قال ابن فارس: «النون والزاء والهاء كلمة تدل على بعد في مكان وغيره. ورجل نزيه الخلق: بعيد عن المطامع الدّنيّة»[1].
وقال الأزهري: «والتنزه: أن يرفع نفسه عن الشيء تكرمًا، ورغبة عنه.
قال: وتنزيه الله: تسبيحه، وهو تبرئته عن قول المشركين، سبحان الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا... التنزه: التباعد عن الأرياف والمياه؛ ومنه قيل: فلان يتنزه عن الأقذار؛ أي: يباعد نفسه عنها... ويقال: ظللنا متنزهين: إذا تباعدوا عن المياه، وهو يتنزه عن الشيء: إذا تباعد عنه، وإن فلانًا لنزيه كريم: إذا كان بعيدًا من اللؤم، وهو نزيه الخلق...
قلت: وتنزيه الله: تبعيده، وتقديسه عن الأنداد، والأضداد... يقال: هم قوم أنزاه؛ أي: يتنزهون عن الحرام، الواحد نزيه... ورجل نزه ونزيه: ورع، وفلان يتنزه عن ملائم الأخلاق؛ أي: يترفع عما يذم منها»[2] .
[1] مقاييس اللغة (5/417) [دار الجيل، ط2].
[2] تهذيب اللغة (6/92) [دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 2001م].
لا شكَّ أن المعنى الشرعي للتنزيه هو جزء من المعنى اللغوي؛ لأن المعنى اللغوي أوسع منه إذ هو يدور حول التبعيد عن الشيء دون تقيد.
ولكن ينبغي أن يعلم أن اتصاف الله بما يليق به من الصفات ليس فيه مشابهة البشر في حقائق الصفات كما يتوهمه المتكلمون وسائر المخالفين، فينفون الصفات الثابتة عن الله تنزيهًا له على زعمهم.
حقيقة التنزيه في الشرع والعقل السليم هي تبرئة الله عن كل نقص وعيب في ذاته وصفاته وأفعاله وألوهيته، مع إثبات الكمال المطلق له تعالى[1].
وأما حقيقة التنزيه عند النفاة فهو: تنزيه الله عن صفات الكمال الثابتة له في الشرع؛ لأنها في اعتقادهم تفيد التجسيم والتحيز والتشبيه[2].
[1] انظر: بدائع الفوائد (2/602 ـ 603)، والصفات الإلهية في الكتاب والسُّنَّة النبوية لمحمد أمان الجامي (144) [مطابع الجامعة الإسلامية، ط1، 1408هـ].
[2] انظر: الصواعق المرسلة (4/1229 ـ 1230)، والصفات الإلهية لمحمد أمان الجامي (143).
دلَّت النصوص العديدة على تنزيه الله عما لا يليق بجلاله وعظمته؛ منها: قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ *} [المؤمنون] .
وقال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ *} [الشورى] .
قال أبو المظفر السمعاني الشافعي رحمه الله: «وتنزيه الله ـ عزَّ اسمه ـ ألا يوصف بوصف لا يليق به»[1].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «والتنزيه الذي يستحقه الرب يجمعه نوعان: أحدهما: نفي النقص عنه، والثاني: نفي مماثلة شيء من الأشياء فيما يستحقه من صفات الكمال، فإثبات صفات الكمال له مع نفي مماثلة غيره له يجمع ذلك، كما دلَّت عليه هذه السورة»[2].
وقال ابن القيم رحمه الله: «إطلاق السلام على الله تعالى اسمًا من أسمائه هو أولى من هذا كله، وأحق بهذا الاسم من كل مسمًّى به؛ لسلامته سبحانه من كل عيب ونقص من كل وجه، فهو السلام الحق بكل اعتبار، والمخلوق سلام بالإضافة، فهو سلام سبحانه في ذاته عن كل عيب ونقص يتخيله وهم، وسلام في صفاته من كل عيب ونقص، وسلام في أفعاله من كل عيب ونقص وشر وظلم وفعل واقع على غير وجه الحكمة؛ بل هو السلام الحق من كل وجه وبكل اعتبار، فعلم أن استحقاقه تعالى لهذا الاسم أكمل من استحقاق كل ما يطلق عليه. وهذا هو حقيقة التنزيه الذي نزه به نفسه ونزّهه به رسوله»[3].
[1] تفسير السمعاني (6/206).
[2] منهاج السُّنَّة النبوية (2/186 ـ 187)، ويعني بالسورة: سورة الإخلاص.
[3] بدائع الفوائد (2/602 ـ 603).
ينزَّه الله عن:
ـ كل عيب؛ كالعمى والعجز واللغوب والنوم والسِّنَة ونحوها من العيوب.
ـ كل نقص في كماله؛ كنقص في علمه وقدرته وعزته وحياته ونحو ذلك.
ـ عن مماثلة المخلوقين؛ كأن يجعل سمعه كسمع المخلوق، أو علمه كعلم المخلوق، أو حياته كحياة المخلوق ونحو ذلك[1].
[1] انظر: منهاج السُّنَّة النبوية (2/186 ـ 187)، وتقريب التدمرية لابن عثيمين (86) [دار ابن الجوزي، ط1].
ـ ضابط التنزيه:
جمع الله تعالى فيما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله بين التنزيه والإثبات، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ *} [الشورى] فنزه ذاته المقدسة عن النقائص والعيوب، وعن مماثلة المخلوقين وأثبت لها صفات الكمال.
وقد انحرف النفاة في مفهوم التنزيه، فجعلوا إثبات الصفات تشبيهًا وتجسيمًا ونفيها عن الخالق سبحانه عين التنزيه. وهذا ضلال وانحراف عن هدي الكتاب والسُّنَّة، وخروج عن سبيل سلف الأمة.
والضابط في التنزيه: أن ينفى عن الله ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلّى الله عليه وسلّم من النقائص والعيوب ومماثلة المخلوقين، ويجمع ذلك: إثبات صفات الكمال لله مع نفي المماثلة له فيها[1].
ولما جعل المتكلمون ضابط التنزيه نفي التجسيم والتحيز عن الله أدى بهم هذا إلى نفي صفات الكمال[2].
[1] منهاج السُّنَّة النبوية (2/186 ـ 187)، و(4/589 ـ 590)، والصفات الإلهية للجامي (390).
[2] انظر: منهاج السُّنَّة (4/589 ـ 590)، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (3/69)، والصفات الإلهية للجامي (390)، وتقريب التدمرية لابن عثيمين (85، و91).
نزَّه الله تعالى نفسه المقدسة عما لا يليق بها؛ فقد سمّاها بالأسماء الحسنى ووصفها بالصفات العليا، ونفى عنها مماثلة المخلوقين له في شيء منها، ونفى عنها أيضًا كل ما لا يليق بها من النقائص والعيوب، وقد أدخل المخالفون في لفظ التنزيه معانيَ باطلة حسب ما عندهم من مفاهيم مختلطة واعتقادت باطلة خرجوا بها عن الجادة، حتى صار لفظ التنزيه من الألفاظ المجملة التي تحتمل حقًّا وباطلاً، حيث سلك المخالفون في حقيقة التنزيه مسالك عدة، فمنهم سلك مسلك التمثيل لتحقيق التنزيه حسب ادعائه، فزعم أن حقيقة التنزيه هو جعل صفات الخالق من جنس صفات المخلوقين، ومنهم من سلك مسلك التعطيل، سواء كان تعطيلاً كليًّا؛ كالفلاسفة والجهمية فنفوا جميع الأسماء والصفات ولم يؤمنوا إلا بذات مجردة عن كل صفة، أو تعطيلاً جزئيًّا؛ كالمعتزلة[1] والكلابية وقدماء الأشاعرة[2] ومتأخريهم والماتريدية[3]، على ما بينهم من تفاوت في النفي والإثبات وزعموا أن التنزيه لا يمكن أن يتحقق إلا بهذا المسلك.
فالتنزيه عند الفلاسفة هو إثبات ذات مجردة عن الأوصاف، وإثبات الصفات له تعالى يعتبرونه نقصًا ينزه الله عنه؛ لأن اتصافه بها إن أوجب له كمالاً فقد استكمل بغيره، وكان ناقصًا بذاته، وإن أوجب له نقصًا فالكمال في نفيها عنه[4].
وأما التنزيه عند جهم وأصحابه فهو: أن ينزه العبدُ ربَّه عن الأسماء والأوصاف والأفعال[5].
وعند القرامطة الغلاة فإن التنزيه: هو نفي النقيضين عن الله؛ وهما: الإثبات والنفي، فلا يوصف بشيء من الإثبات حتى لا يشبه الموجودات، ولا يوصف بالنفي حتى لا يشبه المعدومات، وكل منهما تشبيه[6]. والتنزيه نفيهما عنه.
وهكذا يتفق المعطلة على تعطيل الله عن كماله الواجب مع تفاوتهم فيه ويسمونه تنزيهًا، وهو في واقعه تعطيل محض، وضده يسمونه تشبيهًا وتجسيمًا ونحو ذلك[7].
[1] انظر: مجموع الفتاوى (6/69)، والصفات الإلهية للجامي (143).
[2] انظر: مجموع الفتاوى (6/69).
[3] لمع الأدلة للجويني (107) [عالم الكتاب، بيروت، ط2، 1407هـ]، وانظر: مجموع الفتاوى (6/69)، والتسبيح في الكتاب والسُّنَّة لمحمد إسحاق كندو (2/419 ـ 421).
[4] انظر: مجموع الفتاوى (6/69)، ومقدمة تحقيق كتاب العرش للتميمي (1/160) [عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، ط2، 1424هـ].
[5] انظر: التسبيح في الكتاب والسُّنَّة (2/418).
[6] انظر: مجموع الفتاوى (5/327).
[7] انظر: الصواعق المرسلة (3/934 ـ 937) [دار العاصمة، الرياض، ط1، 1408هـ].
كل هذه المفاهيم فاسدة أوصلهم إليها بُعدهم عن هدي الكتاب والسُّنَّة، فحقيقة التنزيه في كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم هو تبرئة الخالق عن كل ما لا يليق بجلاله وعظمته من النقائص والعيوب، مع إثبات صفات الكمال ونعوت الجلال له تعالى، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ *} [الشورى] وأما إطلاق العنان للعقول القاصرة لتقرير ما يليق بالرب سبحانه وما لا يليق، والبعد عن الوحي في هذا الباب، وردّ ما جاء فيه من صفات الكمال فهو تخرص محض؛ لأنه لا أحد أعلم بالله من الله، ولا أحد من الخلق أعلم بالله من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال الله تعالى: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: 140] ، وعن أُمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا»[1].
فما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلّى الله عليه وسلّم فيجب إثباته له، وما نزَّه الله نفسه عنه، أو نزهه عنه رسوله صلّى الله عليه وسلّم فيجب تنزيهه عنه لا يتجاوز في هذا القرآن والحديث كما ذكر أئمة السُّنَّة.
والخلاصة: أن لفظ التنزيه بسبب ما أدخله أهل الكلام من الباطل صار يحتمل حقًّا وباطلاً فيستفصل قائله عن مراده به فإن أراد به معنى باطلاً رد ومن استعمله وأراد به معناه الشرعي قبل منه، والله أعلم.
[1] أخرجه البخاري (كتاب الإيمان، رقم 20).
1 ـ «التسبيح في الكتاب والسُّنَّة والرد على المفاهيم الخاطئة فيه» (ج2)، لمحمد بن إسحاق كندو.
2 ـ «بدائع الفوائد» (ج2)، لابن القيم.
3 ـ «تقريب التدمرية»، لابن عثيمين.
4 ـ «جهود الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في تقرير عقيدة السلف»، لعبد العزيز الطويان.
5 ـ «شرح الطحاوية» (ج2)، لابن أبي العز الحنفي.
6 ـ «الصفات الإلهية: تعريفها أقسامها»، لمحمد التميمي.
7 ـ «الصفات الإلهية في الكتاب والسُّنَّة النبوية في ضوء الإثبات والتنزيه»، لمحمد أمان الجامي.
8 ـ «الصواعق المرسلة» (ج3)، لابن القيم.
9 ـ «قطف الجنى الداني شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني»، لعبد المحسن العباد.
10 ـ «منهاج السُّنَّة النبوية» (ج2، و4)، لابن تيمية.