضَّل الله الأنبياء والرسل بعضهم على بعض، بخصائص ومميزات ليست لجميعهم؛ كالتكليم ورفع الدرجات ونحوهما كما في قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253] .
قال ابن كثير: «يخبر تعالى أنه فضل بعض الرسل على بعض كما قال: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعَضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا *} [الإسراء] ، وقال هاهنا: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة: 253] ؛ يعني: موسى ومحمدًا صلى الله عليهما وسلم وكذلك آدم، كما ورد به الحديث المروي في صحيح ابن حبان[12] عن أبي ذر رضي الله عنه»[13].
والرسول أفضل من النبي[14]، وأفضل الأنبياء والرسل: أولو العزم، وأفضلهم نبيُّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم.
فعن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورًا ومسجدًا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون»[15].
فهذه النصوص ـ وغيرها كثير ـ تدل على تفاضل الأنبياء فيما بينهم.
المسألة الرابعة: التفاضل بين الأنبياء والرسل وبين سائر البشر:
لا شكَّ أن الأنبياء والرسل عليهم السلام لا يلحقهم في الفضل وعلو القدر أحد من البشر كائنًا من كان، فقد اصطفاهم الله برسالاته، وجعلهم أمناءه على وحيه، وهداة خلقه، وحملة شرعه كما قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ *} [الحج] .
وقال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] .
وقال الله سبحانه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا *} [النساء] .
فأخبر الله تعالى أنه يصطفي لرسالاته من هو أهلٌ لها بعلمه الذي أحاط بكل شيء، وجعل الأنبياء في صدارة المنعم عليهم من البشر.
المسألة الخامسة: التفاضل بين الصحابة رضي الله عنهم:
لقد دلَّت النصوص من كتاب الله وسُنَّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم على فضل الصحابة رضي الله عنهم بصفة عامة، وأنهم عدول بتعديل الله ورسوله لهم، قال الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا *} [الفتح] .
وثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحد، ذهبًا ما بلغ مد أحدهم، ولا نصيفه»[16].
قال ابن حجر: «واتَّفق أهل السُّنَّة على أن الجميع عدول، ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة»[17].
ثم هم فيما بينهم متفاضلون وليسوا على درجة واحدة، فأفضلهم أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي أبو السبطين رضي الله عنهم. فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم فنخير أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم»[18].
وبعد الخلفاء الأربعة: بقية الستة من أصحاب الشورى، وهم: طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، ثم أهل بدر من المهاجرين، ثم أهل بدر من الأنصار، وذهب بعض العلماء إلى أن أفضل الصحابة بعد الأربعة: بقية العشرة من المبشرين بالجنة وهم: طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وأبو عبيدة بن الجراح، ثم أهل بدر، ثم أهل أُحد، ثم أهل بيعة الرضوان[19].
ومما ورد في تفضيل السابقين الأولين على من بعدهم قوله تعالى: {لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ *} [الحديد] .
وهناك تفاصيل كثيرة حول تفضيل أمهات المؤمنين وغيرهن يمكن الرجوع إلى بعض الكتب المختصة فيها[20].
المسألة السادسة: التفاضل بين المؤمنين في الإيمان:
المؤمنون ليسوا على درجة واحدة؛ بل هم متفاضلون فيما بينهم في الإيمان؛ لأن الإيمان يزيد بزيادة الطاعات، وينقص بارتكاب المعاصي واقتراف السيئات، وهذا يؤدي إلى تفاضل أهل الإيمان، كما دلَّ على ذلك الكتاب والسُّنَّة ومأثور سلف الأمة، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ *} [الأنفال] ، ففي هذه الآية التصريح بزيادة الإيمان، وكل ما كان قابلاً للزيادة فهو قابل للنقصان؛ ولذا قال ابن حجر وهو يتحدث عن استدلال البخاري على زيادة الإيمان: «ثم شرع المصنف يستدل لذلك بآيات من القرآن مصرحة بالزيادة، وبثبوتها يثبت المقابل؛ فإن كل قابل للزيادة قابل للنقصان ضرورة»[21].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها: قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» [22].
والناس يتفاوتون في الإتيان بهذه الشعب وفي تحقيقها قولاً وفعلاً واعتقادًا، فمنهم مكثر منها ومنهم مقل، وعلى هذا يقع التفاضل بينهم، فإيمان الأنبياء ليس كإيمان آحاد الناس، وهكذا.
وعلى ضوء هذه النصوص الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه أجمع السلف كما حكاه عنهم غير واحد، منهم الإمام البخاري: «لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحدًا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص»[23]
وأما النصوص الدالة على تفاضل المؤمنين فكثيرة؛ منها: قوله تعالى: {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا *} [النساء] .
ومما سبق يتضح أن التفاضل يقع بسبب الزيادة في الاعتقاد والقول والعمل لأن مسمى الإيمان يشمل هذه الثلاث.
وبناء على هذا التفاضل في الإيمان يقع التفاضل الأخروي بين المؤمنين في البرزخ والمحشر والحساب، والمرور بالصراط، إلى درجات الجنة[24].
المسألة السابعة: التفاضل بين الملائكة:
دلَّت النصوص الشرعية على وجود التفاضل بين الملائكة؛ منها: قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ *} [البقرة] .
ووجه الدلالة: أن التنصيص على جبريل وميكال مع شمول لفظ الملائكة لهما دالٌّ على تشريفهما[25].
وثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان إذا قام من الليل افتتح صلاته بقوله: «اللَّهُمَّ رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» [26]. يقول ابن القيم رحمه الله: «فذِكْرُ هؤلاء الثلاثة من الملائكة لكمال اختصاصهم، واصطفائهم، وقربهم من الله، وكم من ملك غيرهم في السماوات، فلم يسم إلا هؤلاء الثلاثة. فجبريل: صاحب الوحي الذي به حياة القلوب والأرواح، وميكائيل: صاحب القطر الذي به حياة الأرض والحيوان والنبات، وإسرافيل: صاحب الصُّور الذي إذا نفخ فيه أحيت نفخته بإذن الله الأموات، وأخرجتهم من قبورهم»[27].
[1] أخرجه أبو داود (كتاب الصلاة، رقم 1493)، والترمذي (أبواب الدعوات، رقم 3475) وحسَّنه، وابن ماجه (كتاب الدعاء، رقم 3857)، وأحمد (38/64) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وصححه الألباني في أصل صفة الصلاة (3/1016) [مكتبة المعارف، ط1، 1427هـ].
[2] مباحث المفاضلة في العقيدة 69).
[3] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، رقم 7392)، ومسلم (كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، رقم 2677).
[4] أخرجه البخاري (كتاب بدء الخلق، رقم 3194)، ومسلم (كتاب التوبة، رقم 2751).
[5] أخرجها البخاري (كتاب التوحيد، رقم، 7422)، ومسلم (كتاب التوبة رقم 2751).
[6] مجموع الفتاوى (17/91) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف، عام 1416هـ].
[7] أخرجه مسلم (كتاب الصلاة، رقم 486).
[8] انظر: مجموع الفتاوى (17/91).
[9] أخرجه مسلم (كتاب صلاة المسافرين وقصرها، رقم 810).
[10] أخرجه مسلم (كتاب صلاة المسافرين وقصرها، رقم 811) من حديث أبي الدرداء، وأخرجه البخاري أيضًا (كتاب فضائل القرآن، رقم 5015) من حديث أبي سعيد الخدري.
[11] أخرجه مسلم (كتاب كتاب صلاة المسافرين وقصرها رقم 805). وانظر لمزيد بيان حول هذه المسألة: مباحث المفاضلة في العقيدة (80).
[12] كما في الإحسان (كتاب التاريخ، رقم 6190) من حديث أبي أمامة، لا من حديث أبي ذر. وأخرجه أيضًا الحاكم (كتاب التفسير، رقم 3039) [دار الكتب العلمية، ط1]، وصححه الحاكم وابن كثير على شرط مسلم. انظر: البداية والنهاية (1/237) [دار هجر، ط1]، وصححه الألباني أيضًا في السلسلة الصحيحة (6/359) [مكتبة المعارف، ط1].
[13] تفسير ابن كثير (1/670) [دار طيبة، ط2].
[14] انظر: لوامع الأنوار للسفاريني (1/50) [مؤسسة الخافقين ومكتبتها، ط2، 1402هـ]، ومباحث المفاضلة في العقيدة (124).
[15] أخرجه مسلم (كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم 523).
[16] أخرجه البخاري (كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم رقم 3673)، ومسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2541).
[17] الإصابة في تمييز الصحابة (1/9) [دار نهضة مصر].
[18] أخرجه البخاري (كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، رقم 3655).
[19] انظر: تدريب الراوي (2/244 ـ 247) [دار العاصمة، ط1]، ومباحث المفاضلة في العقيدة (265).
[20] انظر على سبيل المثال: مباحث المفاضلة في العقيدة (274).
[21] فتح الباري لابن حجر (1/47) [دار المعرفة، بيروت، 1379هـ].
[22] أخرجه البخاري (كتاب الإيمان، رقم 9)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 35).
[23] نقله ابن حجر في الفتح (1/47) عن اللالكائي وصحح إسناده. وانظر: شرح أصول الاعتقاد (1/193 ـ 197).
[24] انظر: مباحث المفاضلة في العقيدة (384 ـ 413).
[25] تفسير القرطبي (2/36) [دار الكتب المصرية، ط2، 1384هـ].
[26] أخرجه مسلم (كتاب صلاة المسافرين وقصرها، رقم 770).
[27] زاد المعاد (1/43) [مؤسسة الرسالة، ط27، 1415هـ].
أولاً: من أنكر التفاضل بين الصفات:
أنكر بعض الناس القول بالتفاضل بين صفات الله؛ كالقرآن مثلاً، زاعمين أن التفاضل إنما يقع بين المخلوقات، وأن القول بالتفاضل بين كلام الله لا يتأتى إلا على قول الجهمية والمعتزلة القائلين بخلق القرآن، وأما على مذهب أهل السُّنَّة القائلين بأنه كلام الله منزل غير مخلوق، فلا يمكن القول بالتفاضل، وهذا وهم مخالف لصريح الكتاب والسُّنَّة في أن صفات الله تتفاضل، وقد تقدمت النصوص في ذلك.
وينقل شيخ الإسلام كلام هؤلاء المانعين ثم يبيّن بطلانه فيقول: «قال هؤلاء: صفات الله كلها متوافرة في الكمال متناهية إلى غاية التمام لا يلحق شيئًا منها نقص بحال. ثم لما اعتقد هؤلاء أن التفاضل في صفات الله ممتنع ظنوا أن القول بتفضيل بعض كلامه على بعض لا يمكن إلا على قول الجهمية من المعتزلة وغيرهم، القائلين: بأنه مخلوق، فإنه إذا قيل: إنه مخلوق أمكن القول بتفضيل بعض المخلوقات على بعض، فيجوز أن يكون بعضه أفضل من بعض. قالوا: وأما على قول أهل السُّنَّة والجماعة الذين أجمعوا على أن القرآن كلام الله غير مخلوق فيمتنع أن يقع التفاضل في صفات الله القائمة بذاته. ولأجل هذا الاعتقاد صار من يعتقده يذكر إجماع أهل السُّنَّة على امتناع التفضيل في القرآن، كما قال أبو عبد الله بن الدراج في مصنف صنّفه في هذه المسألة، قال: «أجمع أهل السُّنَّة: على أن ما ورد في الشرع مما ظاهره المفاضلة بين آي القرآن وسوره، ليس المراد به تفضيل ذوات بعضها على بعض؛ إذ هو كله كلام الله وصفة من صفاته؛ بل هو كله لله فاضل كسائر صفاته الواجب لها نعت الكمال». وهذا النقل للإجماع هو بحسب ما ظنه لازمًا لأهل السُّنَّة، فلما علم أنهم يقولون: القرآن كلام الله ليس بمخلوق، وظن هو أن المفاضلة إنما تقع في المخلوقات لا في الصفات، قال ما قال. وإلا فلا ينقل عن أحد من السلف والأئمة أنه أنكر فضل كلام الله بعضه على بعض»[1].
وقال أيضًا: «أما كونه لا يفضل بعضه على بعض، فهذا القول لم ينقل عن أحد من سلف الأمة وأئمة السُّنَّة، الذين كانوا أئمة المحنة كأحمد بن حنبل وأمثاله، ولا عن أحد قبلهم»[2].
والخلاصة: أن «دلالة النصوص النبوية، والآثار السلفية، والأحكام الشرعية، والحجج العقلية، على أن كلام الله بعضه أفضل من بعض، هو من الدلالات الظاهرة المشهورة»[3].
ثانيًا: من يفضل أحدًا من البشر على أنبياء الله ورسله:
أ ـ من يجوّز أن يكون في البشر من يوازي عمل نبي من الأنبياء، أو من يكون أفضل من النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم:
عزا ابن حزم إلى رئيس المعتزلة القاضي عبد الجبار جواز أن يكون في البشر ـ إن طال عمره ـ أن يعمل ما يوازي عمل نبي من الأنبياء، وحكى أيضًا عن الباقلاني تجويز أن يكون في الناس من هو أفضل من النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم من يوم بعثه بالنبوة إلى أن مات. قال ابن حزم: «فإن الجبائي قال: جائز إن طال عمر امرئ يعمل ما يوازي عمل نبي من الأنبياء، وقال الباقلاني: جائز أن يكون في الناس من هو أفضل من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حيث بعث بالنبوة إلى أن مات»[4].
ب ـ من يفضل الولي على الأنبياء والرسل:
وهناك من قال بتفضيل الولي على النبي، وتولى كِبْرَ هذه الضلالة: ابن عربي الصوفي الاتحادي، ومما جاء عنه في هذا قوله:
«مقام الرسالة عند الثرى
ويظهر ذلك عند الرّسول»
إلى أن قال:
«سماءُ النبوة في برزخ
دُوَين الولي وفوق الرسول»[5].
ويدندن ابن عربي كثيرًا حول تفضيل الولي على النبي والرسول، ويسرد كل ما هب ودب للتدليل عليه وهو كلام في منتهى الهذيان، نعوذ بالله من الخذلان.
ج ـ من يفضل الأئمة عليهم:
تشترك الروافض مع الصوفية في المبالغة على مقام الأئمة، وترى أنهم أرفع قدرًا وأعلى مقامًا من الأنبياء والرسل عليهم السلام فيقول قائلهم في الأئمة: «إن فضلهم لا يبلغه ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا من دون ذلك»[6].
ويقول الخميني: «وإن من ضروريات مذهبنا: أن لأئمتنا مقامًا لا يبلغه ملك مقرب، ولا نبي مرسل»[7].
الرد عليهم:
لا شكَّ أن هذه الدعاوى في منتهى السقوط؛ لأن النبوة والرسالة اصطفاء من الله، وليس بالادعاء والشقشقة، وأن الإنسان مهما عمل لا يدرك منزلة النبوة، وإن طول العمر وكثرة العمل، ليس مناط المفاضلة بين الأنبياء وبقية البشر، وكذا من ادعى كون الولي أو الإمام أفضل من النبي والرسول، فهذا القول أيضًا من البطلان بمكان كبير، فإن للنبي صلّى الله عليه وسلّم والرسول من التسديد والتوفيق، وصدق الإخلاص، وقوة التوكل على الله، وحسن الأداء للعبادات، ورعاية الله له ما ليس لغيره من البشر، وأما تجويز أن يكون في الأمة المحمدية من هو أفضل من سيد ولد آدم محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم فهذا القول ينبئ عن خذلان صاحبه، ويكفي في بيان فساده آية وحديث؛ أما الآية فقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] وأما الحديث فقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أما والله، إني لأتقاكم لله، وأخشاكم له» [8].
فدلَّت الآية الكريمة على أن التفاضل عند الله إنما يكون بالتقوى، ودلَّ الحديث على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أتقى هذه الأمة لله وأخشاها له.
قال ابن تيمية في إبطال هذه التراهات: «فأما الغلو في ولي غير النبي حتى يفضل على النبي، سواء سمي وليًّا أو إمامًا أو فيلسوفًا، وانتظارهم للمنتظر الذي هو: محمد بن الحسن، أو إسماعيل بن جعفر، نظير ارتباط الصوفية على الغوث، وعلى خاتم الأولياء، فبطلانه ظاهر بما علم من نصوص الكتاب والسُّنَّة، وما عليه إجماع الأمة، فإن الله جعل الذين أنعم عليهم أربعة: النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فغاية من بعد النبي أن يكون صدِّيقًا كما كان خير هذه الأمة بعد نبيّها صديقًا»[9].
ثالثًا: المخالفون في ترتيب الصحابة في الفضل:
أولاً: الروافض:
وهم يفضلون أئمتهم على أنبياء الله ورسله عليهم السلام، وإذا كان هذا حالهم مع الأنبياء والرسل، فمن باب أولى أن يفضلوا أئمتهم على أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولذا يرون أن عليًّا أفضل البشر بعد النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، ويروون عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك كذبًا أنه قال: «علي خير البشر، ومن أبى فقد كفر»[10].
بل إنهم يكفِّرون الصحابة رضي الله عنهم ويقولون بارتدادهم جميعًا بعد موت النبي صلّى الله عليه وسلّم، إلا عددًا قليلاً، لا يتجاوز عدد الأصابع، ومن أقوالهم في هذا الصدد ما نسبه الكليني إلى أبي جعفر أنه قال: «كان الناس أهل ردة بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا ثلاثة فقلت [أي: الراوي]: ومن الثلاثة؟ فقال: المقداد بن الأسود، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي»[11].
ثانيًا: الزيدية وبعض المعتزلة:
أما الزيدية فهم مجمعون على تفضيل علي على الصحابة رضي الله عنهم مع الإقرار بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم.
قال أبو الحسن الأشعري: «وأجمعت الروافض والزيدية على تفضيل علي على سائر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى أنه ليس بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم أفضل منه»[12].
وأما بعض المعتزلة فقد ذهبوا أيضًا إلى تفضيل علي على الصحابة رضي الله عنهم مع الإقرار بخلافة الخلفاء الثلاثة الأُول.
قال ابن تيمية: «وليس في المعتزلة من يطعن في خلافة أبي بكر، وعمر، وعثمان رضوان الله تعالى عليهم أجمعين؛ بل هم متفقون على تثبيت خلافة الثلاثة.
وأما التفضيل، فأئمتهم، وجمهورهم كانوا يفضلون أبا بكر، وعمر رضي الله عنهما، وفي متأخريهم من توقف في التفضيل، وبعضهم فضّل عليًّا، فصار بينهم وبين الزيدية نسب واشج من جهة المشاركة في التوحيد، والعدل، والإمامة، والتفضيل»[13].
الرد عليهم:
لا شكَّ أن تفضيل علي على الصحابة رضي الله عنهم، فيه خروج عن سبيل المؤمنين، الذين أجمعوا على تقديم الخلفاء الثلاثة الأُوَل، وإزراء بهم كما قال غير واحد من أئمة السلف، قال الإمام الثوري: «من فضل عليًّا على أبي بكر، وعمر، وغيرهما، فقد أزرى بالمهاجرين، والأنصار»[14].
بل إن عليًّا عدّ تفضيله على أبي بكر وعمر افتراء يعاقب عليه عقابًا أليمًا، فقال: «لا يفضلني أحد على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما إلا جلدته حد المفتري»[15].
وأما تكفير الصحابة رضي الله عنهم، أو القدح في دينهم، ونفي عدالتهم، فهذا مروق عن هدي الإسلام، وارتداد بيّن عن الملة؛ لما في ذلك من تكذيب الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فيما أخبرا به من تزكيتهم ومدحهم والثناء عليهم، وتعديلهم، والشهادة لهم بالفلاح في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا *} [الفتح] ، وقال جلّ جلاله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران] .
ولما في تكفيرهم والطعن فيهم من إبطال الشرع، الذي هم حملته ونقلته.
قال أبو زرعة الرازي: «إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاعلم أنه زنديق. وذلك أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا، ليبطلوا الكتاب والسُّنَّة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة»[16].
رابعًا: المخالفون في تفاضل المؤمنين في الإيمان:
خالف في هذا الباب طائفتان: المرجئة والوعيدية:
أما المرجئة بمختلف فرقهم فنفوا دخول الأعمال في مسمى الإيمان، كما نفوا أيضًا زيادة الإيمان ونقصانه بصورة عامة.
وهم محجوجون بالأدلة الصريحة الدالة على دخول الأعمال في مسمى الإيمان، وعلى أن الإيمان يزيد وينقص، وعلى تفاضل أهله فيه، وبإجماع السلف على ذلك أيضًا.
وأما الوعيدية ـ الخوارج والمعتزلة ـ فقد وافقوا السلف في إدخال الأعمال في مسمى الإيمان ولكن خالفوهم بأن جعلوا الإيمان جزءًا لا يتجزّأ، فإذا ذهب بعضه ذهب كله، وبناء عليه جعلوا مرتكب الكبيرة خارجًا عن الملة في الدنيا عند الخوارج، وفي منزلة بين المنزلتين عند المعتزلة ثم في الآخرة خالد في النار عندهما جميعًا.
والذي دلَّت عليه النصوص وصار عليه سلف الأمة: أن المؤمنين متفاضلون في الإيمان، وأن أهل الكبائر لا يكفَّرون بمطلق المعاصي؛ بل يقولون في العاصي: إنه مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته[17].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ومن أصول أهل السُّنَّة والجماعة، أن الدين والإيمان: قول، وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح. وأن الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وهم مع ذلك لا يكفِّرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر كما يفعله الخوارج؛ بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي، كما قال سبحانه في آية القصاص: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178] ... ولا يسلبون الفاسق الملي اسم الإيمان بالكلية ولا يخلدونه في النار كما تقوله المعتزلة... ويقولون: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته فلا يعطى الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم»[18].
[1] مجموع الفتاوى (17/73).
[2] المصدر نفسه (17/76).
[3] المصدر نفسه (17/57).
[4] الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/92) [مكتبة الخانجي، القاهرة].
[5] التنزلات الموصلية في أسرار الطهارات والصلوات والأيام الأصلية لابن عربي (35) [دار صادر].
[6] الكافي للكليني (8/10) [تحقيق: علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، طهران، ط4، 1362ش].
[7] الحكومة الإسلامية للخميني (52).
[8] أخرجه مسلم (كتاب الصيام، رقم 1108).
[9] مجموع الفتاوى (11/364).
[10] الأمالي للصدوق (135) [مؤسسة البعثة، ط1].
[11] الكافي للكليني (8/245).
[12] مقالات الإسلاميين (74 ـ 75) [دار التراث العربي، ط3]، وانظر: مباحث المفاضلة في العقيدة (307).
[13] منهاج السُّنَّة (1/70) [جامعة الإمام، ط1].
[14] رواه أبو نعيم في الحلية (7/28) [دار الكتاب العربي، بيروت، ط4، 1405هـ].
[15] أخرجه عبد الله بن أحمد في السُّنَّة (2/562) [دار ابن القيم، ط1]، وفي زوائده على فضائل الصحابة (2/294) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وله طريق آخر عند العشاري في فضائل أبي بكر الصديق (36) [دار الصحابة، ط1]، فالأثر يتقوى بمجموع هذين الطريقين.
[16] رواه الخطيب في الكفاية (49) [المكتبة العلمية، المدينة المنورة].
[17] الآثار الواردة عن الإمام سفيان الثوري في العقيدة جمعًا ودراسةً (406 ـ 409).
[18] مجموع الفتاوى (3/151 ـ 152).
1 ـ «السُّنَّة» (ج2)، لعبد الله بن أحمد.
2 ـ «مقالات الإسلاميين» (74 ـ 75).
3 ـ «شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة» (ج1)، للالكائي.
4 ـ «مجموع الفتاوى» (ج17،91)، لابن تيمية.
5 ـ «منهاج السُّنَّة» (ج1)، لابن تيمية.
6 ـ «زاد المعاد» (ج1)، لابن القيم.
7 ـ «فتح الباري» (ج1)، لابن حجر.
8 ـ «لوامع الأنوار» (ج1)، للسفاريني.
9 ـ «مباحث المفاضلة في العقيدة»، لمحمد بن عبد الرحمن أبو سيف.
10 ـ «الآثار الواردة عن الإمام سفيان الثوري في العقيدة جمعًا ودراسة»، لمحمد سعيد عثمان محمد [رسالة ماجستير].