حرف التاء / التوبة

           

التوبة لغة: هي الرُّجُوعُ عن المعصية، يقال: تاب يتوب توبًا؛ أي: رجع، قال ابن فارس: «التاء والواو والباء، كلمة واحدة تدل على الرجوع، يقال: تاب من ذنبه؛ أي: رجع عنه»[1].
والتوَّاب: فعَّال من تاب يتوب، ورجل توَّاب؛ أي: كثير التوبة، والتوَّاب: اسم من أسماء الله تعالى، لتوبته على عباده[2].
والتائب: تقال لباذل التوبة، ولقابل التوبة؛ فالعبد تائب إلى الله، والله تائب على عبده[3].


[1] مقاييس اللغة (1/357) [دار الجيل، ط1]، وانظر: القاموس المحيط (79) [مؤسسة الرسالة ط2، 1407هـ].
[2] النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى (2/181) [مكتبة الإمام الذهبي، ط1، 1417هـ].
[3] انظر: المفردات للراغب (169) [دار القلم، ط2].


التوبة: هي الرجوع من معصية الله تعالى إلى طاعته مع مداومة الندم وكثرة الاستغفار.
ومن عبارات العلماء في تعريف التوبة ما يلي:
فقد عرَّفها ابن بطال رحمه الله بقوله: «حدُّ التوبة الرجوع عن الذنب والعزم أن لا يعود إليه والإقلاع عنه»[1].
وعرَّفها ابن تيمية رحمه الله بقوله: «التوبة: هي جماع الرجوع من السيئات إلى الحسنات»[2].
وعرَّفها ابن القيم رحمه الله بقوله: «التوبة: هي رجوع العبد إلى الله ومفارقته لصراط المغضوب عليهم والضالين»[3].


[1] فتح الباري (13/471) [دار الريان للتراث، ط2].
[2] الاستقامة (1/463) [مكتبة ابن تيمية، القاهرة].
[3] مدارج السالكين (1/19) [دار الكتب العلمية، ط1، 1403هـ].


اتفق العلماء رحمهم الله على وجوب التوبة من المعصية على الفور، وذلك لأمر الله تعالى بها في كتابه في جملة من الآيات؛ كقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *} [النور] .
والآيات والأحاديث في الأمر بها، ووجوبها كثيرة، وهي ظاهرة لمن طلبها، قال النووي: «واتفقوا ـ أي: العلماء ـ على أن التوبة من جميع المعاصي واجبة، وأنها واجبة على الفور، لا يجوز تأخيرها سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة»[1].
وهي واجبة لأنها هي حقيقة الإسلام، وبها تجتمع شرائعه، ومقاماته.


[1] شرح النووي على مسلم (17/59).


قال ابن القيم رحمه الله: «فحقيقة التوبة: هي الندم على ما سلف منه في الماضي، والإقلاع عنه في الحال، والعزم على أن لا يعاوده في المستقبل»[1].
وقال أيضًا: «فإن حقيقة التوبة: الرجوع إلى الله بالتزام فعل ما يحب، وترك ما يكره، فهي رجوع من مكروه إلى محبوب؛ فالرجوع إلى المحبوب جزء مسماها، والرجوع عن المكروه الجزء الآخر، ولهذا علق سبحانه وتعالى الفلاح المطلق على فعل المأمور وترك المحظور بها، فقال {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *} [النور] ، فكل تائب مفلح، ولا يكون مفلحًا إلا من فعل ما أمر به وترك ما نهي عنه، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ *} [الحجرات] . وتارك المأمور ظالم، كما أن فاعل المحظور ظالم، وزوال اسم الظلم عنه إنما يكون بالتوبة الجامعة للأمرين، فالناس قسمان: تائب وظالم ليس إلا، فالتائبون هم: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} [التوبة: 112] ، فحفظ حدود الله جزء التوبة، والتوبة هي مجموع هذه الأمور، وإنما سمي تائبًا لرجوعه إلى أمر الله من نهيه، وإلى طاعته من معصيته»[2].


[1] مدارج السالكين (1/199).
[2] المصدر السابق (1/313).


محبة الله للتائبين وفرحته بتوبتهم:
أخبر الله تعالى أنه يحب التوابين، الذين يرجعون إليه سبحانه وتعالى، بعد الوقوع في المعصية، فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ *} [البقرة] ، وبيَّن النبي صلّى الله عليه وسلّم أن الرب تعالى يفرح بتوبة عبده أشد الفرح، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لله أشد فرحًا بتوبة عبده من أحدكم فقد دابته...» [1].
قال ابن تيمية: «وأخبر أنه تعالى يفرح بتوبة عبده التائب أعظم من فرح الفاقد لما يحتاج إليه من الطعام والشراب والمركب إذا وجده بعد اليأس...»[2].


[1] أخرجه البخاري (كتاب الدعوات، رقم 6308)، ومسلم (كتاب التوبة، رقم 2744).
[2] مجموع الفتاوى (10/304).


قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [التحريم: 8] ، وقال: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر: 2] . وقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *} [النور] . وغيرها من الآيات.
ومن السُّنَّة: حديث عن أبي موسى رضي الله عنه أن النبـي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله سبحانه وتعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها»[1].
وحديث ابن مسعود رضي الله عنه؛ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لله أشد فرحًا بتوبة عبده المؤمن، من رجل في أرض دوية مهلكة، معه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فنام فاستيقظ وقد ذهبت، فطلبها حتى أدركه العطش، ثم قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه، فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ وعنده راحلته وعليها زاده وطعامه وشرابه، فالله أشد فرحًا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده» [2]. وحديث ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر»[3].
أقوال أهل العلم:
قال القرطبي رحمه الله: «ولا يكفي في التوبة عند علمائنا قول القائل: قد تبت، حتى يظهر منه في الثاني خلاف الأول، فإن كان مرتدًّا رجع إلى الإسلام مظهرًا شرائعه، وإن كان من أهل المعاصي ظهر منه العمل الصالح، وجانب أهل الفساد والأحوال التي كان عليها، وإن كان من أهل الأوثان جانبهم وخالط أهل الإسلام، وهكذا يظهر عكس ما كان عليه»[4].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «فإن دين محمد صلّى الله عليه وسلّم في التوبة جاء بما لم يجئ به شرع من قبله؛ ولهذا قال: «أَنَا نَبِيُّ الرّحْمةِ؛ وأنا نَبِيُّ التَّوْبةِ» [5]، وقد رفع به من الآصار والأغلال ما كان على من قبلنا»[6].
وقال ابن القيم رحمه الله: «ومنزل التوبة أول المنازل، وأوسطها، وآخرها، فلا يفارقه العبد السالك، ولا يزال فيه إلى الممات، وإن ارتحل إلى منزل آخر ارتحل به، واستصحبه معه ونزل به، فالتوبة هي بداية العبد ونهايته، وحاجته إليها في النهاية ضرورية، كما أن حاجته إليها في البداية كذلك»[7].


[1] أخرجه مسلم (كتاب التوبة، رقم 2759).
[2] أخرجه البخاري (كتاب الدعوات، رقم 6308)، ومسلم (كتاب التوبة رقم 2744).
[3] أخرجه الترمذي (كتاب الدعوات، رقم 3537)، وابن ماجه (كتاب الزهد، رقم 4253)، وأحمد (10/300) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وابن حبان (كتاب الرقائق، رقم 628)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (رقم 1903).
[4] الجامع لأحكام القرآن (2/187) [دار الكتب المصرية، ط2، 1384هـ].
[5] أخرجه مسلم (كتاب الفضائل، رقم 2355).
[6] مجموع الفتاوى (10/304).
[7] مدارج السالكين (1/196).


ذكر العلماء رحمهم الله أن التوبة لا تصح إلا بشروط، وسماها بعضهم أركان التوبة، فمنهم من قصرها على ثلاثة شروط، ومنهم من زاد على ذلك، بحسب نوع المعصية، وبيان ذلك كما يلي:
الشرط الأول: أن يخلص لله تعالى في التوبة.
الشرط الثاني: الندم على ما فات من فعل الذنب ومعصية الله تبارك وتعالى بذلك، والوقوع فيما يسخط الله.
الشرط الثالث: أن يقلع عن الذنب في الحال.
الشرط الرابع: أن يعزم على أن لا يعود في المستقبل.
الشرط الخامس: أن تكون التوبة في وقت قبولها، قبل أن يغلق الباب، وتمتنع التوبة، وسيأتي بيان ذلك في المباحث التالية[1].
الشرط السادس: إذا كانت المعصية تتعلق بحقوق الآدميين، فيشترط التحلل من صاحب ذلك الحق، ورد مظلمته إليه، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى[2].


[1] انظر: فتح الباري لابن حجر (11/103)، وشرح مسلم للنووي (17/59)، ومدارج السالكين (1/202).
[2] انظر: شرح النووي على مسلم (2/45) (17/59)، ومدارج السالكين (1/202).


المسألة الأولى: التوبة النصوح:
جاء الأمر من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين بالتّوبة النّصوح، ووعدهم على ذلك تكفير السيئات، ودخول الجنات، فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [التحريم: 8] .
وقد اختلفت عبارات السلف والمفسرين في المراد بالتوبة النصوح، فقيل: هي الّتي لا عودة بعدها كما لا يعود اللّبن إلى الضّرع[1].
وقيل: هي أن تُبغِض الذنبَ كما أحببته، وتستغفر منه إذا ذكرته[2].
وقيل المراد بها: التوبة العامة الشاملة للذنوب كلها، التي يستمر عليها في جميع أحواله[3].
ولعل الأرجح في تعريفها: أنها التي استكملت غايةَ شروطها: من الإخلاص لله، وترك الذنب، والندم على فعله، ثم العزم على عدم العودة إليه. فيجمع صاحبها العزم والصدق بكليته عليها، بحيث لا يبقى عنده تردد ولا تلوّم ولا انتظار[4].
المسألة الثانية: وقت التوبة:
للتوبة وقت وقَّتها الله تعالى به، ليغتنم ذلك من وفّقه الله لاغتنامها، وهو وقت واسع يحوي جميع عمر الإنسان، إلا ما استثني من وقت يسير تنقطع فيه التوبة ولا تقبل، وذلك كما يلي:
1 ـ وقت عام: يشترك فيه جميع من أدركه من بني آدم، وهو طلوع الشمس من مغربها، فإذا طلعت الشمس من مغربها، فقد انقطع وقت التوبة، فلا تقبل ممن أرادها، كما لا يقبل الإيمان ممن لم يؤمن قبل خروجها. قال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت فرآها الناس، آمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا»[5].
2 ـ وقت خاص: وهو المبادرة إلى التوبة قبل معاينة الموت، وحصول الغرغرة ببلوغ الروح الحلقوم، قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء: 17] ، قال ابن كثير: «يقول تعالى: إنما يتقبل الله التوبة ممن عمل السوء بجهالة، ثم يتوب ولو قبل معاينة المَلَك لقبض روحه قَبْلَ الغَرْغَرَة»[6].
المسألة الثالثة: التوبة من حقوق الآدميين:
يمكن تقسيم حقوق الآدميين، وكيفية التوبة منها إلى قسمين:
1 ـ حقوق مالية، سواء كانت بسرقة أو ظلم أو خيانة، وهذه لا يمكن أن تصح التوبة منها بعد الندم والعزم على عدم العودة، إلا بإرجاعها إلى أصحابها.
2 ـ حقوق غير مالية؛ كالغيبة ونحوها، فهذه قد اختلف العلماء في كيفية التوبة منها على، بعد الإقلاع والندم والعزم، على قولين لأهل العلم:
أحدهما: أنه يكفي في ذلك الاستغفار للمغتاب، والدعاء له.
الثاني: أنه لا بد من إبلاغه بما حصل من اغتيابه، والتحلل منه. وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه العلامة ابن القيم، القول الأول[7].
المسألة الرابعة: التوبة من ذنب دون آخر:
اختلف العلماء في صحة توبة من تاب من ذنب مع إصراره على ذنب آخر، أو أكثر من ذنب، على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن التوبة تصح من ذنب مع الإصرار على ذنب آخر، وأنه لا يشترط في صحة التوبة من ذنب عدم الإصرار على ذنب آخر، واحتج من قال بذلك بصحة إسلام الكافر وتوبته من الكفر، وإن كان مصرًّا على ذنب من الذنوب لم يتب منه.
وهذا القول قد قال به كثير من العلماء، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد.
وقد رجحه النووي، وادعى إجماع أهل السُّنَّة على القول به، فقال: «وتصح التوبة من ذنب وإن كان مصرًّا على ذنب آخر... هذا مذهب أهل السُّنَّة»[8].
القول الثاني: أن التوبة لا تصح من ذنب مع الإصرار على غيره من الذنوب، قالوا: لأن التوبة هي: الرجوع إلى الله من مخالفته إلى طاعته وأي رجوع لمن تاب من ذنب واحد وأصر على ألف ذنب، وهذا القول قد ذهب إليه بعض العلماء، وهو الرواية الثانية عن الإمام أحمد.
القول الثالث: التفصيل في ذلك، بحيث يفرق بين الذنوب، فيقال: لا تصح التوبة من ذنب مع الإصرار على آخر من جنسه، وأما ما كان من غير جنسه فتصح التوبة مع وجوده والإصرار عليه.
وقد رجح ذلك العلاَّمة ابن القيم بعد ذكره للقولين الأولين[9].
وهذا القول الذي ذكره ابن القيم، ورجحه هو أقرب الأقوال إلى الصواب، والله أعلم.
المسألة الخامسة: توبة الأنبياء عليهم السلام:
لقد دلَّ القرآن على توبة الأنبياء عليهم السلام واستغفارهم لربهم وإنعامه عليهم بالمحبة والرحمة، فإن ذلك لا يؤثر في نبوتهم ولا رسالتهم؛ بل يجعله الله رفعة لدرجاتهم وعصمة لهم من أن يقروا على الذنوب والخطأ.
قال ابن تيمية رحمه الله: «وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها ومن اتبعهم على ما أخبر الله به في كتابه وما ثبت عن رسوله من توبة الأنبياء عليهم السلام من الذنوب التي تابوا منها، وهذه التوبة رفع الله بها درجاتهم فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وعصمتهم هي من أن يقروا على الذنوب والخطأ فإن من سوى الأنبياء يجوز عليهم الذنب الخطأ من غير توبة والأنبياء عليهم السلام يستدركهم الله فيتوب عليهم ويبين لهم كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِّيٍ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ *لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ *} [الحج] وقد ذكر الله تعالى قصة آدم ونوح وداود وسليمان وموسى وغيرهم»[10].
وقال رحمه الله أيضًا: «والله تعالى قصَّ علينا قصص توبة الأنبياء لنقتدي بهم في المتاب وأما ما ذكره سبحانه أن الاقتداء بهم في الأفعال التي أقروا عليها فلم ينهوا عنها ولم يتوبوا منها فهذا هو المشروع. فأما ما نهوا عنه وتابوا منه فليس بدون المنسوخ من أفعالهم وإن كان ما أمروا به أبيح لهم ثم نسخ تنقطع فيه المتابعة؛ فما لم يؤمروا به أحرى وأولى»[11].
المسألة السادسة: توبة قاتل المؤمن عمدًا:
اختلف أهل العلم في قاتل المؤمن العمد على قولين:
القول الأول: أن القاتل عمدًا لا توبة له:
وهذا القول هو المشهور عن ابن عباس رضي الله عنهما[12]، وإحدى الروايتين عن أحمد، ودليلهم قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا *} [النساء] ، وقالوا: إن الآية لم ينسخها شيء.
القول الثاني: أن توبته مقبولة:
وهذا هو قول جماهير أهل العلم. واستدلوا بعموم الآيات والأحاديث التي تدل على أن الله يقبل توبة التائبين، مثل: قوله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ *} [الزمر] ، وقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا *يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً *إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا *} [الحج] ، فهذه الآيات نصٌّ صريح وواضح في قبول توبة القاتل، وكذلك فإن التوبة تصح من الكفر، فمن القتل من باب أولى. فإذا كان الإسلام ماحيًا للذنوب التي قبله مهما عظمت فكذا التوبة. يقول ابن القيم رحمه الله: «فإن هدم التوبة لما قبلها كهدم الإسلام لما قبله»[13].
وهذا القول هو الصحيح، فباب التوبة مفتوح لم يغلق دون كل عاص، والوعيد في آية النساء يمنعه موانع كثيرة، منها: إقامة الحد، التوبة النصوح، الحسنات الكثيرة، المصائب المكفرة[14]. ولكن يبقى النظر في القتيل، كيف يستوفي حقه، ويوجه ذلك ابن القيم رحمه الله بقوله: «فالصواب والله أعلم أن يقال: إذا تاب القاتل من حق الله، وسلَّم نفسه طوعًا إلى الوارث ليستوفي منه حق موروثه سقط عنه الحقان، وبقي حق الموروث لا يضيعه الله، ويجعل من تمام مغفرته للقاتل تعويض المقتول؛ لأن مصيبته لم تنجبر بقتل قاتله، والتوبة النصوح تهدم ما قبلها، فيعوض هذا عن مظلمته، ولا يعاقب هذا لكمال توبته»[15].
المسألة السابعة: معنى قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ}:
أخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية عن توبته على النبي صلّى الله عليه وسلّم والمهاجرين والأنصار، وهذه التوبة فيها رفعةٌ لدرجاتهم وتعظيمٌ لحسناتهم، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وليست التوبة نقصًا؛ بل هي من أفضل الكمالات وهي واجبة على جميع الخلق.
كما دلَّت هذه الآية على قدر التوبة وفضلها عند الله، وأنها غاية كمال المؤمن، فإنه سبحانه أعطاهم هذا الكمال بعد أن قضوا نحبهم، وبذلوا نفوسهم وأموالهم وديارهم لله، وكان غاية أمرهم أن تاب عليهم، ولهذا جعل النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم يوم توبة كعب خير يوم مرَّ عليه منذ ولدته أمه إلى ذلك اليوم، ولا يعرف هذا حق معرفته إلا من عرف الله، وعرف حقوقه عليه، وعرف ما ينبغي له من عبوديته، وعرف نفسه وصفاتها وأفعالها، وأن الذي قام به من العبودية بالنسبة إلى حق ربه عليه كقطرة في بحر، هذا إذا سلم من الآفات الظاهرة والباطنة[16].


[1] انظر: تفسير الطبري (14/167).
[2] انظر: تفسير ابن كثير (4/414) [دار الفيحاء، ط1، 1413هـ]، والجامع لأحكام القرآن (21/96 ـ 97) [مؤسسة الرسالة، ط1، 1427هـ].
[3] انظر: تفسير السعدي (874) [مؤسسة الرسالة، ط1].
[4] انظر: أضواء البيان (5/521) [دار الفكر، 1415هـ]، ومدارج السالكين (1/316)، وفتح الباري (11/105).
[5] أخرجه البخاري (كتاب الرقاق، رقم 6506)، ومسلم في (كتاب الإيمان، رقم 157).
[6] تفسير ابن كثير (1/504).
[7] انظر: الوابل الصيب (320 ـ 321) [دار البيان].
[8] شرح النووي (17/59).
[9] انظر: مدارج السالكين (1/298 ـ 300).
[10] جامع الرسائل لابن تيمية (1/269) [دار العطاء، ط1، 1422هـ] .
[11] مجموع الفتاوى (15/180).
[12] جاء ذلك عنه من عدة طرق: أخرجها الطبري في تفسيره (9/62 ـ 67)، وقد وجه بعض أهل العلم قول ابن عباس رضي الله عنهما بأن مراده في عدم توبته لا يعني أنه مخلد في النار، أو أنه استبعد أن يكون للقاتل عمدًا توبة، ورأى أنه لا يوفق للتوبة، وإذا لم يوفق للتوبة، فإنه لا يسقط عنه الإثم؛ بل يؤاخذ به. أو أنه أراد: أن لا توبة له فيما يتعلق بحق المقتول. انظر: مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (8/222). وقد ثبت عنه رضي الله عنه أن للقاتل توبة. انظر: صحيح الأدب المفرد (باب بِرُّ الأم، رقم 4) [دار الصديق، ط4، 1418هـ]، ولعل هذا هو ما استقر عليه قوله رضي الله عنه.
[13] انظر: مدارج السالكين (1/402).
[14] انظر: المصدر السابق (1/396)، وشرح مسلم للنووي (17/82 ـ 84) [دار إحياء التراث، ط2]، ومنهاج السُّنَّة لابن تيمية (4/325) [جامعة الإمام، ط1، 1406هـ]، وشرح الطحاوية (308 وما بعدها [وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف، ط1، 1418هـ]، وفتح الباري (8/495 ـ 496) [دار المعرفة، 1379هـ]، وفتح القدير (1/576 ـ 577) [دار ابن كثير، ط1، 1414هـ].
[15] المصدر السابق (1/402).
[16] انظر: مجموع الفتاوى (15/51)، وزاد المعاد (3/517 ـ 518) [مؤسسة الرسالة، ط27].


الفرق بين التوبة والاستغفار:
1 ـ إذا ذكر الاستغفار مفردًا، فإنه يراد به التوبة، مع طلب المغفرة من الله تعالى، وهو محو الذنب ووقاية شرّه، والستر لازم لهذا المعنى، كما قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا *} [نوح] ، فالاستغفار يتضمن التوبة، والتوبة تتضمن الاستغفار.
2 ـ إذا اقترن الاستغفار بالتوبة، كان لكلٍّ منهما معنى يختص به، فيكون الاستغفار: طلب وقاية شرّ ما مضى، والتّوبة: الرّجوع وطلب وقاية شرّ ما يخافه في المستقبل من سيّئات أعماله، كما في قوله تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 3] ، فخصت التوبة بالرجوع، والاستغفار بالمفارقة.
ويقال أيضًا: الاستغفار من باب إزالة الضرر، والتوبة طلب جلب المنفعة، فالمغفرة: أن يقيه شر الذنب، والتوبة: أن يحصل له بعد هذه الوقاية ما يحبه[1].
الفرق بين التوبة والإنابة:
1 ـ أن كلًّا من التوبة والإنابة تأتي بمعنى الرجوع إلى الله تعالى، وترك الذنوب.
2 ـ أن الإنابة أرق من التوبة لما تشعر به من الاعتماد التام على الله تعالى.
3 ـ أن مقام الإنابة أعلى من مقام التوبة، فهي تدل على معنى التوبة مع الإقبال على الله تعالى بالعبادات.
3 ـ أن الإنابة لا تكون إلا لله تعالى، بخلاف التوبة، فقد تكون في بعض أمور الدنيا، كما يقال: جاء فلان تائبًا إلى الوالي[2].


[1] انظر: مدارج السالكين (1/334 ـ 336).
[2] انظر: حاشية ثلاثة الأصول لابن قاسم (40) [ط5، 1407هـ].


1 ـ حصول محبة الله تعالى ورضاه عن التائب.
2 ـ زيادة الإيمان.
3 ـ يتجلّى الله على التّائب برضوانه وإحسانه.
4 ـ يُقبل الله على التّائب أضعاف إقبال عبده عليه بطاعته.
5 ـ بالتّوبة يذهب الضّيق ويزول الهمّ.
6 ـ بالتوبة يتطهر القلب من المعاصي ويُمحى أثرها.
7 ـ بالتوبة تُبدل السيئات حسنات.
8 ـ الفوز والفلاح ودخول الجنات.



1 ـ «الاستقامة»، لابن تيمية.
2 ـ «الجامع لأحكام القرآن»، للقرطبي.
3 ـ «زاد المعاد»، لابن القيم.
4 ـ «شرح النووي على مسلم».
5 ـ «فتح الباري»، لابن حجر.
6 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.
7 ـ «مدارج السالكين»، لابن القيم.
8 ـ «مصطلحات في كتب العقائد»، لمحمد الحمد.
9 ـ «النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى»، لمحمد النجدي.
10 ـ «الوابل الصيب»، لابن القيم.