قال ابن فارس رحمه الله: «الميم والثاء واللام أصل صحيح يدل على مناظرة الشيء للشيء. وهذا مثل هذا؛ أي: نظيره، والمِثْل والمثال في معنى واحد. وربما قالوا مثيل كشبيه»[1].
قال الجوهري: «مِثْل: كلمة تسوية. يقال: هذا مثله ومثله كما يقال: شبهه وشبهه بمعنى»[2].
[1] مقاييس اللغة (5/296) [دار الجيل، ط2].
[2] الصحاح (971) [دار المعرفة، ط1، 1426هـ].
حقيقة التمثيل هي: إشراك المخلوق مع الله في شيء من خصائصه سبحانه. ووصف الخالق بشيء من خصائص المخلوق، فكل صفة أضيفت إلى الله فهي خاصة به لا يشركه فيها غيره كائنًا من كان كصفة العلم مثلاً، فهذا لا يصلح إدخال علم المخلوقين فيه، وكذلك العلم المضاف إلى المخلوقين فهو خاص بهم لا يصلح إدخال علم الخالق فيه، وهكذا في كل ما يضاف إلى المخلوقين، ومن هذا يتضح أن إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلّى الله عليه وسلّم على ما يليق به ليس من التمثيل في شيء[1].
[1] انظر: درء التعارض (2/89 ـ 90) [جامعة الإمام محمد بن سعود، ط2، 1411هـ]، والتسبيح في الكتاب والسُّنَّة للدكتور محمد بن إسحاق كندو (1/160) [مكتبة دار المنهاج، الرياض، ط1، 1426هـ].
دلَّت النصوص الشرعية على اتصاف الله بصفات الكمال، وتفرده بها، ونفي المماثلة بينه وبين خلقه فيها، قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ *} [الشورى] ، وقال عزّ وجل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *اللَّهُ الصَمَدُ *لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ *وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ *} [الإخلاص] . ففي هذه الآيات الكريمات وصف الله نفسه بجملة من صفات الكمال التي لا يلحقها نقص بوجه من الوجوه، ثم بيّن سبحانه تفرده بها، ونفي مماثلة خلقه له فيها، والمماثلة هي المساواة بين الشيئين في الصفات من كل الوجوه.
روى اللالكائي بسنده عن نعيم بن حماد أنه قال: «من شبَّه الله بشيء من خلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، فليس ما وصف الله به نفسه ورسوله تشبيه... وقال إسحاق بن راهويه رحمه الله: «من وصف الله فشبّه صفاته بصفات أحد من خلق الله فهو كافر بالله العظيم؛ لأنه وصف بصفاته إنما هو استسلام لأمر الله ولما سن الرسول»[1].
وروى البيهقي بإسناده عن أبي داود الطيالسي أنه قال: «كان سفيان الثوري وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحدون ولا يشبهون ولا يمثلون، يروون الحديث، لا يقولون كيف، وإذا سئلوا أجابوا بالأثر»[2].
وقال ابن كثير رحمه الله: «وأما قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جدًّا، ليس هذا موضع بسطها، وإنما يسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح: مالك، والأوزاعي، والثوري، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه وغيرهم، من أئمة المسلمين قديمًا وحديثًا، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل. والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه، و{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ *} [الشورى] ؛ بل الأمر كما قال الأئمة ـ منهم: نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري ـ: من شبّه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر. وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه. فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة، على الوجه الذي يليق بجلال الله تعالى، ونفى عن الله تعالى النقائص، فقد سلك سبيل الهدى»[3].
[1] شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة (3/532) [دار طيبة، 1402هـ].
[2] الأسماء والصفات للبيهقي (2/334 ـ 335).
[3] تفسير ابن كثير (3/426 ـ 427).
المسألة الأولى: إثبات الصفات لا يستلزم التمثيل:
التماثل: هو الاتفاق بين الشيئين في الصفات من جميع الوجوه[1]، وهذا قد ورد نفيه عن الله تعالى في صريح الأدلة الشرعية، كما في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] .
وليس المقصود به نفي التماثل الذي بمعنى التشابه بين صفات الخالق وصفات المخلوق في اللفظ والمعنى العام؛ لأن نفي هذا القدر المشترك في المعنى من بعض الوجوه كما يقول به النفاة من الجهمية وأشباههم هو تعطيل وجود كل كائن[2]. قال ابن تيمية: «وقد بيّنّا فيما تقدم بالدلائل القاطعة الشرعية والعقلية: أنه يمتنع أن يكون لله مثل بوجه من الوجوه. وبيّنّا أن التماثل بينه وبين خلقه ممتنع لذاته وأنه يستلزم كون الشيء الواحد موجودًا معدومًا، قديمًا محدثًا، خالقًا مخلوقًا، واجبًا ممكنًا»[3].
وقال ابن العثيمين رحمه الله: «ولا يلزم من التماثل في الاسم، أن يتماثل الشيء في الصفة، ولهذا نقول: للإنسان يد ورجل، وللثور يد ورِجل، وللفيل يد ورِجل، وللنمل يد، ولا يلزم من هذا التماثل في الاسم التماثل في الحقيقة، وكل يعرف أن رِجل الفيل ليست كرِجل الذرة، وهذا في المخلوقات مع بعضها فكيف بالخالق؟! فتبين إذًا مخالفة الخالق للمخلوق بدليل السمع والعقل والحس»[4].
المسألة الثانية: بطلان رمي السلف بالتمثيل:
لا شكَّ أن رمي السلف بالتمثيل هو بهت صريح وكذب مكشوف لا يشوبه شك، ولا يتردد فيه كل من كان مطلعًا على شيء من مؤلفاتهم العقدية، فهي تثبت كذب هذه الدعوى وتنقضها من جذورها، ويكفي في إثبات براءتهم من التمثيل بعض الآثار المنقولة عنهم، التي تبين بعدهم عنه، وذمهم له، وتكفيرهم لمتبنيه، فضلاً عن كتبهم المشحونة بالدعوة إلى نبذ التمثيل والتشبيه في أسماء الله وصفاته وجميع خصائصه، بصفات المخلوقين، مقيمين منهجهم على وفق قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ *} [الشورى] .
فمن تلك الآثار المنقولة عن السلف ما سبق إيراده تحت (أقوال أهل العلم). منها قول شيخ البخاري نعيم بن حماد رحمه الله: «من شبَّه الله بشيء من خلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، فليس ما وصف الله به نفسه ورسوله تشبيه»[5].
وقال ابن عبد البر رحمه الله: «أهل السُّنَّة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسُّنَّة والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئًا من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة.
وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها، ولا يحمل شيئًا منها على الحقيقة، ويزعمون: أن من أقر بها مشبِّه، وهم عند من أثبتها نافون للمعبود.
والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسُنَّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وهم أئمة الجماعة والحمد لله»[6].
ويقول شيخ الإسلام في حكاية عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة: «وقد علم أن طريقة سلف الأمة وأئمتها: إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل ومن غير تحريف ولا تعطيل. وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه مع إثبات ما أثبته من الصفات من غير إلحاد، لا في أسمائه ولا في آياته»[7].
[1] انظر: بيان تلبيس الجهمية (3/135) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف، ط1، 1426هـ].
[2] انظر: بيان تلبيس الجهمية (3/136).
[3] بيان تلبيس الجهمية (2/485).
[4] شرح العقيدة السفارينية (1/246 ـ 247).
[5] شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة (3/532).
[6] التمهيد لابن عبد البر (7/145) [وزارة عموم الأوقاف المغربية، 1387هـ].
[7] مجموع الفتاوى لابن تيمية (3/3) [جمع: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف، 1416هـ].
الفرق بين التمثيل والتشبيه:
يختلف التمثيل عن التشبيه من جهتين:
الأولى: من جهة المعنى فإن التمثيل: هو مساواة الشيء للشيء من كل الوجوه، وأما التشبيه فهو مساواته في بعض الوجوه، وقد يطلق أحدهما على الآخر ويعرف ذلك بالقرينة والسياق.
ثم أدخل فيه المعطلة ما ليس من معناه، فأصبح من الألفاظ المجملة حيث صاروا يطلقونه على من يثبت شيئًا من الأسماء والصفات.
الثانية: من جهة الورود في الشرع، فإن التشبيه لا ذكر له في النصوص الشرعية، وإنما جاء النهي عنه في أقوال السلف مرادًا به التمثيل، بخلاف التمثيل فقد جاء النهي عنه صريحًا في الشرع، كما في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ *} [الشورى] [1].
[1] انظر: التدمرية (117) [مكتبة العبيكان، ط6]، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (3/166)، ومقالة التشبيه وموقف أهل السُّنَّة منها لجابر إدريس (1/75 ـ 83) [أضواء السلف، ط1، 1422هـ]، والتسبيح في الكتاب والسُّنَّة لمحمد بن إسحاق كندو (1/162 ـ 165).
الخلط في مفهوم التمثيل عند المعطلة أدى إلى التعطيل ونفي الصفات عن الله، حيث ظنوا أن إثبات الصفات لله يستلزم مماثلة الله لخلقه فنفوا عن الله ما وصف به نفسه كلًّا أو بعضًا حسب التفاوت الذي بينهم في التعطيل، وردوا النصوص النقلية والعقلية الدالة على ثبوت صفات الكمال لله تعالى. ورموا كل من أثبت لله ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلّى الله عليه وسلّم من الأسماء والصفات بالتشبيه والتمثيل. فانتشر بذلك التعطيل في كثير من البلاد الإسلامية، ولا شكَّ أن هذا من الآثار السيئة لظهور هذا المفهوم الخاطئ للتمثيل الذي نهى الله عنه في كتابه الكريم، والذي دلَّت عليه النصوص الشرعية والعقلية وسار عليه سلف الأمة وهو ثبوت صفات الكمال لله تعالى على وجه لا يماثل فيه المخلوق، كما دلَّت عليه النصوص منها قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ *} [الشورى] .
ذهب الممثلة إلى جعل صفات الله كصفات المخلوقين، كما نقل ذلك عنهم غير واحد، قال الإمام أحمد رحمه الله: «المشبهة تقول: بصر كبصري، ويد كيدي، وقدَمٌ كقدمي ومن قال ذلك فقد شبّه الله بخلقه»[1].
وفي مقابل هؤلاء الممثلة الذين حملوا صفات الله على ما يشاهدونه في المخلوقات وُجد من يشاركهم في هذا المفهوم ألا وهم المعطلة، حيث فهموا من إثبات صفات الله التمثيل فنفوها عن الله؛ فرارًا من التمثيل[2]، فوقعوا في التعطيل مع تفاوتهم فيه.
[1] أورده أبو يعلى في إبطال التأويلات (1/43) [دار إيلاف الدولية، الكويت]، وابن تيمية في كثير من كتبه؛ منها: درء تعارض التعارض (4/145).
[2] انظر: الإرشاد للجويني (36 ـ 42) [مكتبة الخانجي، 1369هـ]، وتبصرة الأدلة في أصول الدين للنسفي (186) [رئاسة الشؤون الدينية، تركيا، 1993م]، والتمهيد لقواعد التوحيد للنسفي (149) [دار الطباعة المحمدية، ط1، 1406هـ].
لا شكَّ أن كِلا الفريقين أُتُوا من قلة علمهم، وسوء فهمهم للنصوص، وبعدهم عن هدي السلف الصالح القائم على إثبات ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات في كتابه أو على لسان رسوله صلّى الله عليه وسلّم على الوجه اللائق به سبحانه، ونفي ما نفاه الله عن نفسه، ونفاه عنه ورسوله صلّى الله عليه وسلّم من العيوب والنقائص على ضوء قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ *} [الشورى] .
وقد دلَّ الشرع والعقل على بطلان هذا الاعتقاد وفساده، أما الشرع: فقد جاءت فيه نصوص عديدة في إبطال هذا المعتقد، من ذلك قول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ *} [الشورى] وقوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا *} [مريم] ، وقوله عزَّ من قائل: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ *} [الإخلاص] .
ففي هذه الآيات نفى الله أن يكون له مماثل أو سمي أو كفو في شيء من خصائصه سبحانه؛ بل هو المتفرد بصفات الكمال المطلق الذي لا يلحقه فيه أحد من الخلق.
وأما دلالة العقل على بطلان القول بالتماثل بين الخالق والمخلوق في الخصائص فبيانه من الجهة التالية؛ وهي أن الشيئين إذا تماثلا جاز على أحدهما ما يجوز على الآخر، والقول بالتماثل بين الخالق والمخلوق يلزم منه اتصاف الخالق العظيم بما يتصف به المخلوق الضعيف من الفناء والعدم والحاجة ونحوها، إضافة إلى ما في هذا القول من التناقض، حيث يصبح الشيء الواحد واجبًا بنفسه وغير واجب، وهذا غاية في الفساد ونهاية في البطلان. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان هذا الدليل العقلي: «فإن الحقيقتين إذا تماثلتا: جاز على كل واحدة ما يجوز على الأخرى، ووجب لها ما وجب لها. فيلزم أن يجوز على الخالق القديم الواجب بنفسه ما يجوز على المحدث المخلوق من العدم والحاجة، وأن يثبت لهذا ما يثبت لذلك من الوجوب والفناء فيكون الشيء الواحد واجبًا بنفسه غير واجب بنفسه موجودًا معدومًا وذلك جمع بين النقيضين، وهذا مما يعلم به بطلان قول المشبهة الذين يقولون: بصر كبصري أو يد كيدي ونحو ذلك تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا»[1].
[1] مجموع الفتاوى لابن تيمية (3/87).
1 ـ «بيان تلبيس الجهمية» (ج3، و7)، لابن تيمية.
2 ـ «التدمرية»، لابن تيمية.
3 ـ «التسبيح في الكتاب والسُّنَّة والرد على المفاهيم الخاطئة فيه» (ج1)، لمحمد بن إسحاق كندو.
4 ـ «التمهيد» (ج7)، لابن عبد البر.
5 ـ «درء تعارض تعارض العقل والنقل» (ج2، و4)، لابن تيمية.
6 ـ «القواعد المثلى»، لابن عثيمين.
7 ـ «مجموع الفتاوى» (ج3)، لابن تيمية.
8 ـ «معتقد أهل السُّنَّة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات»، لمحمد التميمي.
9 ـ «مقالة التشبيه وموقف أهل السُّنَّة منها» (ج1)، لجابر إدريس.
10 ـ «منهاج السُّنَّة النبوية» (ج2)، لابن تيمية.