قال ابن فارس: «الخاء والباء والتاء أصل واحد، يدل على خشوع، يقال: أَخْبَتَ يخبِتُ إخباتًا إذا خشع»[1]. ويجمع على أخبات وخبوت. وقال ابن الأعرابي: «الْخَبْتُ ما اطمأنَّ من الأرض واتسع»[2]. وقد فسَّر ثعلب الإخبات في قوله تعالى: {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 54] بالتواضع. وفي قوله: «واجعلني لك مخبتًا» [3]؛ أي: خاشعًا مطيعًا[4].
[1] مقاييس اللغة (2/238).
[2] لسان العرب (2/27) [دار الفكر، ط1، 1410هـ].
[3] سيأتي تخريجه.
[4] انظر: المفردات للراغب (272) [دار القلم، ط2، 1418هـ]، ولسان العرب (2/27 ـ 28)، والقاموس المحيط (193) [مؤسسة الرسالة ط2، 1407هـ].
عرَّف ابن القيم الإخبات بقوله: «فالإخبات سكون الجوارح على وجه التواضع والخشوع لله»[1].
العلاقة بين المعنى اللغوي والشرعي:
لما كان لفظ الإخبات في اللغة يطلق على المطمئن من الأرض، والواسع منها، أطلق في الشرع على كل ما يفيد ذلك المعنى من الخشوع، والخضوع، والتواضع، والإنابة، والطمأنينة، فلفظ الإخبات له ارتباط وثيق بهذه المعاني كلها.
قال ابن عطية رحمه الله ـ بعد ذكره للأقوال في معنى الإخبات ـ: «وهذه الأقوال بعضها قريب من بعض، وأصل اللفظ من الخبت وهو البراح القفر المستوي من الأرض، فكأن المخبت في القفر قد انكشف واستسلم وبقي ذا منعة، فشبه المتذلل الخاشع بذلك، وقيل: إنما اشتق منه لاستوائه وطمأنينته»[2].
[1] شفاء العليل (183) [دار الكتب العلمية، ط1، 1407هـ].
[2] المحرر الوجيز (939) [دار ابن حزم، ط1، 1423هـ].
حقيقة الإخبات تدور حول معنى: الخشوع، والتواضع، والإنابة، والطمأنينة، والخوف.
والمخبت لله تعالى هو الخاضع له بالطاعة، المذعن له بالعبودية، والمنيب إليه بالتوبة[1].
والإخبات: لا يكون إلا بالاجتهاد في الطاعة، واطمئنان القلبِ بالإيمان، قال تعالى: {وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [هود: 23] .
[1] انظر: تفسير الطبري (18/628)، وزاد المسير (648 ـ 649) [المكتب الإسلامي، ط1، 1423هـ]، ومدارج السالكين (2/3) [دار الكتب العلمية ط1، 1403هـ]، وشفاء العليل (183).
يُعَدُّ الإخبات من أرفع أحوال القلب وأسماها، فلا يتصف به إلا من اطمأن قلبه بالإيمان، واجتهد في تحقيق طاعة الرحمن، ومما يدل على علو منزلة الإخبات أن صاحبه يخشع قلبه إذا ذكر الله، ويصبر على ما أصابه من نوائب الدهر ونكباته، ويداوم على إقامة الصلاة وعلى الإنفاق مما رزقه الله، ثم عاقبته الحميدة أن يكون من أصحاب الجنة الخالدين فيها.
من القرآن الكريم: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ *} [هود] ، وقوله: {...فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاَةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ *} [الحج] ، وقوله: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ *} [الحج] .
ومن السُّنَّة المطهرة: ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أنه قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يدعو يقول: «ربِّ أَعني ولا تعن عليّ، وانصرني ولا تنصر علي، وامكر لي ولا تمكر علي، واهدني ويسر هداي إلي، وانصرني على من بغى علي، اللَّهُمَّ اجعلني لك شاكرًا، لك ذاكرًا، لك راهبًا، لك مطواعًا، إليك مخبتًا ـ أو منيبًا ـ، رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبت حجتي، واهد قلبي، وسدد لساني، واسلل سخيمة قلبي»[1].
أقوال أهل العلم:
قال الطبري: «المخبتين: الذين تخشع قلوبهم لذكر الله، وتخضع من خشيته، وَجَلاً من عقابه، وخوفًا من سخطه»[2].
وقال ابن تيمية عن معنى الإخبات وتأثيره على القلب ـ: «فالقلب لا يصلح ولا يفلح ولا يلتذ ولا يسر ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة إليه. ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن، إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه ومن حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة»[3].
وقال ابن القيم: «اعلم أنه متى استقرت قدم العبد في منزلة الإخبات وتمكن فيها ارتفعت همته، وعلت نفسه عن خطفات المدح والذم، فلا يفرح بمدح الناس، ولا يحزن لذمهم. هذا وصف من خرج عن حظ نفسه، وتأهل للفناء في عبودية ربه، وصار قلبه مطرحًا لأشعة أنوار الأسماء والصفات، وباشر حلاوة الإيمان واليقين قلبه»[4].
[1] أخرجه أبو داود (كتاب الصلاة، رقم 1510)، والترمذي (أبواب الدعوات، رقم 3551) وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (كتاب الدعاء، رقم 3830)، وابن حبان (كتاب الرقاق، رقم 947)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (رقم 1353).
[2] تفسير الطبري (16/552) [دار هجر].
[3] مجموع الفتاوى (10/194).
[4] مدارج السالكين (2/8) [دار الكتاب العربي، ط3].
علامات المخبتين:
1 ـ وجل القلوب وهيبتها عند ذكر الله تعالى، مع المحبة والتعظيم.
2 ـ الصبر عند المصيبة، رضًا بقضاء الله وقدره.
3 ـ إقامة الصلوات الخمس، إقامة تامة بشروطها وواجباتها وسننها.
4 ـ الإحسان إلى عباد الله بالإنفاق عليهم.
قال تعالى: {...فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاَةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ *} [الحج] . قال ابن القيم: «فذكر للمخبتين أربع علامات: وجل قلوبهم عند ذكره ـ والوجل: خوف مقرون بهيبة ومحبة ـ، وصبرهم على أقداره، وإتيانهم بالصلاة قائمة الأركان ظاهرًا وباطنًا، وإحسانهم إلى عباده بالإنفاق مما آتاهم، وهذا إنما يتأتى للقلب المخبت»[1].
[1] شفاء العليل (183).
من ثمرات الإخبات:
ـ «أنه أول درجات الطمأنينة والثقة بالله وحسن الظن به.
ـ أن للمخبت البشرى من الله بالجنة.
ـ الإخبات من الأحوال القلبية الموجبة للالتفات عما سوى الله.
ـ الإخبات يورث صاحبه العزة في الدنيا والنجاة في الآخرة.
ـ الإخبات يقي من الفتنة.
ـ بالإخبات ترتفع الهمة وتعلو النفس عن الرغبة في المدح أو الخشية من الذم.
ـ بالإخبات يباشر القلب حلاوة الإيمان واليقين»[1].
[1] نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (2/123) [دار الوسيلة، ط4].
1 ـ «إصلاح القلوب»، لعبد الهادي حسين وهبي.
2 ـ «أعمال القلوب؛ حقيقتها وأحكامها عند أهل السُّنَّة والجماعة ومخالفيهم»، لسهل العتيبي.
3 ـ «أعمال القلوب وأثرها في الإيمان»، لمحمد دوكوري.
4 ـ «أمراض القلوب وشفاؤها ضمن مجموع الفتاوى» (ج10)، لابن تيمية.
5 ـ «تفسير ابن كثير» (ج4، 5).
6 ـ «تفسير الطبري» (ج12، 16).
7 ـ «الجامع لأحكام القرآن» (ج9،12)، للقرطبي.
8 ـ «شفاء العليل»، لابن القيم.
9 ـ «المحرر الوجيز»، لابن عطية.
10 ـ «مدارج السالكين».