قال ابن فارس رحمه الله: «الواو والقاف والياء: كلمة واحدة تدل على دفع شيء عن شيء بغيره. ووقيته أقيه وقيًّا. والوقاية: ما يقي الشيء. واتق الله: توقه؛ أي: اجعل بينك وبينه كالوقاية»[1].
التقوى: مصدر وقى، والتقوى والتقى واحد، يقال: وقاه الله وِقاية: حفظه، ويقال: وقيت الشيء أقيه: إذا صنته وسترته عن الأذى، ووقاه: حماه وصانه، والوَقاية والوُقاية والوِقاية: كل ما وقيت به شيئًا[2].
[1] مقاييس اللغة (6/131) [دار الجيل، 1420هـ].
[2] انظر: الصحاح (6/2526) [دار العلم للملايين، ط3]، ولسان العرب (15/377) [دار إحياء التراث العربي، ط3، 1419هـ].
يتفاوت حكم التقوى فتكون واجبة إذا كانت التقوى بفعل واجب، أو ترك محرم، وتكون مستحبة إن كانت بفعل مندوب، أو ترك مكروه[1]. ولهذا كانت التقوى إما حمية القلب والجوارح عن الآثام والمحرمات، أو حميتها عن المكروهات، حميتها عن الفضول وما لا يعني.
فالأولى: تعطي العبد حياته، والثانية: تفيده صحته وقوته، والثالثة: تكسبه سروره وفرحه وبهجته[2].
[1] انظر: شرح عمدة الفقه لابن تيمية (3/627) [مكتبة العبيكان، الرياض، ط1، 1413هـ].
[2] انظر: الفوائد لابن القيم31) [دار الكتب العلمية].
حقيقة التقوى: اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل الأوامر، وترك النواهي. قال ابن القيم رحمه الله: «أما التقوى فحقيقتها العمل بطاعة الله إيمانًا واحتسابًا، أمرًا ونهيًا، فيفعل ما أمر الله به إيمانًا بالأمر وتصديقًا بوعده، ويترك ما نهى الله عنه إيمانًا بالنهي وخوفًا من وعيده»[1].
[1] انظر: الرسالة التبوكية (13) [مكتبة المدني، جدة].
منزلة التقوى تتبين من حيث أن الله تعالى أمر بها عباده، كما في قوله: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131] ، وتتبين في كونها هي الدافع على كل خير، والرادع عن كل شر، ذلك أن حقيقتها هي طاعة الله ورسوله في كل شيء[1].
[1] انظر: أضواء البيان (8/51) [دار الفكر]، ومجموع فتاوى ومقالات متنوعة لابن باز (2/170) [الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء، الرياض، ط1].
الآيات الآمرة بالتقوى كثيرة؛ منها قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *} [البقرة] ، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ *} [آل عمران] ، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131] .
ومن السُّنَّة: ما رواه أبو أُمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطب في حجّة الوداع فقال: «اتّقوا الله ربّكم، وصلّوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنّة ربّكم»[1].
وعن عديّ بن حاتم رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اتّقوا النّار ولو بشقّ تمرة»[2].
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من حلف على يمين، ثم رأى أتقى لله منها، فليأت التقوى» [3].
[1] أخرجه الترمذي (أبواب السفر، رقم 616) وصححه، وابن حبان (كتاب السير، رقم 4563)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 867).
[2] أخرجه البخاري (كتاب الزكاة، رقم 1417)، ومسلم (كتاب الزكاة، رقم 1016).
[3] أخرجه مسلم (كتاب الأيمان، رقم 1651).
قال طلق بن حبيب: «إذا وقعت الفتنة فادفعوها بالتقوى» قالوا: وما التقوى؟ قال: «أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله»[1].
قال الذهبي معلقًا عليه: «أبدع وأوجز، فلا تقوى إلا بعمل، ولا عمل إلا بتروٍّ من العلم والاتباع، ولا ينفع ذلك إلا بالإخلاص لله، لا ليقال: فلان تارك المعاصي بنور الفقه، إذ المعاصي يفتقر اجتنابها إلى معرفتها، ويكون الترك خوفًا من الله، لا ليمدح بتركها، فمن داوم على هذه الوصية فقد فاز»[2].
وقال ابن تيمية: «والتقوى: هي الاحتماء عما يضره، بفعل ما ينفعه؛ فإن الاحتماء عن الضار يستلزم استعمال النافع، وأما استعمال النافع فقد يكون معه أيضًا استعمال لضار، فلا يكون صاحبه من المتقين، وأما ترك استعمال الضار والنافع فهذا لا يكون؛ فإن العبد إذا عجز عن تناول الغذاء كان مغتذيًا بما معه من المواد التي تضره حتى يهلك، ولهذا كانت العاقبة للتقوى وللمتقين؛ لأنهم المحتمون عما يضرهم، فعاقبتهم الإسلام والكرامة، وإن وجدوا ألمًا في الابتداء لتناول الدواء والاحتماء»[3].
وقال ابن رجب: «أصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه، فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك وهو فعل طاعته واجتناب معاصيه»[4].
[1] أخرجه ابن أبي شيبة (12/351 برقم 36169) [مكتبة الرشد، ط1، 1425هـ]، وهناد بن السري في الزهد (1/296 ـ 297 برقم 522) [دار الخلفاء للكتاب الإسلامي، ط1]، وأبو نعيم في الحلية (3/64)، وغيرهم.
[2] سير أعلام النبلاء (4/601) [مؤسسة الرسالة، ط2، 1402هـ].
[3] مجموع الفتاوى (10/144).
[4] جامع العلوم والحكم (1/398) [مؤسسة الرسالة، ط7، 1422هـ].
ثمرات التقوى كثيرة لا تحصى إلا بتكلّف، ولا تستقصى لغزارتها وتنوعها، فهي أشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تحصر، فكل خير في الدنيا والآخرة من ثمرات التقوى.
فبها يحصل فلاح الدارين، وبها ينال العبد رضوان الله الذي هو أعظم من الجنة وما فيها، وبها يدخل العبد الجنة، وبها ينجو من النار.
ومن ثمارها الظاهرة: تفريج الكربات، وتحصيل الأرزاق، وتسهيل الأمور؛ وتكفير السيئات، وتعظيم الأجور؛ قال تعالى: {...وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق] ، وقال تعالى: {...وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا * ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا *} [الطلاق] .
ومن ثمارها أيضًا: نيل ولاية الله تعالى، والفوز بالبشرى في الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ *الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس] .
بالجملة فالتقوى هي سبب لكل خير وفلاح ونجاح في الدنيا والآخرة. قال ابن تيمية: «الخير كله في لزوم التقوى واجتناب المحرمات»[1].
[1] الفتاوى الكبرى لابن تيمية (6/117) [دار الكتب العلمية، ط1، 1408هـ].