حرف الألف / الإخلاص

           

قال ابن فارس رحمه الله: «الخاء واللام والصاد أصل واحد مطرد، وهو تنقية الشيء وتهذيبه»[1]. يقال: خلَص الشي يخلُص خلوصًا؛ أي: صار خالصًا. وخُلاصة السمن: ما خلص منه؛ لأنهم إذا طبخوا الزبد ليتخذوه سمنًا طرحوا فيه شيئًا من سويق أو تمر، فإذا جاد وخلص من الثفل، فذلك السمن هو الخُلاصة. والثفل الذي يبقى هو الخلوص، والمصدر منه الإخلاص، وقد أخلصت السمن[2].


[1] مقاييس اللغة (309) [دار إحياء التراث العربي، ط1، 2001].
[2] انظر: الصحاح (4/174) [دار العلم للملايين، ط4].


هو «تصفية العمل بصالح النية عن جميع شوائب الشرك»[1]. وقيل: هو إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة. وقيل: هو التوقّي عن ملاحظة الخلق حتى عن نفسك[2].
العلاقة بين المعنى اللغوي والشرعي:
العلاقة بين المعنى اللغوي والشرعي واضحة؛ لأن المعنى الشرعي موافق للغة في كونه تصفية، فإنه تصفية للعمل، وتهذيبه عن الشوائب.


[1] معارج القبول (1/331) [دار الحديث، ط1999م].
[2] انظر: مدارج السالكين (2/68 ـ 69).


سمي به لأن خلوص العمل عن الشرك وشوائبه يحصل به.



هو من أهم الواجبات، وآكد الأعمال القلبية التي اندرجت في الإيمان. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الأعمال القلبية: «وهي من أصول الإيمان وقواعد الدين، مثل محبة الله ورسوله، والتوكل على الله، وإخلاص الدين لله، والشكر له، والصبر على حكمه، والخوف منه، والرجاء له، وهذه الأعمال جميعًا واجبة على جميع الخلق باتفاق أئمة الدين»[1].


[1] مجموع الفتاوى (10/5 ـ 6) [وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، ط1995م].


حقيقة الإخلاص هي أن يقصد الله تعالى وحده في العبادة، فلا يُشرك معه شيء في ذلك[1].


[1] الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية (188)، [دار عالم الفوائد، ط1]، وانظر: مدارج السالكين (2/73).


هو حقيقة الإسلام، إذ الإسلام هو الاستسلام لله لا لغيره. قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ *} [الزمر] ، فمن لم يستسلم له فقد استكبر، ومن استسلم لله ولغيره فقد أشرك، وكل من الكبر والشرك ضد الإسلام، والإسلام ضد الشرك والكبر[1].
قال ابن تيمة: «فإن الإسلام هو الاستسلام، وهو يتضمن الخضوع لله وحده، والانقياد له، والعبودية لله وحده؛ وهذا قد يتضمن خوفه ورجاءه»[2].


[1] انظر: مجموع الفتاوى (10/14)، و(20/115)، واقتضاء الصراط المستقيم (560) [دار الفضيلة، ط1، 1424هـ].
[2] مجموع الفتاوى (7/426).


أهميته تتجلى في كونه أحد شروط كلمة التوحيد[1]، وأحد شرطي العمل المقبول، فإن العمل المقبول ما توفر فيه الشرطان: الإخلاص، والمتابعة، والمردود ما فقد منه الوصفان أو أحدهما، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ *} [الملك] . قال الفضيل بن عياض: «هو أخلص العمل وأصوبه»، فسئل عن معنى ذلك، فقال: «إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصًا صوابًا، فالخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السُّنَّة، ثم قرأ قوله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا *} [الكهف] »[2]، ولهذا كان السلف حريصين على تحقيق الإخلاص في أعمالهم، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه: «اللَّهُمَّ اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا»[3][4].


[1] الدرر السنية (2/244، 246، 253، 254، 256، 359) [ط7، 1425هـ].
[2] أخرجه أبو نعيم في الحلية (8/95) [دار الكتاب العربي، ط4]. وانظر: إعلام الموقعين (2/124) [دار الكتب العلمية، ط1، 1411هـ].
[3] أخرجه الإمام أحمد في الزهد (1/97) [دار الكتب العلمية، ط1، 1420هـ]، وأبو الشيخ الأصبهاني في طبقات المحدثين بأصبهان (4/261) [مؤسسة الرسالة، ط2، 1412هـ].
[4] انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (558)، ومجموع الفتاوى (22/188).


قد دلَّت أدلة كثيرة من الكتاب والسُّنَّة على وجوب الإخلاص؛ كقوله تعالى: {...فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر] ، وقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ *} [الزمر] ، وقوله تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي *} [الزمر] ، وقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ *} [البيِّنة] .
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه»[1] ، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تعالى حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله»[2].
وعن أبي أُمامة الباهلي رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا شيء له، فأعادها ثلاث مرات، يقول له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا شيء له، ثم قال: إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصًا، وابتغي به وجهه»[3].
وقد اتفق العلماء على وجوبه[4].


[1] أخرجه البخاري، (كتاب العلم، رقم 99).
[2] أخرجه البخاري، (كتاب الصلاة، رقم 425)، ومسلم، (كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم 33).
[3] أخرجه النسائي (كتاب الجهاد، رقم 3140)، والطبراني في الكبير (8/165) [مكتبة ابن تيمية، ط2]، وجوَّد إسناده ابن حجر في فتح الباري (6/28) [دار المعرفة]، وحسَّنه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 52).
[4] انظر: مجموع الفتاوى (10/5)، ومدارج السالكين (1/84).


قال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله: «فطن الأكياس في تفسير الإخلاص، فلم يجدوا غير هذا: أن تكون حركاته، وسكونه في سره وعلانيته لله وحده لا شريك له لا يمازجه شيء لا نفس، ولا هوى، ولا دنيا»[1].
وقال الفضيل بن عياض: «ترك العمل من أجل الناس هو الرياء، والعمل من أجل الناس هو الشرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما»[2].
وقال أبو سفيان صالح بن مهران: « الإخلاص: اليقين»[3].
وقال سعيد بن جبير: «الإخلاص أن يخلص العبد دينه وعمله لله، فلا يرائي بعمله أحدًا، ويكون ذلك في سبيل الحق كله»[4].


[1] السنن الصغير للبيهقي (1/13) [جامعة الدراسات الإسلامية، ط1، 1400هـ].
[2] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (9/184) [مكتبة الرشد، ط، 1، 1423هـ].
[3] أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (10/391) [دار الكتب العلمية، ط1409هـ].
[4] أخرجه المروزي في تعظيم قدر الصلاة (2/566) [مكتبة الدار، ط1، 1406هـ].


ـ حالات العمل:
الأولى: ما كان مقبولاً، وهو ما توفر فيه الشرطان: الإخلاص، والمتابعة.
الثانية: ما كان مردودًا، وهو ما فقد فيه الإخلاص والمتابعة أو أحدهما.
الثالثة: ما كان لله تعالى، وللناس، فلا يكون لله تعالى محضًا، ولا للناس محضًا، فهذا تحته ثلاثة أنواع:
1 ـ أن يكون الباعث الأول على العمل الإخلاص، ثم يعرض له الرياء، فالاعتبار فيه للباعث الأول ما لم يفسخه بإرادة جازمة لغير الله، فيكون حكمه حكم قطع النية في أثناء العبادة.
2 ـ أن يكون الباعث الأول لغير الله، ثم يعرض له قلب النية لله تعالى، فهذا لا يحتسب له ما مضى من العمل، ويحتسب له من حين قلب نيته، ثم إن كانت العبادة لا يصح آخرها إلا بصحة أولها وجبت الإعادة كالصلاة، وإلا لم تجب كمن أحرم لغير الله ثم قلب نيته لله عند الوقوف والطواف.
3 ـ أن يريد الله تعالى بعمله والناس، فيريد أداء فرضه والجزاء والشكور من الناس كمن يريد الحج ليسقط الفرض عنه، ويقال: فلان حج، فهذا لا يقبل منه العمل. وإن كانت النية شرطًا في سقوط الفرض وجبت عليه الإعادة، فإن حقيقة الإخلاص لم توجد، والحكم المعلق بالشرط عدم عند عدمه، والدليل عليه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم[1]: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه»[2].


[1] أخرجه مسلم (كتاب الزهد والرقاق، رقم 2985).
[2] انظر: إعلام الموقعين (2/124) [دار الكتب العلمية، ط1، 1411هـ].


فرَّق العلماء بين الإخلاص والصدق بما يلي:
الأول: أن الإخلاص مبني على توحيد مقصود العبد، فلا يكون مقصوده منقسمًا، والصدق مبني على توحيد القصد، فلا يكون قصده منقسمًا.
الثاني: أن الصدق بذل الوسع والطاقة، والإخلاص توحيد المطلوب[1].
الثالث: الإخلاص «التوقي عن ملاحظة الخلق حتى عن نفسك، والصدق التنقي من مطالعة النفس، فالمخلص لا رياء له، والصادق لا إعجاب له، ولا يتم الإخلاص إلا بالصدق، ولا الصدق إلا بالإخلاص، ولا يتمان إلا بالصبر»[2].


[1] انظر: مدارج السالكين (1/84)، و (2/73).
[2] انظر: مدارج السالكين (2/73).


للإخلاص ثمرات جليلة أهمها ما يلي:
1 ـ من حقق الإخلاص نجا من دخول النار، كما سبق في الحديث: «إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله» ، وكان أحق بالأمن من غيره ، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ *} [الأنعام] .
2 ـ من حقق الإخلاص، صرف الله عنه السوء والفحشاء، قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ *} [يوسف] [1].
3 ـ قد يعمل العبد عملاً واحدًا بإخلاص تام، وعبودية كاملة، فيكون سببًا لمغفرته، كما في الترمذي وابن ماجه وغيرهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ أنه قال: «يصاح برجل من أمتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق، فينشر عليه تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، فيقال: هل تنكر من هذا شيئًا، فيقول: لا يا رب، فيقول: لا ظلم عليك، فتخرج له البطاقة قدر الكف فيها شهادة أن لا إله إلا الله، فيقول: أين تقع هذه البطاقة مع هذه السجلات، فتوضع هذه البطاقة في كفة، والسجلات في كفة، فثقلت البطاقة وطاشت السجلات»[2] ، فلما قالها بإخلاص وصدق ترجح به حسناته، وكان سببًا لمغفرته، وإلا فأهل الكبائر الذين دخلوا النار كلُّهم يقولون: لا إله إلا الله، ولم يترجح قولهم على سيئاتهم كما ترجَّح قول صاحب البطاقة[3].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق، فأخره، فشكر الله له، فغفر له»[4].
فهذا الرجل لما نحَّى الشوك عن الطريق، وكان الباعث على ذلك الإخلاص التام في قلبه غفر الله له، وليس كل من فعل ذلك يغفر له.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضًا قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «بينما كلب يطيف بركية، كاد يقتله العطش إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقها، فسقته، فغفر لها به»[5].
فهذه المرأة لما سقت الكلب بإيمان تام، وإخلاص في قلبها غفر الله لها، وإلا فليس كل بغي سقت كلبًا يغفر لها[6].
4 ـ من كان أتم إخلاصًا لله كان أحق بالشفاعة كما تقدم في الحديث: «أسعد الناس بشفاعتي...». وأما من علق قلبه بأحد من المخلوقين يرجوه ويخافه، فهذا من أبعد الناس عن الشفاعة[7].
5 ـ أن الإخلاص يورث الاتفاق، والشرك يورث التفرق، فأهل الإخلاص متفقون، وأهل الإشراك متفرقون؛ لأن أهل الإخلاص معبودهم واحد وهو الله تعالى، فإياه يعبدون، وأهل الإشراك لكل قوم طاغوت يعبدونه من دون الله تعالى[8].


[1] انظر: مجموع الفتاوى (10/215، 216، 297).
[2] أخرجه الترمذي (أبواب الإيمان، رقم 2639) وحسَّنه، وابن ماجه (كتاب الزهد، رقم 4300)، وأحمد (11/570) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وابن حبان (كتاب الإيمان، رقم 225)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (135).
[3] انظر: منهاج السُّنَّة (6/219 ـ 220).
[4] أخرجه البخاري (كتاب الأذان، رقم 652)، ومسلم (كتاب الإمارة، رقم 1916).
[5] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3467)، ومسلم (كتاب الآداب، رقم 2245).
[6] انظر: منهاج السُّنَّة (6/219 ـ 220) [جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط2، 1411هـ].
[7] انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (552).
[8] انظر: المصدر نفسه (562).


1 ـ «إعلام الموقعين» (ج2)، لابن القيم.
2 ـ «الدرر السَّنية» (ج2)، جمع عبد الرحمن بن محمد ابن قاسم النجدي.
3 ـ «مجموع الفتاوى» (ج10)، لابن تيمية.
4 ـ «مدارج السالكين» (ج 2)، لابن القيم.
5 ـ «معارج القبول» (ج1)، للحافظ الحكمي.
6 ـ «أمراض القلوب وشفائها»، لابن تيمية.
7 ـ «اقتضاء الصراط المستقيم» (ج2)، لابن تيمية.
8 ـ «الكلمات النافعة في المكفرات الواقعة»، لعبد الله بن محمد بن عبد الوهاب.
9 ـ «غاية الأماني في الرد على النبهاني» (ج2)، لمحمود شكري الآلوسي.
10 ـ «حاشية كتاب التوحيد»، لعبد الرحمن بن محمد النجدي.