التقليد في اللغة: مصدر: قلَّد يُقَلِّد تقليدًا، ويدل على تعليق شيء على شيء، وليِّه به. والقلادة هي ما جعل في العنق، يقال: قلَّدتُ المرأةَ، إذا جعلتُ القلادةَ في عنقها، وتَقليد البَدَنة هو أن يعلَّق في عُنُقها شيءٌ ليُعْلَم أنَّها هَدْيٌ. ومن ذلك: تقليد الولاة الأعمال، يقال: قلد فلانٌ فلانًا عملاً تقليدًا، ومنه أيضًا: التقليد في الدين[1].
[1] مقاييس اللغة (5/19) [دار الجيل، ط2، 1420هـ]، وتهذيب اللغة (9/47) [دار إحياء التراث العربي، ط1، 2001م]، والصحاح (2/527) [دار العلم للملايين، ط4]، ولسان العرب (3/365 ـ 366) [دار صادر، ط1].
التقليد: هو اتباع الإنسان غيره ـ ممن ليس قوله إحدى الحجج ـ فيما يقول أو يفعل، معتقدًا للحقيقة فيه، من غير نظر في الدليل[1].
والمقصود بالتقليد هنا: التقليد في العقائد، وهو أن يعتقد الإنسان قول غير المعصوم في أصول الدين الكبار؛ كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم والآخر والقدر خيره وشره من غير نظر في الدليل.
[1] انظر: الإحكام لابن حزم (6/270) [دار الحديث، ط1، 1404هـ]، والفقيه والمتفقه (2/128) [دار ابن الجوزي، ط2، 1421هـ]، وجامع بيان العلم (2/117)، والتلخيص في أصول الفقه للجويني (3/128) [دار البشائر الإسلامية، 1417هـ]، والتعريفات للجرجاني (90) [دار الكتاب العربي، ط1، 1405هـ]، وإرشاد الفحول للشوكاني (1/442 ـ 443) [دار الفكر، ط1].
حكم التقليد في مسائل الاعتقاد (أصول الدين):
الذي عليه مذهب أهل السُّنَّة والجماعة هو أن المطلوب من المكلف أن يعرف الحق ويعتقده، ويجزم به، فيطمئن قلبه بأصول الإيمان؛ كالإيمان بالله، سواء حصل ذلك الاعتقاد عن نظر شرعي واستدلال، أو عن طريق التقليد.
فأهل السُّنَّة ـ ويوافقهم على ذلك بعض المتكلمين ـ يقولون بصحة إيمان العوام المقلدين من غير تأثيم إذا حصل منهم الاعتقاد الجازم الذي لا شك معه، سواء كان ذلك بنظر واستدلال أو بغير ذلك، وإن كانت مرتبة الاستدلال الصحيح أرقى ولا شك ممن اكتفى بالتقليد، إلا أن الكلام في صحة الإيمان وعدم التأثيم[1].
قال السفاريني رحمه الله: «والحق الذي لا محيد عنه، ولا انفكاك لأحد منه، صحة إيمان المقلد تقليدًا جازمًا صحيحًا، وأن النظر والاستدلال ليسا بواجبين، وأن التقليد الصحيح محصل للعلم والمعرفة»[2].
[1] انظر: الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار للعمراني (1/129) [دار أضواء السلف، ط1، 1999م]، وصيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط لابن الصلاح (1/143 ـ 144) [دار الغرب الإسلامي، ط2، 1408هـ]، وشرح مسلم للنووي (1/210 ـ 211) [دار إحياء التراث، ط2، 1392هـ]، ودرء تعارض العقل والنقل (7/355 ـ 361، 459 ـ 462) [دار الكتب العلمية، 1417هـ]، والتقليد في باب الاعتقاد لناصر الجديع (110 ـ 115).
[2] لوامع الأنوار البهية (1/269) [مؤسسة الخافقين، ط2، 1402هـ].
التقليد المذموم يخرج منه ما يلي:
1 ـ قبول قول النبي صلّى الله عليه وسلّم والعمل به، فإنه ليس من التقليد في شيء؛ لأن قوله صلّى الله عليه وسلّم وفعله نفس الحجة، ومن سماه تقليدًا ـ كما يفهم من كلام الشافعي رحمه الله ـ فإنه لم يرد بالتقليد المعنى الاصطلاحي السابق؛ بل قصد به قبول قوله من غير السؤال عن وجهه.
2 ـ العمل بالإجماع.
3 ـ رجوع العامي إلى المفتي.
4 ـ رجوع القاضي إلى شهادة العدول.
5 ـ قبول رواية الرواة.
والسبب في كونها ليست تقليدًا: أنه قد قامت الحجة على الأخذ بها[1].
[1] انظر: الكليات (305)، وإرشاد الفحول (1/443).
أولاً: الاحتجاج بفطرية المعرفة بالله:
ومن أدلة ثبوت الفطرة:
1 ـ قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ *} [الروم] .
2 ـ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء . ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30] » [1].
فالأصل في بني آدم ثباتهم على تلك الفطرة، «فالنفس بفطرتها إذا تركت كانت مقرة لله بالإلهية محبة له، تعبده لا تشرك به شيئًا، ولكن يفسدها ما يزين لها شياطين الإنس والجن بما يوحي بعضهم إلى بعض من الباطل»[2].
وإن كان قد يحصل عند بعضهم انحراف عن هذه الفطرة، فذلك أمر عارض، لقوله: «فأبواه يهوِّدانه...».
وإذا كان الإقرار بالله أمرًا فطريًّا، لم يكن هناك من ضرورة إلى الاستدلال على هذا الأمر الفطري الضروري إلا عند من انحرفت فطرته وفسدت، فإنه يخاطب حينها بالطرق النظرية الصحيحة.
فمن قلَّد غيره في الاعتقاد بوجود الله، فإنه في الحقيقة قد وافق الفطرة التي فطره الله عليها، فلم يكن مؤاخذًا بذلك، وهذه هي حال العوام من المسلمين، بخلاف من قلد الآباء والأتباع في الباطل، فإنه يكون مؤاخذًا بذلك، لمناقضته لتلك الفطرة[3].
ثانيًا: عموم أحوال النبي صلّى الله عليه وسلّم:
فقد علم بالاضطرار من دينه أنه كان يدعو الكفار إلى عبادة الله والنطق بالشهادتين، وهذا مشهور من حاله صلّى الله عليه وسلّم، «والنبي صلّى الله عليه وسلّم لم يدع أحدًا من الخلق إلى النظر ابتداء، ولا إلى مجرد إثبات الصانع؛ بل أول ما دعاهم إليه الشهادتان، وبذلك أمر أصحابه»[4].
فمما ورد في ذلك:
1 ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما بعث معاذًا رضي الله عنه إلى اليمن قال: «إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله...»[5].
2 ـ حديث يزيد بن الشخير، وفيه: «من محمد النبي صلّى الله عليه وسلّم لبني زهير بن أقيش، أنهم إن شهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وفارقوا المشركين، وأقروا بالخُمُس في غنائمهم، وسهم النبي صلّى الله عليه وسلّم، وصفيه، فإنهم آمنون بأمان الله ورسوله»[6].
قال النووي في شرحه لهذا الحديث: «فيه دليل على أن من أقر بالشهادتين واعتقد ذلك جزمًا كفاه ذلك في صحة إيمانه، وكونه من أهل القبلة والجنة، ولا يكلف مع هذا إقامة الدليل والبرهان على ذلك، ولا يلزمه معرفة الدليل، وهذا هو الصحيح الذي عليه الجمهور»[7].
[1] أخرجه البخاري (كتاب الجنائز، رقم 1358)، ومسلم (كتاب القدر، رقم 2658).
[2] مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (14/296).
[3] انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (20/202) (3/312)، ودرء التعارض (7/426).
[4] درء التعارض (8/6)، وانظر: المرجع نفسه (7/408)، ورسالة البيان عن حقيقة الإيمان، ضمن رسائل ابن حزم (3/193، 196، 199) [المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2، 1987م]، والعواصم والقواصم لابن الوزير (3/387) [مؤسسة الرسالة، ط3، 1415هـ]، والبرهان القاطع له (97 ـ 99) [دار المأمون للتراث، ط1، 1409هـ]، وإجابة السائل شرح بغية الآمل للأمير الصنعاني (406) [دار الرسالة، ط1، 1986م]، وفواتح الرحموت (2/432) [دار الكتب العلمية، ط1، 1423هـ].
[5] أخرجه البخاري (كتاب الزكاة، رقم 1458)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 19).
[6] أخرجه أبو داود (كتاب الخراج والإمارة والفيء، رقم 2999)، والنسائي (كتاب قسم الفيء، رقم 4146)، وأحمد (34/340) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وجوَّده ابن كثير في تفسيره (3/93) [دار طيبة، ط2]، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 2857).
[7] شرح النووي على صحيح مسلم (5/25)، وانظر: تشنيف المسامع بجمع الجوامع للزركشي (2/234) [دار الكتب العلمية، ط1، 1420هـ].
قال العلاَّمة يحيى العمراني رحمه الله: «فمتى حصل للإنسان المعرفة بالله وبصفاته، وعلم أن ما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم حق: حصلت له المعرفة، وأدنى المعرفة: ما لا يجامعها الشكوك. وأعلى معارف الخلق لله: معارف الأنبياء والملائكة لله، وهم بذلك متفاضلون، ولم يكلف الله الخلق أن يعرفوه كمعرفته لنفسه، ولا كمعرفة الأنبياء له؛ بل إذا حصلت للإنسان المعرفة بالأدلة من القرآن، أو أخذ ذلك بالتلقين من أبويه في الصغر، أو بتقليده للعلماء والصالحين في صغره، ثم بلغ وصمم على هذه العقيدة، فإنه مؤمن كامل الإيمان، وإن لم يحصل له المعرفة بالأدلة التي رتَّبها المتكلمون ووضعوها؛ بل قد صرح العلماء من أهل الحديث والفقهاء المشهورون بتحريم الكلام، وقالوا: هو محدث وبدعة في الدين»[1].
وقال أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله ـ تعليقًا على حديث أنس رضي الله عنه، والذي فيه سؤال ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه عن مسائل من أصول الديانة، وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم بعدها: «أفلح إن صدق» [2] ـ: «وفي هذا الحديث دلالة على صحة ما ذهب إليه أئمة العلماء في أن العوام المقلدين مؤمنون، وأنه يكتفى منهم بمجرد اعتقادهم الحق جزمًا من غير شك وتزلزل، خلافًا لمن أنكر ذلك من المعتزلة، وذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم قرر ضمامًا على ما اعتمد عليه في تعرف رسالته وصدقه صلّى الله عليه وسلّم، من مناشدته ومجرد إخباره إياه بذلك، ولم ينكر عليه ذلك قائلاً له: إن الواجب عليك أن تستدرك ذلك من النظر في معجزاتي، والاستدلال بالأدلة القطعية التي تفيدك العلم»[3].
وقال النووي رحمه الله تعليقًا على حديث أبي هريرة رضي الله عنه المرفوع: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله...» الحديث[4]: «وفيه دلالة ظاهرة لمذهب المحققين والجماهير من السلف والخلف أن الانسان إذا اعتقد دين الاسلام اعتقادًا جازمًا لا تردد فيه كفاه ذلك، وهو مؤمن من الموحدين، ولا يجب عليه تعلم أدلة المتكلمين ومعرفة الله تعالى بها، خلافًا لمن أوجب ذلك وجعله شرطًا في كونه من أهل القبلة، وزعم أنه لا يكون له حكم المسلمين إلا به، وهذا المذهب هو قول كثير من المعتزلة، وبعض أصحابنا المتكلمين، وهو خطأ ظاهر، فإن المراد التصديق الجازم، وقد حصل، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم اكتفى بالتصديق بما جاء به صلّى الله عليه وسلّم، ولم يشترط المعرفة بالدليل، فقد تظاهرت بهذا أحاديث في «الصحيحين» يحصل بمجموعها التواتر بأصلها والعلم القطعي»[5].
[1] الانتصار في الرد على المعتزلة الأشرار (1/129).
[2] أخرجه البخاري (كتاب الإيمان، رقم 46)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 11).
[3] صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط لابن الصلاح (1/143 ـ 144).
[4] أخرجه البخاري (كتاب الجهاد والسير، رقم 2946)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 21).
[5] شرح النووي على صحيح مسلم (1/210 ـ 211)، وانظر: الفصل لابن حزم (4/36)، ورسالة البيان عن حقيقة الإيمان، ضمن رسائل ابن حزم (3/198)، الفتاوى للعز بن عبد السلام (152) [دار الكتب العلمية]، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (1/182) [دار ابن كثير، ط1، 1417هـ]، ولوامع الأنوار البهية للسفاريني (1/269)، فواتح الرحموت (2/401)، ورسائل وفتاوى الشيخ عبد الله أبا بطين ضمن مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (651) [دار العاصمة، ط3، 1412هـ]، وشرح الأصول من علم الأصول لابن عثيمين (637 ـ 638، وشرح العقيدة السفارينية له (305 ـ 312)، والتقليد في باب العقائد وأحكامه لناصر الجديع (110 ـ 115) [دار العاصمة، ط1، 1426هـ].
المسألة الأولى: هل النظر واجب؟
الأصل في بني آدم أن معرفة الله والإقرار المجمل بربوبيته أمر فطري ضروري فيهم، وإذا كان كذلك فإن النظر لا يكون واجبًا في حق المكلفين، فضلاً عن كونه أول واجب على المكلف؛ بل يخاطب الناس بلازم تلك المعرفة من الإقرار بالألوهية، والنطق بالشهادتين.
وأما من تبدلت فطرته، وذهل عن أصل تلك المعرفة، ولم تتحصل له إلا بالنظر، فإنه يخاطب بالنظر، ويكون واجبًا في حقه، وهذا استثناء عن الأصل، وليس هو الأصل[1].
كما أشار بعض أهل العلم إلى أن النظر يتوجه أيضًا في حق من بلغه الإسلام، فأسلم تقليدًا، لكن نفسه لم تسكن إلى الإيمان، ولم يطمئن قلبه به، فكان اعتقاده عن غير جزم، فمثل هذا قد يجب عليه النظر الشرعي حتى يحصل له اليقين، ويندفع عنه الشك، بخلاف من استقر قلبه للتصديق والإيمان، فلا يجب عليه مثل هذا النظر، ولا يأثم بتركه[2].
وقريب من هؤلاء: من كان مطمئنًا بالإيمان ولو من غير نظر، ولكن وردت عليه شبهة مشكلة من مشكك في الدين، وخاف أن تزلزله عما آمن به، ولم يتمكن من إزالتها إلا بشيء من النظر، فيقال فيه ما قيل في سابقه[3].
وبهذا يعلم أن مثل هذه الأحوال التي يجب فيها النظر إنما هي استثناء من الأصل، لا أنها هي الأصل.
وإذا ما خوطب أمثال هؤلاء بالنظر، فإن المراد به النظر الشرعي الصحيح، الذي جاءت أصوله في كتاب الله؛ كالاستدلال بالخلق على الخالق، وبالحادث على المحدث، لا بالطرق المبتدعة التي قصدها من أوجب النظر على الإطلاق[4].
المسألة الثانية: هل يعذر أهل الضلال من المسلمين بالتقليد في مسائل الاعتقاد؟
الذي يظهر من كلام الأئمة هو القول بعذر أهل التقليد، وأنه من جنس العذر بالتأويل والجهل.
فإذا قبل عذر من وقع في الكفر متأوِّلاً رغم علمه واجتهاده، فعذر من يقلده من العوام الجهال من باب أَوْلى. قال ابن تيمية رحمه الله بعدما تكلم على كفر وضلال أهل الحلول والاتحاد من غلاة المتصوفة؛ كابن سبعين وابن عربي وابن الفارض وأمثالهم: «... فكل من كان أخبر بباطن هذا المذهب، ووافقهم عليه، كان أظهر كفرًا، وإلحادًا، وأما الجهال الذين يحسنون الظن بقول هؤلاء ولا يفهمونه، ويعتقدون أنه من جنس كلام المشايخ العارفين الذين يتكلمون بكلام صحيح لا يفهمه كثير من الناس، فهؤلاء تجد فيهم إسلامًا وإيمانًا، ومتابعة للكتاب والسُّنَّة بحسب إيمانهم التقليدي، وتجد فيهم إقرارًا لهؤلاء وإحسانًا للظن بهم، وتسليمًا لهم بحسب جهلهم وضلالهم، ولا يتصور أن يثني على هؤلاء إلا كافر ملحد، أو جاهل ضال»[5].
وواضح من كلامه معذرة من قلَّد هؤلاء الغلاة لجهله بحقيقة كلامهم ومذاهبهم.
بل؛ إنه قد قرر معذرة من يقلد الشيوخ وعلماء الضلال حتى فيما كان من جنس الشرك، فقد قال رحمه الله بعد كلام له على هذا الموضوع: «فكل عبادة غير مأمور بها فلا بد أن ينهى عنها، ثم إن علم أنها منهي عنها وفعلها استحق العقاب، فإن لم يعلم لم يستحق العقاب، وإن اعتقد أنها مأمور بها وكانت من جنس المشروع فإنه يثاب عليها، وإن كانت من جنس الشرك فهذا الجنس ليس فيه شيء مأمور به، لكن قد يحسب بعض الناس في بعض أنواعه أنه مأمور به، وهذا لا يكون مجتهدًا؛ لأن المجتهد لا بد أن يتبع دليلاً شرعيًّا، وهذه لا يكون عليها دليل شرعي، لكن قد يفعلها باجتهاد مثله، وهو تقليده لمن فعل ذلك من الشيوخ والعلماء، والذين فعلوا ذلك قد فعلوه لأنهم رأوه ينفع، أو لحديث كذب سمعوه، فهؤلاء إذا لم تقم عليهم الحجة بالنهي لا يعذبون»[6].
ويفصل ابن القيم رحمه الله في بيان أقسام أهل البدع فيقول: «وأما أهل البدع الموافقون أهل الإسلام، ولكنهم مخالفون في بعض الأصول؛ كالرافضة والقدرية والجهمية وغلاة المرجئة ونحوهم، فهؤلاء أقسام:
أحدها: الجاهل المقلد الذي لا بصيرة له، فهذا لا يكفَّر ولا يفسَّق، ولا ترد شهادته إذا لم يكن قادرًا على تعلم الهدى، وحكمه حكم المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله غفورًا رحيمًا.
القسم الثاني: المتمكن من السؤال وطلب الهداية ومعرفة الحق، ولكن يترك ذلك اشتغالاً بدنياه ورئاسته ولذته ومعاشه وغير ذلك، فهذا مفرط مستحق للوعيد آثم بترك ما وجب عليه من تقوى الله بحسب استطاعته، فهذا حكمه حكم أمثاله من تاركي بعض الواجبات، فإن غلب ما فيه من البدعة والهوى على ما فيه من السُّنَّة والهدى ردت شهادته، وإن غلب ما فيه من السُّنَّة والهدى قبلت شهادته.
القسم الثالث: أن يسأل ويطلب ويتبين له الهدى، ويتركه تقليدًا أو تعصبًا، أو بغضًا ومعاداة لأصحابه، فهذا أقل درجاته أن يكون فاسقًا، وتكفيره محل اجتهاد وتفصيل»[7].
مما سبق يتبين لنا إعذار الأئمة لمن وقع في الكفر تقليدًا إن كان جاهلاً لا بصيرة له ولا فقه، أما إن كان قادرًا على فهم الحجة وفرط في طلبها فإنه يأثم، ولكنه لا يكفَّر إلا بعد قيام الحجة والله أعلم[8].
المسألة الثالثة: التقليد المذموم:
ثمة أنواع من التقليد قد جاء ذمها في الشرع[9]، ومن ذلك:
1 ـ تقليد الآباء والرؤساء، مع الإعراض عن الكتاب والسُّنَّة:
وهذا هو صنيع الكفار زمن الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ومن قبلهم من أعداء الأنبياء، حيث أعرضوا عن دعوة رسلهم، ونصبوا لهم العداء تقليداً لرؤسائهم.
وقد جاء في ذمِّ هذا النوع من التقليد آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ *} [البقرة] .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «قد ذمَّ الله تعالى في القرآن من عدل عن اتباع الرسل إلى ما نشأ عليه من دين آبائه، وهذا هو التقليد الذي حرمه الله ورسوله، وهو أن يتبع غير الرسول فيما خالف فيه الرسول، وهذا حرام باتفاق المسلمين على كل أحد، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»[10].
2 ـ تقليد من لا يعلم المقلد أنه أهل أن يؤخذ بقوله:
وذلك بأن يقلد أقوامًا ورؤساء يجهل أحوالهم، ولم يعلم أهليتهم وأحقيتهم للتقليد، أو يقلدهم لمجرد الهوى.
قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً *} [الإسراء] .
فنهى المسلم أن يقفوا ما ليس له بعلم، والشخص إذا قلَّد من لم يعرف أهليته للتقليد فقد قفا ما ليس له به علم[11].
3 ـ التقليد بعد ظهور الدليل على خلاف قول المقلد:
عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: «يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك» فطرحته، فانتهيت إليه وهو يقرأ سورة براءة، فقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] حتى فرغ منها، فقلت: إنا لسنا نعبدهم، فقال: «أليس يحرمون ما أحلَّ الله فتحرمونه، ويحلون ما حرَّم الله فتستحلونه؟» قلت: بلى، قال: «فتلك عبادتهم»[12].
فالله تعالى قد ذمَّ النصارى على تقليدهم لأحبارهم ورهبانهم في تغيير ما علموه من شرع الله، «ولهذا اتفق العلماء أنه إذا عرف الحق لا يجوز له تقليد أحد في خلافه»[13].
4 ـ تقليد من ورد النص بالنهي عن تقليده أو التشبه به:
كتقليد الكفار، والتشبه بهم في شيء من أمور دينهم، أو ما اختصوا به من أمور دنياهم.
قال تعالى عن أهل الكتاب: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ *} [البقرة] .
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «من تشبَّه بقوم فهو منهم» [14].
المسألة الرابعة: مراد بعض السلف بالتقليد:
ورد ذكر التقليد عند بعض السلف على غير المعنى المشهور؛ فقد أطلقه بعض الأئمة على اتباع الدليل. قال الإمام أحمد رحمه الله: «من قلَّد الخبر، رجوت له أن يسلم إن شاء الله»[15].
وقال حرب الكرماني: «ومن زعم أنه لا يرى التقليد، ولا يقلد دينه أحد فهذا قول فاسق مبتدع عدو لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم، ولدينه، ولكتابه، ولسُنَّة نبيِّه عليه السلام، إنما يريد بذلك إبطال الأثر، وتعطيل العلم، وإطفاء السُّنَّة، والتفرد بالرأي، والكلام، والبدعة والخلاف»[16].
ومرادهم بذلك الالتزام بالنص، والتقيد به، وعدم الخروج عنه إلى رأي أو منام أو قياس ونحو ذلك، وإن كان النص حجة في نفسه[17].
[1] انظر: رسالة البيان عن حقيقة الإيمان، ضمن رسائل ابن حزم (3/193).
[2] انظر: الفصل لابن حزم (4/30 ـ 31)، ودرء التعارض (8/8)، وفتح الباري لابن حجر (13/351)، ولوامع الأنوار البهية (1/269)، والتقليد في باب الاعتقاد وأحكامه (115 ـ 117).
[3] انظر: العواصم والقواصم لابن الوزير (4/93).
[4] انظر: فتاوى العز بن عبد السلام (152)، وقواعد الأحكام له (1/171)، والفتاوى له (152)، والبحر المحيط في أصول الفقه (1/37) [دار الكتب العلمية، ط1].
[5] مجموع الفتاوى لابن تيمية (2/367).
[6] مجموع الفتاوى لابن تيمية (20/32).
[7] الطرق الحكمية (174، 175) [مطبعة الميداني، ط1381هـ]، وانظر نفس التفصيل في: النونية مع شرح ابن عيسى عليها (2/241، 244) [المكتب الإسلامي، ط3، 1406هـ].
[8] انظر: نواقض الإيمان الاعتقادية للوهيبي (2/49 ـ 55) [دار المسلم، ط2، 1422هـ].
[9] انظر: إعلام الموقعين (2/187 ـ 188) [دار الجيل، 1973م]، والتقليد في باب العقائد وأحكامه (80 ـ 95).
[10] مجموع الفتاوى لابن تيمية (19/260).
[11] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (7/72).
[12] أخرجه الترمذي (أبواب تفسير القرآن، رقم 3095) وقال: «غريب»، والطبراني في الكبير (17/92) [مكتبة ابن تيمية، ط2]، وذكر الألباني له شواهد وقال: فهو بمجموع طرقه حسن إن شاء الله تعالى. السلسلة الصحيحة (7/862 ـ 865).
[13] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (7/71) (19/262) (20/225)، والاتباع لابن أبي العز (23) [المكتبة السلفية، ط2، 1423هـ].
[14] أخرجه أبو داود (كتاب اللباس، رقم 4031)، وأحمد (9/123) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وجوَّد سنده شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم (1/269) [دار العاصمة، ط6]، وحسن إسناده الألباني في الإرواء (5/109).
[15] العدة في أصول الفقه لأبي يعلي (4/1217) [ط2، 1410هـ]، والمسودة (411) [ط. المدني].
[16] مسائل أحمد وإسحاق لحرب الكرماني (3/978) [جامعة أم القرى، 1422هـ]. وانظر قول الإمام الشافعي في: الأم (7/265) [دار المعرفة، ط2، 1393هـ]، والبربهاري في شرح السُّنَّة (95) [دار المنهاج، ط1، 1426هـ].
[17] انظر: المسودة (411).
لقد ذهب عامة المخالفين من المتكلمين وغيرهم إلى القول بمنع التقليد في العقيدة وأصول الدين، وأنه لا بد من النظر والاستدلال للوصول إلى الإيمان بالله، ووافقهم على ذلك غيرهم من الأصوليين.
ومبنى قول هؤلاء راجع إلى مسألة معرفة الله، حيث سبق أن أهل السُّنَّة يقولون بأنها فطرية ضرورية، وأما المتكلمون فقد قالوا بأنها نظرية مكتسبة، واشترط أكثرهم أن تكون محصلة بالنظر على وفق الطرق التي ابتدعوها؛ كدليل الأعراض وحدوث الأجسام المبتدع، وأنكروا أن تكون معرفة الله فطرية[1].
فلما أنكر هؤلاء فطرية المعرفة لله، أوجبوا النظر الموصل إليها، ولم يكتف كثير منهم بذلك؛ بل جعلوا النظر الواجب هو النظر البدعي، والذي يرجع إلى دليل الأعراض وحدوث الأجسام، وجعلوا ذلك أول واجب على المكلف.
والحق أن أول واجب على المكلف: هو توحيد الله والإتيان بالشهادتين، لا مجرد المعرفة المجردة عن الإقرار بالشهادتين والتزام مقتضاهما، كما تقدمت الأدلة على ذلك، وأن النظر إنما يجب على من حصل عنده من الشكوك والشبه ما يباعدة عن مقتضى الفطرة، فيشرع في حقه النظر الشرعي والتفكر الصحيح، دون الطرق البدعية الحادثة[2].
على أن من أهل الكلام من بالغ حتى قال بتكفير المقلدين، الذين اعتقدوا الحق ولكن لم يعرفوا دليله، ويلزم على هذا القول تكفير عامة المسلمين ممن رسخ اعتقادهم، إلا أنهم لم ينظروا في الدليل عليه[3].
ولذا؛ أنكر بعض أئمة المتكلمين ذلك، وعدوه من الغلو والإسراف، قال أبو حامد الغزالي رحمه الله: «من أشد الناس غلوًّا وإسرافًا طائفة من المتكلمين، كفروا عوام المسلمين، وزعموا أن من لم يعرف الكلام معرفتنا، ولم يعرف العقائد الشرعية بأدلتها التي حررناها كافر، فهؤلاء ضيقوا رحمة الله الواسعة أولاً، وجعلوا الجنة وقفًا على شرذمة يسيرة من المتكلمين، ثم جهلوا ما تواتر من السُّنَّة ثانيًا، إذ ظهر لهم في عصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعصر الصحابة رضي الله عنهم حكمهم بإسلام طوائف من أجلاف العرب كانوا مشغولين بعبادة الوثن، ولم يشتغلوا بعلم الدليل، ولو اشتغلوا به لم يفهموه، ومن ظن أن مدرك الإيمان الكلام والأدلة المجردة والتقسيمات المرتبة فقد أبعد عن الإنصاف»[4].
[1] شرح الأصول الخمسة لعبد الجبار المعتزلي (51، 52، 88، 89) [مكتبة وهبة، ط2، 1408هـ]، والشامل (140) [دار الكتب العلمية، ط1، 1420هـ]، والمواقف للإيجي (39) [دار عالم الكتب]، وانظر: شرح المواقف للجرجاني (1/147 ـ 148) [دار الجيل، ط1].
[2] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (20/202)، والبحر المحيط (6/279) [طبعة وزارة الأوقاف بالكويت، ط2، 1413هـ]، وإرشاد الفحول (267) [دار المعرفة، ط1399هـ].
[3] انظر: أبكار الأفكار للآمدي (1/164) [مطبعة دار الكتب والوثائق القوميَّة بالقاهرة، ط1423هـ]، وشرح المواقف (1/168)، وفواتح الرحموت (2/432).
[4] فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة للغزالي (3/92) [دار الكتب العلمية]، وانظر: قواعد العقائد للغزالي (152 ـ 153) [دار عالم الكتب، ط2، 1405هـ]، وانظر في بيان هذا اللازم في: الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم (4/36)، ودرء التعارض (7/357 ـ 361، 439 ـ 452) .
1 ـ «الإحكام»، لابن حزم.
2 ـ «إرشاد الفحول»، للشوكاني.
3 ـ «إعلام الموقعين»، لابن القيم.
4 ـ «التقليد في باب الاعتقاد وأحكامه»، لناصر الجديع.
5 ـ «جامع بيان العلم وفضله»، لابن عبد البر.
6 ـ «رسالة البيان عن حقيقة الإيمان»، ضمن رسائل ابن حزم.
7 ـ «شرح النووي على صحيح مسلم».
8 ـ «لوامع الأنوار البهية»، للسفاريني.
9 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.
10 ـ «نواقض الإيمان الاعتقادية»، لمحمد الوهيبي.