حرف التاء / توحيد الألوهية

           

التوحيد: من وحّد يوحِّد توحيدًا، وتدور هذه المادة على الانفراد، والاختصاص، والوحدة. يقال: رجل واحد: متقدم في بأسٍ، أو علم، أو غير ذلك؛ كأنه لا مثل له، فهو وحده لذلك[1]. قال ابن فارس: «الواو والحاء والدال أصل واحد يدل على الانفراد، من ذلك الوحدة، وهو واحد قبيلته، إذا لم يكن فيهم مثله... والواحد: المنفرد»[2].
الألوهية: مصدر أله يأله إلاهة وألوهة وألوهية؛ بمعنى: عبد عبادة، والتألّه: التنسك، والتعبد، قال ابن فارس: «الهمزة واللام والهاء أصل واحد: وهو التعبد، فالإله الله تعالى، وسمِّي بذلك لأنه المعبود، ويقال: تأله الرجل إذا تعبد»[3].
والإله: في كلام العرب هو المعبود، سواءً كان بحق أو باطل، وكان حق هذا الاسم أن لا يُجمع إذ لا معبود يستحق العبادة سوى الله سبحانه وتعالى، لكن العرب لاعتقادهم أن هاهنا معبودات جمعوه فقال: الآلهة، وأسماؤهم تتبع اعتقاداتهم، لا ما عليه الشيء في نفسه[4].


[1] انظر: الصحاح (2/547) [دار العلم للملايين، ط3]، ولسان العرب (15/230) [دار إحياء التراث العربي، ط3].
[2] مقاييس اللغة (6/90) [دار الجيل، ط1420هـ].
[3] مقاييس اللغة (1/127).
[4] انظر: المفردات في غريب القرآن للراغب (21) [مكتبة نزار مصطفى الباز]، والصحاح (6/2224)، ولسان العرب (13/468).


توحيد الألوهية: هو إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، مع كمال المحبة، والخوف والرجاء[1].


[1] انظر: شرح الأصبهانية لابن تيمية (107) [دار المنهاج، ط1، 1430هـ]، ومجموع الفتاوى له (1/365، 2/14، 10/249) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ط2]، وشرح العقيدة الطحاوية (1/24) [مؤسسة الرسالة، ط13، 1419هـ]، وعقيدتنا عقيدة القرآن والسُّنَّة لمحمد خليل هراس (29) [دار الكتاب والسُّنَّة، ط1].


من أسمائه: توحيد العبادة، توحيد الإرادة والقصد، توحيد الطلب والعمل، أو التوحيد العملي الطلبي، أو التوحيد الفعلي[1].


[1] انظر: التسعينية لابن تيمية (3/801) [مكتبة المعارف، ط1]، وشرح العقيدة الطحاوية (1/24)، وتيسير العزيز الحميد (1/120) [دار الصميعي، ط1]، والحق الواضح المبين للسعدي (1/212) [ضمن المجموعة الكاملة، مركز صالح بن صالح الثقافي، ط2].


تضافرت الأدلة من كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وتنوعت دلالاتها على وجوب توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة وإخلاص الدين له إذ هو أوجب الواجبات، وأهم المهمات، وأصل الأصول، وحق الله الأعظم.



لمّا كان هذا توحيد الألوهية أصل الدين وأساس الملة ورأس الأمر فإن حقيقته تظهر في إفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة الظاهرة والباطنة، فتوحيد الألوهية هو حقيقة التوحيد الذي أرسلت من أجله الرسل، وأنزلت لأجله الكتب.
قال ابن تيمية رحمه الله: «إن حقيقة التوحيد أن نعبد الله وحده، فلا يدعى إلا هو، ولا يخشى إلا هو، ولا يُتقى إلا هو، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يكون الدين إلا له لا لأحد من الخلق، وأن لا نتخذ الملائكة والنبيين أربابًا، فكيف بالأئمة والشيوخ والعلماء والملوك»[1].


[1] منهاج السُّنَّة النبوية (3/490) [جامعة الإمام، ط1].


توحيد الألوهية أعظم مطلوب، وأسمى غاية خلق من أجلها الإنس والجن؛ فإن حاجة العباد إلى ربهم في عبادتهم إياه، وتألهِهِم له؛ كحاجتهم في خلقه لهم، ورزقه إياهم، ومعافاة أبدانهم، وستر عوراتهم؛ بل حاجتهم إلى تألهه ومحبته وعبوديته أعظم؛ فإن ذلك هو الغاية المقصودة لهم، ولا صلاح لهم، ولا نعيم، ولا فلاح، ولا لذة، ولا سعادة بدون ذلك بحال، ولهذا كانت: لا إله إلا الله أحسن الحسنات، وكان توحيد الإلهية رأس الأمر[1].


[1] انظر: إغاثة اللهفان (1/75) [دار ابن الجوزي، ط1].


توحيد الألوهية أهم أنواع التوحيد وأجلها؛ إذ من أجله خلق الإنس والجن وأرسل الرسل، وأنزلت الكتب، وشرع الجهاد وفرق بين العباد إلى مؤمنين وكفار، وأعدت الجنة والنار، وعصمت به الدماء والأموال، وحاجة العباد إلى عبادة الله وحده لا شريك له في محبته، ولا في خوفه، ولا في رجائه، ولا في التوكل عليه، ولا في العمل له، ولا في الخضوع له، ولا في التذلل والتعظيم والتقرب أعظم من حاجة الجسد إلى روحه، والعين إلى نورها؛ بل ليس لهذه الحاجة نظير يقاس به فإن حقيقة العبد وروحه وقلبه لا صلاح لها إلا بإلهها الذي لا إله إلا هو ولا تطمئن إلا بذكره، ولا صلاح لها إلا بمحبتها وعبوديتها له ورضاه وإكرامه لها.
يقول السعدي رحمه الله مبينًا أهمية هذا التوحيد بكلام رصين متين: «وهذا الأصل العظيم أعظم الأصول على الإطلاق، وأكملها وأفضلها وأوجبها وألزمها لصلاح الإنسانية، وهو الذي خلق الله الجن والإنس لأجله، وخلق المخلوقات وشرع الشرائع لقيامه، وبوجوده يكون الصلاح، وبفقده يكون أكثر الفساد وجميع الآيات القرآنية إما أمر بحق من حقوقه، أو نهي عن ضده أو إقامة حجة عليه أو بيان جزاء أهله في الدنيا والآخرة، وبيان الفرق بينهم وبين المشركين، ويقال له: توحيد الألوهية فإن الإلهية وصْفه تعالى الذي ينبغي أن يؤمن به كل بني آدم، ويوقِّتوا أنه الوصف الملائم له سبحانه الدَّال عليها الاسم العظيم وهو (الله)، وهو مستلزم جميع صفات الكمال، ويقال له: توحيد العبادة باعتبار وجوب ملازمة وصف العبودية بكل معانيها للعبد بإخلاص العبادة لله تعالى، وتحقيقها في العبد أن يكون عارفًا بربه مخلصًا له جميع عبادته محققًا ذلك بترك الشرك صغيره وكبيره»[1].


[1] القواعد الحسان (192).


قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *} [البقرة] ، وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] ، وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ *} [الزمر] ، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ *} [الذاريات، والنحل: 36] ، وغيرها من الآيات الكثيرة.
وأما من السُّنَّة: فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: «كنت رديف النبي صلّى الله عليه وسلّم على حمار فقال لي: يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد، وحق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا»[1].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم معاذًا إلى اليمن قال له: «إنك تقدم على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله تعالى فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم...» الحديث[2].


[1] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، رقم 7373)، ومسلم، كتاب الإيمان، رقم 30).
[2] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، رقم 7372) واللفظ له، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 19).


قال ابن تيمية رحمه الله: «أما التوحيد العملي الذي ذكره الله في كتابه وأنزل به كتبه وبعث به رسله، واتفق عليه المسلمون من كل ملة فهو كما قال الأئمة: شهادة أن لا إله إلا الله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما بيَّن ذلك بقوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ *} [البقرة] فأخبر أن الإله إله واحد ولا يجوز أن يتخذ إله غيره فلا يعبد إلا إياه»[1].
ويقول السعدي رحمه الله: «فأما حدّه ـ أي: توحيد الألوهية ـ وتفسيره وأركانه فهو أن يعلم ويعترف على وجه العلم واليقين أن الله هو المألوه وحده المعبود على الحقيقة، وأن صفات الألوهية ومعانيها ليست موجودة بأحد من المخلوقات ولا يستحقها إلا الله تعالى»[2].
ويقول محمد خليل هراس رحمه الله: «التوحيد: هو صفة الله عزّ وجل: إما أن يكون توحيدًا في إلاهيته؛ بمعنى: أنه الإله المعبود بحق، الذي ينبغي أن تتألهه القلوب محبة وتعظيمًا، وإجلالاً، وخوفًا ورجاءً، وأن تفرده بالعبادة والتقديس، وأن تخلص له الدين في كل ما دان به عباده من أمر أو نهي، وهذا النوع هو المتبادر من لفظ التوحيد عند إطلاقه؛ نظرًا لأهميته، فهو التوحيد الذي دعت إليه الرسل عليهم الصلاة والسلام أممهم، وقاتلتهم عليه، وهو الذي خلق الله الخلق جميعًا لأجله»[3].


[1] التسعينية (3/797).
[2] الحق الواضح المبين للسعدي (1/268).
[3] عقيدتنا عقيدة القرآن والسُّنَّة (29).


توحيد الألوهية له أركان ثلاثة؛ هي[1]:
الأول: الإخلاص: ويسمى توحيد المراد، فلا يكون للعبد مراد غير مراد واحد وهو الله سبحانه وتعالى فلا يزاحمه مراد آخر.
الثاني: الصدق: ويسمى توحيد إرادة العبد، وذلك بأن يبذل جهده وطاقته في عبادة ربه وإسلام الوجه له.
الثالث: تجريد المتابعة: وهو المتابعة للرسول صلّى الله عليه وسلّم والاقتداء به والسير على منهاجه واقتفاء آثاره.
فدليل الإخلاص قوله تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي *} [الزمر] ، ودليل الصدق قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ *} [التوبة] ، ودليل المتابعة قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] .
قال ابن تيمية رحمه الله: «التوحيد الذي لا بدَّ منه لا يكون إلا بتوحيد الإرادة والقصد: وهو توحيد العبادة، وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله؛ أن يقصد الله بالعبادة، ويريده بذلك، دون ما سواه، وهذا هو الإسلام؛ فإن الإسلام يتضمن أصلين: أحدهما: الاستسلام لله، والثاني: أن يكون ذلك له سالمًا؛ فلا يشركه أحد في الإسلام له، وهذا هو الاستسلام لله دون ما سواه، وسورة {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ *} تفسر ذلك، ولا ريب أن العمل، والقصد مسبوق بالعلم، فلا بد أن يعلم ويشهد أن لا إله إلا الله»[2].
وقال ابن القيم رحمه الله: «حقيقة الإخلاص: توحيد المطلوب، وحقيقة الصدق: توحيد الطلب والإرادة، ولا يثمران إلا بالاستسلام المحض للمتابعة»[3].


[1] الحق الواضح المبين للسعدي (1/269).
[2] التسعينية (3/801 ـ 802).
[3] مدارج السالكين (2/74) [دار إحياء التراث العربي، ط1، 1419هـ].


لما كانت حقيقة توحيد الألوهية تظهر في تحقيق العبد لمدلول قول: لا إله إلا الله؛ إذ إن هذه الكلمة هي شهادة الحق وأعلى شعب الإيمان، وأصل الدين، ودعوة الحق، وكلمة السواء وكلمة العدل فلا يتحقق توحيد الألوهية للعبد إلا بالنطق بها ومعرفة معناها والعمل بمقتضاها، وقد دلَّ استقراء نصوص الكتاب والسُّنَّة على أن لها ثمانية شروط تتمثل في الآتي:
1 ـ العلم بمعناها نفيًا وإثباتًا.
2 ـ اليقين.
3 ـ الإخلاص المنافي للشرك.
4 ـ المحبة المنافية لضدها وهو البغضاء.
5 ـ الصدق المنافي للكذب المانع من النفاق.
6 ـ الانقياد المنافي للترك.
7 ـ القبول المنافي للرد.
8 ـ الكفر بما يعبد من دون الله تعالى[1].


[1] انظر: معارج القبول (2/518 ـ 524) [دار ابن الجوزي، ط6، 1430هـ].


المسألة الأولى: علاقة توحيد الألوهية بتوحيد الربوبية، وبتوحيد الأسماء والصفات:
أنواع التوحيد عند أهل السُّنَّة والجماعة متلازمة يرتبط بعضها ببعض، ولا يمكن انفكاكها بحال، ومن ذلك ارتباط توحيد الألوهية بتوحيد الربوبية فتوحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية؛ بمعنى: أن الإقرار بتوحيد الربوبية يوجب الإقرار بتوحيد الألوهية، فمن أقر أن الله تعالى ربه وخالقه ومدبر شؤونه، وقد دعاه هذا الخالق إلى عبادته وجب عليه أن يعبده وحده ولا يشرك به شيئًا، وقد احتج الله سبحانه وتعالى على المشركين المقرين بربوبية الله تعالى بأن إقرارهم بذلك يقتضي ويستلزم إقراره بالعبادة بأن يعبدوه وحده لا شريك له، وترك عبادة كل ما سواه ولهذا قال جلّ جلاله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *} [البقرة] .
وتوحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية؛ بمعنى: أن توحيد الربوبية يدخل ضمنًا في توحيد الألوهية، فمن عَبَد الله وحده لا شريك له فلا بد وأن يكون معتقدًا أنه ربه وخالقه ورازقه،؛ إذ لا يعبد إلا من بيده النفع والضر، وله الخلق والأمر.
قال ابن تيمية رحمه الله: «التوحيد الذي دعت إليه الرسل، ونزلت به الكتب هو توحيد الإلهية المتضمن توحيد الربوبية، وهو عبادة الله وحده لا شريك له؛ فإن المشركين من العرب كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، وأن الله خالق السماوات والأرض واحد... وأيضًا ففي القرآن العزيز من باب استفهام الإنكار، الذي يتضمن إقرارهم بتوحيد الربوبية ما يطول ذكره عنها... وهذا في القرآن كثير مما يحتج عليهم في إثبات توحيد الإلهية بما اعترفوا به من توحيد الربوبية»[1].
وقال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله: «وتوحيد الإلهية متضمن لتوحيد الربوبية دون العكس، فمن لا يقدر على أن يخلق يكون عاجزًا والعاجز لا يصلح أن يكون إلهًا، وقال تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ *} [الأعراف] ، وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ *} [النحل] »[2].
وأما العلاقة بينه وبين توحيد الأسماء والصفات فهو من وجه يستلزم توحيد الأسماء والصفات، ومن وجه متضمن لتوحيد الأسماء والصفات:
فالوجه الأول: كونه كلما قويت معرفة العبد بأسماء الله وصفاته، قوي توحيده، وتم إيمانه.
وأما الوجه الثاني: فهو أن المعبود لذاته لا بد وأن يكون متصفًا بصفات الكمال والجلال؛ فلا يستحق أن يكون معبودًا محبوبًا لذاته إلا الله المتصف بتلك الصفات.
يقول ابن تيمية رحمه الله: «والإله: هو المألوه الذي تألهه القلوب، وكونه يستحق الإلهية مستلزمًا لصفات الكمال، فلا يستحق أن يكون معبودًا محبوبًا لذاته إلا هو»[3].
ويقول أيضًا: «فإن الإله: هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد، وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع، والعبادة تتضمن غاية الحب بغاية الذل»[4].
ويقول السعدي رحمه الله في بيان كونه متضمنًا له: «وهذا النوع من التوحيد ـ أي: توحيد الإلهية ـ متضمن للنوع الأول: الذي هو توحيد الأسماء والصفات، الداخل فيها توحيد الربوبية؛ لأن الله هو الذي له صفة الإلهية، وهي صفات الكمال كلها، وكلما قوي إيمان العبد، ومعرفته بأسماء الله وصفاته، قوي توحيده وتم إيمانه»[5].


[1] شرح الأصبهانية (123 ـ 124).
[2] شرح العقيدة الطحاوية (1/41).
[3] اقتضاء الصراط المستقيم (2/855) [مكتبة الرشد].
[4] مجموع الفتاوى (10/249).
[5] الحق الواضح المبين للسعدي (1/270).


الفرق بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية:
الانحراف في فهم حقيقة هذين القسمين من أقسام التوحيد ومدلولها أدى إلى عدم التمييز بين التوحيد الذي أمر الله به، والشرك الذي نهى الله عنه وحذَّر منه، فكان لا بد من بيان أوجه الفرق بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية ليعرف التوحيد الخالص والدين الحق الذي بعث الله به رسله وأنزل في كتبه، وهي كالتالي:
1 ـ الاختلاف في الاشتقاق اللغوي؛ فالربوبية مشتق من اسم الرب والألوهية مشتق من لفظ الإله.
2 ـ الاختلاف في التعريف؛ فتوحيد الربوبية هو إفراد الله بأفعاله، وتوحيد الألوهية هو إفراد الله بأفعال العباد.
3 ـ فرق في الإقرار؛ فالمشركون مقرون بتوحيد الربوبية كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ *} [الزخرف] ، وتوحيد الألوهية أنكره المشركون، كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ *} [الصافات] .
4 ـ فرق في المدلول؛ فتوحيد الربوبية مدلوله علمي، وأما التوحيد فمدلوله عملي.
5 ـ فرق في اللزوم والتضمن؛ فتوحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية، وأما توحيد الألوهية فهو يتضمن توحيد الربوبية.
6 ـ فرق في الكفاية؛ فتوحيد الربوبية لا يكفي وحده للدخول في الإسلام، وأما الألوهية فالإقرار به هو أصل الإسلام والإقرار به يتضمن الإقرار بالربوبية.
فهذه أظهر الفروق في التميز بينهما وبالتالي يتبين خطأ وانحراف من لم يفرق بينهما لظنه أنهما شيء واحد[1].


[1] انظر: المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية على مذهب أهل السُّنَّة والجماعة للبربكان (96 ـ 97).


ثمرات توحيد الإلهية كثيرة لا تُحصى ولا تُعد، فكل خير في العاجل والآجل فهو من ثمرات هذا التوحيد؛ إذ هو المقصود الأول من خلق الخليقة، وهو الغاية الأسمى، والمطلوب الأعظم.
فمن أعظم ثمراته: هو الفوز بالجنة في دار كرامته؛ والتنعم بنعيمها، أبد الآباد، والنجاة من النار وعذابها، والخلود فيها، وذلك كله هو الفوز العظيم؛ كما قال تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185] .
ومن ثمراته: حصول الأمن والاهتداء التام في الدنيا والآخرة؛ كما قال جلّ جلاله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ *} [الأنعام] .
ومن ثمراته: حصول الطمأنينة والراحة القلبية التامة، والحياة الطيبة الهنيئة، التي لا ضنك معها، ولا ضيق؛ كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *} [النحل] ، فرأس العمل الصالح، وأساس الإيمان: هو توحيد الألوهية.
فالحاصل: أن كل خير في الدنيا والآخرة فهو من ثمرات هذا التوحيد، وكل شر في الدنيا والآخرة فهو من ضده: الشرك بالله تعالى.
قال السعدي رحمه الله تعالى: «فكل خير عاجل وآجل فهو من ثمرات التوحيد، وكل شر عاجل وآجل فهو من ثمرات ضده»[1].


[1] القواعد الحسان لتفسير القرآن (21) [دار الرشد، ط1].


المتكلمون لا يفرقون بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية؛ بل هما ـ عندهم ـ شيء واحد؛ فهم يفسرون الإله بالقادر على الاختراع، وهذا التفسير يدل على أن الربَّ والإله والربوبية والألوهية شيء واحد لا فرق بينهما البته، فيفسر هذا بهذا وهذا بهذا، فكان هذا التفسير للإله أعظم أسباب دخول الشرك في الأمة.
يقول ابن تيمية رحمه الله: «وليس المراد بالإله هو القادر على الاختراع كما ظنه من ظنه من أئمة المتكلمين، حيث ظنَّ أن الإلهية هي القدرة على الاختراع، وأن من أقر بأن الله هو القادر على الاختراع دون غيره فقد شهد أن لا إله إلا هو، فإن المشركين كانوا يقرون بهذا وهم مشركون... بل الإله الحق هو الذي يستحق أن يعبد، فهو إله بمعنى: مألوه. لا إله بمعنى آله؛ والتوحيد أن يعبد الله وحده لا شريك له، والإشراك أن يجعل مع الله إلهًا آخر»[1].
وقد تقدم في الفروق بيان الفرق بينهما، لكن هذا التفسير للألوهية بأنه الربوبية من قبل المتكلمين قد أحدث فسادًا اعتقاديًّا عظيمًا وضلالاً بيِّنًا في الأمة، يمكن إجماله في الآتي:
أولها: أن أول واجب على المكلف هو توحيد الربوبية، وهذا معلوم الفساد بالضرورة؛ لأن الإقرار بوجود الله وربوبيته أمر مركوز في الفطرة.
ثانيها: أنه لا يتصور وقوع الشرك إلا إذا اعتقد الإنسان ربوبية غير الله تعالى، وهذا الظن أدى إلى فشو مظاهر الشرك العملي في الأمة من ذبح ونذر لغير الله ودعاء واستعانة واستغاثة بغير الله، وتشييد المشاهد، وتقديس الأضرحة والقبور، وتقديم القرابين والنذور لها، فأصبحت هذه المظاهر عند أربابها ليست شركًا، وهذا عين المحادة لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم، وما كان المشركون الأولون الذين بعث إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفعلون مع أصنامهم وأوثانهم إلا كما يفعله هؤلاء اليوم، فأي فرق بين الفريقين؟!
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مبيِّنًا ما جرى من فساد وضلال في الأمة بسبب عدم التفريق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية: «ولهذا التبس على طوائف من الناس أصل الإسلام حتى صاروا يدخلون في أمور عظيمة هي شرك ينافي الإسلام لا يحسبونها شركًا، وأدخلوا في التوحيد والإسلام أمورًا باطلة ظنوها من التوحيد وهي تنافيه وأخرجوا من الإسلام والتوحيد أمور عظيمة لم يظنوها من التوحيد وهي أصله فأكثر هؤلاء المتكلمين لا يجعلون التوحيد إلا ما يتعلق بالقول والرأي واعتقاد ذلك دون ما يتعلق بالعمل والإرادة واعتقاد ذلك»[2].


[1] مجموع الفتاوى (3/101).
[2] الفتاوى الكبرى (5/250).


1 ـ «التوحيد وأثره على العبد»، خميس السعيد.
2 ـ «الحق الواضح المبين»، للسعدي.
3 ـ «حقيقة التوحيد بين أهل السُّنَّة المتكلمين»، لعبد الله السلمي.
4 ـ «حقيقة التوحيد والفروق بين الربوبية والألوهية»، لعلي العلياني.
5 ـ «شرح العقيدة الطحاوية»، لابن أبي العز.
6 ـ «الفتاوى الكبرى»، لابن تيمية.
7 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.
8 ـ «المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية»، للبريكان.
9 ـ «منهج أهل السُّنَّة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى»، لخالد نور.
10 ـ «أهمية دراسة التوحيد»، لمحمد بن عبد الرحمن أبو سيف.