أصل كلمة التكييف من سؤالك عنه بكيف، وكلمة كيف: يستفهم بها عن حال الشيء وصفته[1].
قال ابن فارس: «فأما كيف فكلمة موضوعة يستفهم بها عن حال الإنسان، فيقال: كيف هو؟ فيقال: صالح»[2].
وإذا قلت: كيف جاء زيدًا؟ تقول: راكبًا، إذًا كيَّفت مجيئه[3].
[1] انظر: المفردات للأصبهاني (444)، والمصباح المنير للفيومي (281).
[2] مقاييس اللغة (5/150)، وانظر: المعجم الوسيط (2/807) [دار الدعوة].
[3] انظر: شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين (77).
حكاية كيفية الصفة؛ كقول القائل: كيفية يد الله، أو نزوله إلى الدنيا كذا وكذا[1].
وقيل: هو تفسير لِكُنْهِ شيء من صفات ربنا تعالى؛ كأن يقول: استوى على هيئة كذا، أو ينزل إلى السماء بصفة كذا[2].
[1] انظر: مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (4/22)، والقواعد المثلى (65).
[2] انظر: معارج القبول (1/363)، والتحفة المهدية شرح الرسالة التدمرية لفالح آل مهدي (32) [دار الوطن، الرياض، ط1، 1414هـ].
التكييف لصفات الله تعالى وأسمائه لا يجوز؛ وبدعة شنيعة محرمة في الشرع؛ لأن ذلك قول على الله بلا علم، وكيفية ذات الله سبحانه وتعالى وكيفية صفاته من أمور الغيب التي استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمها، ولا مجال للعقل البشري القاصر أن يخوض فيها[1].
[1] انظر: النفي في باب صفات الله عزّ وجل بين أهل السُّنَّة والجماعة والمعطلة (225) [دار المنهاج، ط2، 1431هـ].
لفظ التكييف لم يرد في الكتاب والسُّنَّة، إلا أنه ورد ما يدل على النهي عنه في النصوص الشرعية، ومن ذلك: قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ *} [الأعرف] ، وقوله جلّ جلاله: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا *} [طه] .
قال الأوزاعي: «سئل مكحول والزهري عن تفسير الأحاديث، فقالا: أمروها كما جاءت»[1].
وقال الوليد بن مسلم: «سألت مالك بن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد والأوزاعي عن الأخبار التي جاءت في الصفات؟ فقالوا: أمِرُّوها كما جاءت. وفي رواية: أمرّوها كما جاءت بلا كيف»[2].
وقيل لمالك بن أنس: «يا أبا عبد الله {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} فكيف استوى؟ قال: فأطرق مالك رأسه حتى علاه الرحضاء، ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعًا، فأمر به أن يخرج»[3].
وقال أبو عثمان الصابوني: «إن أصحاب الحديث المتمسكين بالكتاب والسُّنَّة... يثبتون له جلّ جلاله منها ما أثبت لنفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلّى الله عليه وسلّم، ولا يعتقدون تشبيهًا لصفاته بصفات خلقه... ولا يحرِّفون الكلام عن مواضعه بحمل اليدين على النعمتين أو القوتين تحريف المعتزلة والجهمية أهلكهم الله، ولا يكيّفونهما بكيف، ولا يشبهونهما بأيدي المخلوقين تشبيه المشبهة خذلهم الله، وقد أعاذ الله تعالى أهل السُّنَّة من التحريف والتكييف والتشبيه، ومنّ عليهم بالتعريف والتفهيم، حتى سلكوا سبل التوحيد والتنزيه»[4].
وقال ابن تيمية: «طريقة سلف الأمة وأئمتها إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل، وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه ـ مع ما أثبته من الصفات ـ من غير إلحاد لا في أسمائه ولا في آياته»[5].
وقال أيضًا: «ومن تمام التوحيد أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، ويصان ذلك عن التحريف والتعطيل والتكييف، والتمثيل»[6].
[1] أخرجه اللالكائي (رقم 735)، والبيهقي في الأسماء والصفات (2/377)، وانظر: مختصر العلو للذهبي (138).
[2] أخرجه اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (برقم 930)، والبيهقي في الأسماء والصفات (2/377)، وابن عبد البر في التمهيد (7/149)، وغيرهم.
[3] أخرجه الدارمي في الرد على الجهمية (104)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (رقم 664)، وابن عبد البر في التمهيد (7/151) وغيرهم. وانظر: مختصر العلو (141 ـ 142)، وفتح الباري (13/406)، والأثر المشهور عن مالك رحمه الله في صفة الاستواء لعبد الرزاق البدر (38 ـ 50).
[4] عقيدة السلف أصحاب الحديث (26).
[5] التدمرية (6 ـ 7)، وانظر: الواسطية مع شرح ابن عثيمين (56) فما بعدها.
[6] درء التعارض (1/284). وانظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (6/355)، واجتماع الجيوش الإسلامية (94)، وتفسير ابن كثير (2/211) [دار الفكر، بيروت، 1401هـ).
المسألة الأولى: قصور العقل عن معرفة كيفية صفات الله سبحانه وتعالى:
العقل قاصر عن معرفة كنه الصفات وكيفياتها وعجزه عن ذلك؛ لأن الشيء لا تعرف كيفية صفاته إلا بعد العلم بكيفية ذاته، أو العلم بنظيره المساوي له، أو بالخبر الصادق، وكل هذه الطرق منتفية في كيفية صفات الله، فوجب بطلان تكييفها. وعلم الإنسان محدود كما أخبر الله سبحانه وتعالى بذلك، حيث قال: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً *} [الإسراء] ، وقال سبحانه وتعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255] .
وإذا كانت نفس الإنسان التي هي أقرب الأشياء إليه بل هي هويته، لا يعرف الإنسان كيفيتها ولا يحيط علمًا بحقيقتها، فالخالق جلّ جلاله أولى أن لا يعلم العبد كيفيته ولا يحيط علمًا بحقيقته[1].
قال ابن القيم رحمه الله: «إن العقل قد يئس من تعرف كنه الصفة وكيفيتها، فإنه لا يعلم كيف الله إلا الله، وهذا معنى قول السلف: بلا كيف؛ أي: بلا كيف يعقله البشر، فإن من لا تعلم حقيقة ذاته وماهيته، كيف تعرف كيفية نعوته وصفاته؟ ولا يقدح ذلك في الإيمان بها، ومعرفة معانيها، فالكيفية وراء ذلك، كما أنَّا نعرف معاني ما أخبر الله به من حقائق ما في اليوم الآخر، ولا نعرف حقيقة كيفيته، مع قرب ما بين المخلوق والمخلوق، فعجزنا عن معرفة كيفية الخالق وصفاته أعظم وأعظم.
فكيف يطمع العقل المخلوق المحصور المحدود في معرفة كيفية من له الكمال كله، والجمال كله، والعلم كله، والقدرة كلها، والكبرياء كلها؟ من لو كشف الحجاب عن وجهه لأحرقت سبحاته السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما وما وراء ذلك»[2].
المسألة الثانية: أن عدم العلم بكيفية الصفات لا ينافي إثبات الصفات ولا إثبات معانيها:
إن منهج السلف قائم على الأخذ بالنصوص الواردة في الأسماء والصفات، والإيمان بمعانيها على وجه الإجمال والتفصيل، وفوضوا إلى الله تعالى العلم بكيفياتها لا العلم بمعانيها.
فلا تنافي إذًا بين الجهل بحقيقة الصفة وكنهها وبين إثباتها وفهم معانيها، ويؤيد هذا قول الإمام مالك رحمه الله: «الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول»؛ فإنه فرّق بين المعنى من هذه اللفظة، وبين الكيف الذي لا يعقله البشر[3].
قال ابن القيم رحمه الله: «وكذلك قال ابن الماجشون والإمام أحمد وغيرهما من السلف: إنا لا نعلم كيفية ما أخبر به عن نفسه، وإن كنا نعلم تفسيره... وكذلك الصحابة والتابعون فسروا القرآن، وعلموا المراد بآيات الصفات؛ كما علموا المراد من آيات الأمر والنهي، وإن لم يعلموا الكيفية، كما علموا معاني ما أخبر الله به في الجنة والنار، وإن لم يعلموا حقيقة كنهه وكيفيته»[4].
[1] انظر: رسالة في العقل والروح (2/44) مطبوعة ضمن مجموعة الرسائل المنيرية، والقواعد المثلى (36 ـ 37) [مكتبة السُّنَّة، ط2، 1414هـ].
[2] مدارج السالكين (3/376).
[3] انظر: مدارج السالكين (2/89 ـ 90)، والقواعد المثلى (77).
[4] الصواعق المرسلة (3/924)، وانظر: الحجة في بيان المحجة للأصبهاني (2/458).
الفرق بين التكييف والتمثيل:
ذكر بعض أهل العلم أن بين التمثيل والتكييف عمومًا وخصوصًا مطلقًا، فإن كل ممثل مكيف، وليس كل مكيف ممثلاً.
ووجه ذلك: أن التكييف ذكر كيفية غير مقرونة بمماثل، مثل أن تقول: لي قلم كيفيته كذا وكذا، فإن قرنت بمماثل صار تمثيلاً، مثل أن تقول: هذا القلم مثل هذا القلم، فذكرت شيئًا مماثلاً لشيء، وعرّفت هذا القلم بذكر مماثله.
فالفرق بينهما يتضح من وجهين:
أحدهما: أن التكييف أن يحكي كيفية الشيء سواء كانت مطلقة أو مقيدة بشبيه، وأما التمثيل فيدل على كيفية مقيدة بالمماثل. ومن هذا الوجه يكون التكييف أعم؛ لأن كل ممثل مكيف ولا عكس.
الآخر: أن التكييف يختص بالصفات، أما التمثيل فيكون في القدر والصفة والذات ومن هذا الوجه يكون أعم لتعلقه بالذات، والصفات والقدر[1].
[1] انظر: شرح العقيدة الواسطية (81)، ومجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين (4/22)، معتقد أهل السُّنَّة والجماعة للتميمي (64 ـ 65).
1 ـ «الحجة في بيان المحجة»، للأصبهاني.
2 ـ «ذم التأويل»، لابن قدامة.
3 ـ «شرح العقيدة الواسطية»، لابن عثيمين.
4 ـ «الصواعق المرسلة»، لابن القيم.
5 ـ «عقيدة السلف أصحاب الحديث»، للصابوني.
6 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.
7 ـ «مدارج السالكين»، لابن القيم.
8 ـ «معارج القبول»، لحافظ الحكمي.
9 ـ «معتقد أهل السُّنَّة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات»، لمحمد بن خليفة التميمي.
10 ـ «النفي في باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل السُّنَّة والجماعة والمعطلة»، لأرزقي سعيداني.