جبريل: عَلَمُ ملكٍ كان ينزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالقرآن، وهو اسم أعجمي ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة[1]. وذكر ابن عباس رضي الله عنهما أن جبر وميكا وإسراف هي كلها بالأعجمية[2]. وذهب بعض أهل العربية أن جبريل، وجبرين، وجبرئيل، على وزن: فعلئيل. والهمزة فيه زائدة لقولهم: جبريل. ومن معاني (جبر) في اللغة: الإصلاح والاستقامة، والعبودية[3].
وذكر الجوهري والأزهري وكثير من الأئمة أن جبريل: اسم مركب من اسمين: جبر، وإيل. وجبر وميك بمعنى عبد، وإيل: اسم الله؛ كقولك: عبد الله وعبد الرحمن[4]. وبوب الإمام البخاري رحمه الله بابًا بهذا الاسم في كتاب التفسير من صحيحه، فقال: «باب قوله: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} [البقرة: 97] ، وقال عكرمة رحمه الله: جبر وميك وسراف: عبد، إيل: الله»[5]. وعن علي بن الحسين رحمه الله، قال: «اسم جبريل عليه السلام عبد الله واسم ميكائيل عليه السلام عبيد الله»[6]. وعلى هذا يكون جبريل اسم عبودية، وذكر القرطبي وابن حجر رحمهما الله في اسم جبريل لغات عدة[7].
[1] ينظر: البحر المحيط (1/509) [دار الفكر، 1420هـ]، وروح المعاني (1/460) [دار الحديث، 1426هـ].
[2] ينظر: تفسير الطبري (2/296) [دار هجر، ط1].
[3] ينظر: مقاييس اللغة (216) [دار إحياء التراث العربي، 1429هـ]، ولسان العرب (4/114) [دار صادر]، والقاموس المحيط (460) [مؤسسة الرسالة، ط2].
[4] ينظر: غريب الحديث لأبي عبيد (1/99 ـ 100، 3/230) [دائرة المعارف العثمانية، ط1، 1384هـ]، ولسان العرب (11/23).
[5] صحيح البخاري (كتاب التفسير).
[6] أخرجه الإمام أحمد (33/345) [مؤسسة الرسالة، ط2].
[7] ينظر: الجامع لأحكام القرآن (2/262) [مؤسسة الرسالة، ط1، 1427هـ]، وفتح الباري (6/354، 8/15) [المطبعة السلفية، ط2، 1405هـ].
1 ـ جبريل: هو أشهر أسمائه عليه السلام، وقد سبق الحديث عنه.
2 ـ الروح: ورد هذا الاسم مضافًا إلى الله تعالى إضافة تشريف كما في قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا *} [مريم] ، وورد مفردًا من غير إضافة؛ كقوله جلّ جلاله: {تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ *} [المعارج] . وسمي جبريل عليه السلام؛ روحًا لأن الناس ينتفعون به في دينهم كانتفاعهم بالروح التي بها تحيا النفس.
3 ـ الروح الأمين: دلَّ عليه قوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ *بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ *} [الشعراء] .
4 ـ روح القدس: قال جلّ جلاله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ *} [النحل] ، وقال سبحانه وتعالى مخاطبًا عيسى عليه السلام: {إِذْ أَيَّدْتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [المائدة: 110] ، وقال عزّ وجل: {وَآتَيْنَا عِيْسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ *} [البقرة] .
وروى البخاري أن عمر رضي الله عنه مر في المسجد، وحسان ينشد، فقال: «كنت أنشد فيه، وفيه من هو خير منك. ثم التفت إلى أبي هريرة فقال: أنشدك بالله أسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: أجب عني. اللَّهُمَّ أيِّده بروح القدس. قال: نعم»[1]. والقدس معناه: الطاهر المنزه عن العيوب[2].
5 ـ الناموس: ورد في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وفيه: «فقال له ورقة: يا ابن أخي! ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبر ما رأى. فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى»[3]. والناموس صاحب السر، كما جزم به البخاري[4]. قال ابن حجر: وهو «الصحيح الذي عليه الجمهور... والمراد بالناموس هنا: جبريل عليه السلام»[5]. وسمي جبريل عليه السلام ناموسًا؛ لأنه مخصوص بالوحي والغيب اللذين لا يطلع عليهما غيره.
[1] أخرجه البخاري (كتاب بدء الخلق، رقم 3212).
[2] ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (736) [دار ابن الجوزي، ط1، 1421هـ]، وأضواء البيان (3/422) [عالم الفوائد، ط1، 1426هـ].
[3] أخرجه البخاري (كتاب بدء الوحي، رقم 3)، ومسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2485).
[4] صحيح البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، عقب الحديث رقم 3392)، وينظر: النهاية في غريب الحديث (942)، ولسان العرب (6/244).
[5] فتح الباري (1/35) [المطبعة السلفية، ط2].
جبريل هو من نقل معظم ما يوحي به الله تعالى إلى رسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومن سبقه من الأنبياء، فإنه عليه السلام لا ينزل بالأمر من تلقاء نفسه، وإنما ينزل بأمر ربه، كما قال جلّ جلاله: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا *} [مريم] . وقال سبحانه وتعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ *نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *} [الشعراء] ، ومن هنا تكمن أهمية الإيمان بوجود جبريل، إذ يلزم من إنكار وجوده، وعدم الإيمان به إبطال الشرائع كلها بما فيها الإسلام ناسخ الأديان وخاتمها، ولهذا فإن من عادى جبريل فإنما عادى الله تعالى، قال جلَّ شأنه: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ *مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ *} [البقرة] .
يدلُّ على وجوب الإيمان بجبريل عليه السلام قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285] ، وجبريل من الملائكة؛ بل أفضل الملائكة.
ويدل عليه حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حينما أتى جبريل عليه السلام النبي صلّى الله عليه وسلّم في صورة البشر، وفيه: «فقال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت»[1].
وورد ذكر جبريل في القرآن وفي السُّنَّة في مواضع عدة، منها قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ *} [البقرة] ، وقوله تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ *} [التحريم] وذكره النبي صلّى الله عليه وسلّم في دعائه الذي كان يفتتح به صلاة الليل فقال: «اللَّهُمَّ ربِّ جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة»[2].
[1] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 8).
[2] أخرجه مسلم (كتاب صلاة المسافرين، رقم 770).
المسألة الأولى: فضل جبريل عليه السلام على سائر الملائكة:
جبريل عليه السلام أقرب الملائكة إلى الله جلّ جلاله، حتى قال بعض السلف: «منزلته من ربه منزلة الحاجب من الملك»[1]. وقال سبحانه وتعالى عن جبريل عليه السلام: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ *ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ *} [التكوير] ؛ أي: له مكانة ومنزلة عالية رفيعة عند الله تعالى. قال ابن القيم رحمه الله: «وفي قوله: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ *} إشارة إلى علو منزلة جبريل، إذ كان قريبًا من ذي العرش سبحانه»[2]، وكيف لا يكون كذلك وهو الموكل بالوحي، فشرفه بشرف وظيفته.
كما أن الله خصَّه بالذكر في قوله سبحانه وتعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ *} [البقرة] ، فبيَّن تعالى أنه من عادى واحدًا فقد عادى الآخر وعادى الله أيضًا. كما أن في تقديم جبريل على ميكائيل في هذه الآية، وتقديم النبي صلّى الله عليه وسلّم له في دعائه الذي كان يفتتح به صلاة الليل، دلالة واضحة على أفضلية جبريل عليه السلام، واستدل بعضهم على أفضلية جبريل على ميكائيل بأنه ينزل بالوحي والعلم وهو مادة الأرواح، وميكائيل بالخصب والأمطار وهي مادة الأبدان، وغذاء الأرواح أفضل من غذاء الأبدان[3].
المسألة الثانية: صفاته:
أثنى الله سبحانه على عبده جبريل عليه السلام، في القرآن أحسن الثناء ووصفه بأجمل الصفات فقال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ *ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ *مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ *} [التكوير] . فوصفه بأنه رسوله وأنه كريم عنده وأنه ذو قوة؛ أي: شديد الخَلْق، شديد البطش والفعل[4]. وأنه مطاع في السماوات، فالملائكة جميعها تطيعه، وأنه أمين على الوحي، وهذا يقتضي صدقه ونصحه وإلقاءه إلى الرسل ما أمر به، من غير زيادة ولا نقصان ولا كتمان، وقد جمع له بين المكانة والأمانة والقوة والقرب من الله.
ومن صفاته عليه السلام: أنه ذو علم علَّمه الله إياه، فقال سبحانه وتعالى مخبرًا عن عبده ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى *} [النجم] ؛ أي: أن الذي عَلَّمه هو جبريل عليه السلام[5]، وهذا متضمن وصف جبريل بالعلم والتعليم، ويشهد له حديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أقرأني جبريل على حرف، فلم أزل أستزيده حتى انتهى إلى سبعة أحرف» [6]. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن»[7]. وعن أبي مسعود رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «نزل جبريل فأمَّني، فصليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، يحسب بأصابعه خمس صلوات»[8].
ومن صفاته عليه السلام: أنه ذو خَلْق ومنظر حسن، سليم من الآفات والعاهات، قال تعالى في حق جبريل عليه السلام: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى *ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى *} [النجم] قال ابن عباس رضي الله عنهما: {ذُو مِرَّةٍ}: «ذو منظر حسن»[9]، وقال ابن جرير رحمه الله: «عنى بالمرة صحة الجسم وسلامته من الآفات والعاهات، والجسم إذا كان كذلك من الإنسان كان قويًّا، والمِرّة واحدة المِرَر، وإنما أريد به: ذو مرة سوية، ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي» [10]»[11]. ومن صفاته عليه السلام: أن له ستمائة جناح، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جبريل في صورته، وله ستمائة جناح»[12].
المسألة الثالثة: خصائصه عليه السلام:
من خصائصه عليه السلام: أنه صاحب الوحي إلى الأنبياء، قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ *بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ *} [الشعراء] .
ومنها: أن الله جلّ جلاله ذكره قبل سائر الملائكة في القرآن، فقال سبحانه: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [البقرة: 97] [13].
ومنها: أنه تعالى جعله ثاني نفسه، فقال سبحانه وتعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ *} [التحريم] [14].
ومنها: أن الله تعالى سمّاه الروح، فهو ينزل بالوحي الذي به تحيا القلوب والأبدان، قال ابن القيم رحمه الله: «سمى الله سبحانه ما أنزله على رسوله روحًا؛ لتوقف الحياة الحقيقية عليه، ونورًا لتوقف الهداية عليه»[15].
ومنها: أن الله جلّ جلاله سماه روح القدس، وهذا الاسم يتضمن الطهارة من كل ما لا يليق والبراءة من كل ما يعيب، كما سبق معنا.
ومنها: مزيد صحبته لسيد الخلق على الإطلاق محمد صلّى الله عليه وسلّم[16]. ويدل عليه حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لجبريل: «ألا تزورنا أكثر مما تزورنا؟» قال: فنزلت: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} الآية [مريم] »[17].
ومن خصائصه: قتاله ودفاعه عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم هو وميكائيل عليه السلام يوم أُحد، فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: «رأيت عن يمين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعن شماله يوم أُحد رجلين عليهما ثياب بياض، ما رأيتهما قبل ولا بعد؛ يعني: جبريل وميكائيل عليه السلام»، وفي رواية: «يقاتلان عنه كأشد القتال»[18].
ومن خصائصه: سلامه على أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: «أتى جبريل النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله! هذه خديجة قد أتتك معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك، فاقرأ عليها السلام من ربها سبحانه وتعالى ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب»[19]. وعن عائشة رضي الله عنها؛ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لها: «يا عائشة! هذا جبريل يقرأ عليك السلام. فقالت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، ترى ما لا أرى. تريد النبي صلّى الله عليه وسلّم»[20].
المسألة الرابعة: وظائفه وأعماله:
تعتبر أهم وظيفة لجبريل عليه السلام تبليغ وحي الله جلّ جلاله إلى رسله عليهم السلام، قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ *بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ *} [الشعراء] ، وقال جلّ جلاله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ *} [النحل] .
ومن وظائف جبريل أيضًا: إبلاغ أوامر الله جلّ جلاله إلى الملائكة، حيث يأمرهم بما أمره الله به، يدل عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبدًا نادى جبريل: إن الله قد أحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في السماء: إن الله قد أحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ويوضع له القبول في أهل الأرض» [21]. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا تكلم الله بالوحي، سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا، فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، حتى إذا جاءهم جبريل فزّع عن قلوبهم، قال: فيقولون: يا جبريل ماذا قال ربك؟ فيقول: الحق فيقولون: الحق الحق» [22].
المسألة الخامسة: رؤية النبي صلّى الله عليه وسلّم لجبريل عليه السلام:
لم يره النبي صلّى الله عليه وسلّم في صورته التي خُلق عليها إلا مرتين، وبقية الأوقات يأتيه في صورة رجل، فرآه صلّى الله عليه وسلّم مرة بالأفق من ناحية المشرق، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ *} [التكوير] . ورآه مرة ثانية ليلة الإسراء في السماء وهذا ما أخبر الله عنه بقوله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى *عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى *عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى *} [النجم] . وعن عائشة رضي الله عنها؛ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال عن جبريل: «لم أره على صورته التي خلق عليها غير مرتين، رأيته منهبطًا من السماء، سادًا عِظَمُ خلقه ما بين السماء إلى الأرض»[23]. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جبريل في صورته، وله ستمائة جناح»[24]. أما في صورته البشرية، فيدل عليه ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «رأيت جبريل عليه السلام ، فإذا أقربُ من رأيتُ به شبهًا دحية بن خليفة»[25]. وكان دحية صحابيًّا يضرب به المثل في حسن الصورة[26].
ولقد رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم ومعه الصحابة رضي الله عنهم جبريل عليه السلام حينما أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم في صورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، فأخذ يسأل النبي عن أركان الإسلام والإيمان والإحسان، والنبي صلّى الله عليه وسلّم يجيبه[27]. كما تمثل جبريل لمريم عليها السلام في صورة بشر كامل الخلقة، قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا *} [مريم] .
[1] إغاثة اللهفان (2/172) [المكتب الإسلامي، مكتبة الخاني، ط1، 1407هـ].
[2] التبيان في أيمان القرآن (194) [عالم الفوائد، ط1، 1429هـ].
[3] ينظر: تفسير الألوسي (1/463) [دار الحديث، 1426هـ].
[4] ينظر: تفسير ابن كثير (7/444، 8/338) [دار طيبة، ط4، 1428هـ].
[5] ينظر: تفسير ابن كثير (7/444).
[6] أخرجه البخاري (كتاب بدء الخلق، رقم 3219)، ومسلم (كتاب صلاة المسافرين، رقم 819).
[7] أخرجه البخاري (كتاب بدء الخلق، رقم 3220)، ومسلم (كتاب الفضائل، رقم 2308).
[8] أخرجه البخاري (كتاب بدء الخلق، رقم 3221)، ومسلم (كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم 610).
[9] أخرجه الطبري في تفسيره (22/499) [مؤسسة الرسالة، ط1].
[10] أخرجه أبو داود (كتاب الزكاة، رقم 1634)، والترمذي (أبواب الزكاة، رقم 652) وحسنه، وابن ماجه (كتاب الزكاة، رقم 1839)، وصححه الألباني بشواهده في الإرواء (رقم 877).
[11] تفسير الطبري (27/43) [دار الفكر، 1405هـ].
[12] أخرجه البخاري (كتاب المغازي، رقم 4054)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 174).
[13] تفسير الرازي (2/162) [دار إحياء التراث العربي، ط3].
[14] تفسير الرازي (2/162).
[15] الصواعق المرسلة (1/152) [دار العاصمة، ط1].
[16] ينظر: تفسير الألوسي (1/463).
[17] أخرجه البخاري (كتاب بدء الخلق، رقم 3218)، ومسلم (كتاب الفضائل، رقم 2432).
[18] أخرجه مسلم (كتاب الفضائل، رقم 2306).
[19] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، رقم 7497)، ومسلم (كتاب الفضائل، رقم 2433).
[20] أخرجه البخاري (كتاب بدء الخلق، رقم 3217)، ومسلم (كتاب الفضائل، رقم 2447).
[21] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، رقم 7485)، ومسلم (كتاب البر والصلة، رقم 2637).
[22] أخرجه أبو داود (كتاب السُّنَّة، رقم 4738)، وابن حبان في صحيحه (كتاب الوحي، رقم 37) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وقال ابن القيم: «هذا الإسناد كلهم أئمة ثقات». مختصر الصواعق (488) [دار الحديث، ط1]، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 1294).
[23] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 177).
[24] أخرجه البخاري (كتاب بدء الخلق، رقم 3232)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 174).
[25] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 167).
[26] ينظر: الإصابة في تمييز الصحابة (1/463) [دار الكتاب العربي].
[27] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 8).
ذهبت الفلاسفة إلى أن المقصود بجبريل هو العقل الفعال، الذي يفيض بالمعارف العقلية على عقل مدعي النبوة، يقول الفارابي ـ وهو يتحدث عن رئيس المدينة الفاضلة، الذي هو عنده إما نبي أو فيلسوف ـ: «هذا الإنسان هو الذي يوحى إليه، فيكون الله سبحانه وتعالى يوحي إليه بتوسط العقل الفعال»[1]، وحقيقة النبوّة عند ابن سينا تتمّ عبر الاتصال بين النفوس المستعدّة لها وبين الأمر العقلي الذي يمثله جبريل. يقول ابن سينا: «حقيقة الوحي هو الإلقاء الخفي من الأمر العقلي بإذن الله تعالى في النفوس البشرية المستعدة لقبول مثل هذا الإلقاء، إما في حال اليقظة، ويسمى الوحي، وإما في حال النوم ويسمى النفث في الروع... وهذا الإلقاء عقلي واطلاع وإظهار، كما قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء] »[2].
ولا شكَّ في أن هذا القول هو هدم للإسلام، وتكذيب للقرآن، فحقيقته أن ما أتى به الرسول صلّى الله عليه وسلّم من الوحي هو تخيلات وصور عقلية، وما يسمعه في نفسه من أصوات، بمنزلة ما يراه النائم في منامه، قال ابن القيم رحمه الله: «ثم أخبر عن رؤيته صلّى الله عليه وسلّم لجبريل، وهذا يتضمن أنه ملك موجود في الخارج يرى بالعيان ويدركه البصر، لا كما يقول المتفلسفة ومن قلَّدهم إنه العقل الفعال، وإنه ليس مما يدرك بالبصر، وحقيقته عندهم أنه خيال موجود في الأذهان لا في الأعيان، وهذا مما خالفوا به جميع الرسل وأتباعهم، وخرجوا به عن جميع الملل. ولهذا كان تقرير رؤية النبي صلّى الله عليه وسلّم لجبريل أهم من تقرير رؤيته لربه تعالى؛ فإن رؤيته لجبريل هي أصل الإيمان الذي لا يتم إلا باعتقادها ومن أنكرها كفر... فنحن إلى تقرير رؤيته لجبريل أحوج منا إلى تقرير رؤيته لربه تعالى، وإن كانت رؤية الرب أعظم من رؤية جبريل، ومن دونه فإن النبوة لا يتوقف ثبوتها عليها البتة»[3].
[1] آراء أهل المدينة الفاضلة (125) [دار المشرق، ط7، 1996م].
[2] رسالة الفعل والانفعال (3) [ضمن مجموعة رسائل ابن سينا، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، ط1، 1353هـ]. وينظر لابن سينا أيضًا: رسالة في إثبات النبوات (43 ـ 47) [دار النهار، ط2، 1991م].
[3] التبيان في أيمان القرآن (195 ـ 196).
1 ـ «أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسُّنَّة»، لنخبة من العلماء.
2 ـ «البحر المحيط» (ج1)، لأبي حيان الأندلسي.
3 ـ «البداية والنهاية» (ج1)، لابن كثير.
4 ـ «الجامع لشعب الإيمان» (ج1)، للبيهقي.
5 ـ «الحبائك في أخبار الملائك»، للسيوطي.
6 ـ «روح المعاني» (ج1)، للآلوسي.
7 ـ «شرح العقيدة الطحاوية»، لابن أبي العز.
8 ـ «عالم الملائكة الأبرار»، لعمر الأشقر.
9 ـ «لوامع الأنوار البهية» (ج1)، للسفاريني.
10 ـ «محاضرات في الإيمان بالملائكة»، لمحمد أبو سيف الجهني.
11 ـ «معارج القبول» (ج2)، للحكمي.
12 ـ «معتقد فرق المسلمين واليهود والنصارى والفلاسفة والوثنيين في الملائكة المقربين»، لمحمد العقيل.
13 ـ «المنهاج في شعب الإيمان» (ج1)، للحليمي.