حرف الجيم / الجماعة أو: أهل الجماعة

           

قال ابن فارس: «الجيم والميم والعين أصل واحد، يدل على تَضَامِّ الشيء، يُقال: جمعت الشيء جمعًا»[1].
والإجماع: الإعداد والعزيمة على الأمر، وأجمع أمره؛ أي: جعله جميعًا بعدما كان متفرقًا.
والجمع: أن تجمع شيئًا إلى شيء، والإجماع: أن تجعل المتفرق جميعًا.
والجماعة: عدد كل شيء وكثرته[2].
وتجمَّع القوم: اجتمعوا من ههنا وههنا.
والجَمْع: اسم لجماعة الناس.
والجمْعُ: المجتمِعون، وجَمْعُه: جُموع، والجَماعةُ، والجَمِيع، والمَجْمع[3].


[1] مقاييس اللغة (1/479) [دار الجيل].
[2] ينظر: تهذيب اللغة (1/253) [دار إحياء التراث العربي، 1421هـ].
[3] ينظر: لسان العرب (8/53) [مكتبة العلوم والحكم، 1412هـ].


المراد بالجماعة هنا: سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، الذين اجتمعوا على الحق الصريح من كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، أو على إمام موافق للسُّنَّة، واتفقوا على تقديمه عليهم[1].
وهذا الاسم يطلق أحيانًا مقترنًا بالسُّنَّة فيقال: (أهل السُّنَّة والجماعة) وهو الغالب، وأحيانًا يفرد بالذكر، فيقال: (الجماعة) أو: (أهل الجماعة)[2].
ولا ريب أن السُّنَّة مقرونة بالجماعة، كما أن البدعة مقرونة بالفرقة، ولذا يقال: أهل السُّنَّة والجماعة، كما يقال: أهل البدعة والفرقة[3].
العلاقة بين المعنى اللغوي والشرعي:
المعنى اللغوي يعم أي قوم مجتمعين، والشارع خصَّ به الذين اجتمعوا على الحق والسُّنَّة، أو اجتمعوا على الإمام المسلم.


[1] ينظر: شرح السُّنَّة للبربهاري (37، 100) [دار المنهاج، ط1، 1426هـ]، والاعتصام للشاطبي (1/21) (3/309 ـ 311) [دار التوحيد، ط1، 1421هـ]، وشرح الطحاوية (544) [دار الرسالة، ط2، 1413هـ]، وفتح الباري (13/37)، والدين الخالص لصديق حسن خان (3/44، 72) [دار الكتب العلمية، ط1، 1415هـ]، وجامع العلوم والحكم (2/120) [دار الرسالة، ط7، 1423هـ]، وشرح العقيدة الواسطية لهراس (61) [دار الهجرة، ط3، 1415هـ].
[2] ينظر: منهاج السُّنَّة (3/468) و(5/158) [طبعة جامعة الإمام، ط1، 1406هـ]، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (3/157).
[3] ينظر: الاستقامة لابن تيمية (1/42) [دار الفضيلة، ط1، 1420هـ]، ووسطية أهل السُّنَّة بين الفرق (91) [دار الراية، ط1، 1415هـ].


أنهم مجتمعون على الحق والسُّنَّة، مجمعون على لزومهما، لم يتفرقوا في الدين، أو لاجتماعهم على الإمام الشرعي ولم يشقوا صف المسلمين كما فعل أهل الأهواء والبدع، وقد جاء النص الشرعي على تسميتهم بذلك، كما سيأتي.



أهل السُّنَّة والجماعة، السلف، أهل الحديث، أهل الأثر، الفرقة الناجية، الطائفة المنصورة، السواد الأعظم.



يجب لزوم جماعة المسلمين وإمامهم، وعدم الخروج عليهم، فإنه من فارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية، كما في الحديث.



« الجماعة في الأصل: القوم المجتمعون، والمراد بهم هنا: سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين، الذين اجتمعوا على الحق الصريح من كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم»[1].
ويراد به أيضًا: من كان على ما عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين[2].
قال أبو شامة: «وحيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به: لزوم الحق واتباعه وإن كان المتمسك بالحق قليلاً والمخالف كثيرًا؛ لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه رضي الله عنهم ولا نظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم»[3].
وهذا الاسم يطلق أحيانًا مقترنًا بالسُّنَّة فيقال: (أهل السُّنَّة والجماعة) وهو الغالب، وأحيانًا يفرد بالذكر، فيقال: (الجماعة) أو: (أهل الجماعة)[4].
ولا ريب أن السُّنَّة مقرونة بالجماعة، كما أن البدعة مقرونة بالفرقة، ولذا يقال: أهل السُّنَّة والجماعة، كما يقال: أهل البدعة والفرقة[5].


[1] شرح العقيدة الواسطية لهراس (61)، وينظر: جامع العلوم والحكم (2/120).
[2] ينظر: شرح السُّنَّة للبربهاري (37، 100)، والاعتصام للشاطبي (1/21)، وشرح الطحاوية (544) [دار الرسالة، ط2، 1413هـ]، والدين الخالص (3/44، 72).
[3] الباعث على إنكار البدع والحوادث (22) [دار النهضة الحديثة، ط21، 1401هـ].
[4] ينظر: منهاج السُّنَّة (3/468) و(5/158) [طبعة جامعة الإمام، ط1، 1406هـ]، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (3/157).
[5] ينظر: الاستقامة لابن تيمية (1/42) [دار الفضيلة، ط1، 1420هـ]، ووسطية أهل السُّنَّة بين الفرق (91) [دار الراية، ط1، 1415هـ].


الاجتماع على الحق وعدم التفرق فيه مقصد شرعي؛ بل هو سبيل الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، كما قال الله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ *} [الشورى] .
وبالاجتماع وعدم التفرق أمر الله عباده المؤمنين، فقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] .
وأخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن الله يرضى لعباده الاجتماع وعدم التفرق، ففي «صحيح مسلم» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله يرضى لكم ثلاثًا، ويكره لكم ثلاثًا، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، ويكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» [1].
قال النووي رحمه الله: «وأما قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ولا تفرقوا» فهو أمر بلزوم جماعة المسلمين، وتألف بعضهم ببعض، وهذه إحدى قواعد الإسلام»[2].
ولعظم شأن الاجتماع على الحق، أو على الإمام المسلم جاء الوعيد الشديد في حق من رام شق عصا الطاعة، أو أراد أن يفرق الجماعة.
ففي «صحيح مسلم» من حديث عرفجة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنًا من كان» ، وفي رواية: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه»[3].
وفي «الصحيحين» من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه، التارك للجماعة» [4].


[1] أخرجه مسلم (كتاب الأقضية، رقم 1715).
[2] شرح النووي على مسلم (12/252).
[3] أخرجه مسلم (كتاب الإمارة، رقم 1852).
[4] أخرجه البخاري (كتاب الديات، رقم 6878)، ومسلم (كتاب القسامة، رقم 1676).


جاءت نصوص الكتاب والسُّنَّة تأمر بالجماعة ولزومها، وتنهى عن الفرقة وتذمها، ومن ذلك ـ إضافة إلى ما تقدم ـ ما يلي:
عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: ألا إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قام فينا فقال: «ألا إن مَن قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وهي الجماعة»[1].
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: «كان الناس يسألون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شر؟ قال: «نعم» . فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم وفيه دخن» . قلت: وما دخنه؟ قال: «قوم يستنُّون بغير سُنَّتي ويهتدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر» . فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها» . فقلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: «نعم، قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا» . قلت: يا رسول الله فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم» . فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك»» متفق عليه[2].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات إلا مات ميتة جاهلية» متفق عليه[3].


[1] أخرجه أبو داود (كتاب السُّنَّة، 4597)، وأحمد (28/134) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وابن أبي عاصم في السُّنَّة (1/76) [المكتب الإسلامي، ط1]، وحسَّنه الحافظ ابن حجر، كما في السلسلة الصحيحة (1/405) [مكتبة المعارف، ط1]، وله عدة شواهد أشار إليها الألباني في السلسلة الصحيحة، في الموضع السابق.
[2] أخرجه البخاري (كتاب المناقب، رقم 3606)، ومسلم (كتاب الإمارة، رقم 1847) واللفظ له.
[3] أخرجه البخاري (كتاب الفتن، رقم 7054)، ومسلم (كتاب الإمارة، رقم 1849).


قال أبو شامة: «وحيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به: لزوم الحق واتباعه وإن كان المتمسك بالحق قليلاً والمخالف كثيرًا؛ لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه رضي الله عنهم ولا نظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم»[1].


[1] الباعث على إنكار البدع والحوادث (22) [دار النهضة الحديثة، ط21، 1401هـ].


المسألة الأولى: تفسير أهل العلم للجماعة الواردة في النصوص:
اختلفت عبارات أهل العلم في التعريف بالجماعة الواردة في هذه الأحاديث، وهي وإن اختلفت في اللفظ، فإنها متقاربة في المعنى والمراد[1]:
فقيل: إنها السواد الأعظم من أهل الإسلام.
وقيل: إنها جماعة أئمة العلماء المجتهدين؛ لأن الله جعلهم حجة على العالمين.
وقيل: إنها جماعة الصحابة على الخصوص، فإنهم الذين أقاموا عماد الدين، وأرسوا أوتاده، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم ـ كما في رواية الترمذي لحديث الافتراق ـ: «... وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة» قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي»[2].
وقيل: إن المراد بها: جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير، فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بلزومه، ونهى عن فراق الأمة فيما اجتمعوا عليه من تقديمه عليهم، وإلى هذا ذهب الطبري[3].
وهذا القول الأخير لا يخالف ما تقدمه، ولذا علَّق عليه الشاطبي بقوله: «وحاصله: أن الجماعة راجعة إلى الاجتماع على الإمام الموافق للكتاب والسُّنَّة، وذلك ظاهر في أن الاجتماع على غير سُنَّة خارج عن معنى الجماعة المذكورة في الأحاديث؛ كالخوارج ومن جرى مجراهم»[4].
وعليه نقول: كل هذه الأقوال متفقة غير متعارضة ـ كما تقدم ـ فاختلافها من باب اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد[5].
قال ابن القيم: «وعادة السلف أن يذكر أحدهم في تفسير اللفظة بعض معانيها، أو لازمًا من لوازمها، أو الغاية المقصودة منها، أو مثالاً ينبه السامع على نظيره، وهذا كثير في كلامهم لمن تأمله»[6].
ولذا؛ نجد البربهاري ـ على سبيل المثال ـ في شرح السُّنَّة لما ذكر الجماعة قال: «هم السواد الأعظم، والسواد الأعظم: الحق وأهله»[7].
وذكرهم في موضع آخر من الكتاب نفسه فقال: «الجماعة: ما اجتمع عليه أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان»[8].
ومثله الشاطبي فإنه ذكر الجماعة في مواضع متعددة من كتابه الاعتصام، وعبَّر عنها بتعبيرات مختلفة، مما يدل على أن مراده بها واحد.
فمرة عبَّر عنها: بالسواد الأعظم[9].
وقال مرة: «الجماعة: ما كان عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، والتابعون لهم بإحسان»[10]
وقال أيضًا عنها: «إنها المتبعة للسُّنَّة، وإن كانت رجلاً واحدًا في العالم»[11].
المسألة الثانية: عام الجماعة:
سُمِّي العام الذي تنازل فيه الحسن لمعاوية رضي الله عنهما بعام الجماعة؛ لاجتماع الناس فيه على معاوية، فقد سلَّم إليه الحسن بن علي رضي الله عنهما الأمر عام أربعين الذي يقال له عام الجماعة؛ لاجتماع الكلمة، وزوال الفتنة بين المسلمين.
وهذا الذي فعله الحسن رضي الله عنه مما أثنى عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم كما ثبت في «صحيح البخاري» وغيره عن أبي بكرة رضي الله عنه؛ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن ابني هذا سيِّد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»[12].


[1] ينظر في هذه الأقوال: الاعتصام للشاطبي (3/300 ـ 311) وفتح الباري (13/37) [دار الفكر].
[2] أخرجه الترمذي (أبواب الإيمان، رقم 2641)، والحاكم (كتاب العلم، رقم 444)، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/334، رقم 2129) [المكتب الإسلامي، ط1، 1408هـ].
[3] ينظر: الاعتصام (3/309)، وفتح الباري (13/37).
[4] الاعتصام (3/311).
[5] ينظر: وسطية أهل السُّنَّة بين الفرق (95).
[6] مختصر الصواعق (3/1048) [دار أضواء السلف، ط1، 1425هـ].
[7] شرح السُّنَّة للبربهاري (37).
[8] شرح السُّنَّة للبربهاري (99 ـ 100).
[9] الاعتصام (1/14).
[10] الاعتصام (1/21).
[11] الاعتصام (2/256).
[12] أخرجه البخاري (كتاب الصلح، رقم 2704).


خالف في هذا فريقان من الناس فشذا عن الجماعة:
أحدهما: شذوذه علمي، وهذا يتمثل في جميع الفرق المخالفة لأهل السُّنَّة والجماعة في الاعتقاد، من الخوارج، والشيعة، والفرق الكلامية، ونحوهم، وبطلان مذاهب هؤلاء بيِّن ظاهر.
والفريق الآخر: شذوذه عملي، ويتمثل هذا في الخوارج ومن سلك سبيلهم، حيث فارقوا الجماعة فكفروا بالكبيرة، وجوَّزوا الخروج على أئمة المسلمين، واستحلوا دمائهم وأموالهم، وكل من خرج على أئمة المسلمين أو جماعتهم ما لم ير كفرًا بواحًا فهو خارجي.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فهؤلاء أصل ضلالهم: اعتقادهم في أئمة الهدى وجماعة المسلمين أنهم خارجون عن العدل، وأنهم ضالون... ثم يعدون ما يرون أنه ظلم عندهم كفرًا، ثم يرتبون على الكفر أحكامًا ابتدعوها»[1].
وقال أيضًا: «أول البدع ظهورًا في الإسلام وأظهرها ذمًّا في السُّنَّة والآثار: بدعة الحرورية المارقة؛ فإن أولهم قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم في وجهه: «اعدل يا محمد فإنك لم تعدل»[2] وأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بقتلهم وقتالهم، وقاتلهم أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والأحاديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مستفيضة بوصفهم وذمهم، والأمر بقتالهم»[3].
وقال أيضًا: «والخوارج هم أول من كفَّر المسلمين، يكفِّرون بالذنوب، ويكفِّرون من خالفهم في بدعتهم، ويستحلُّون دمه وماله»[4].
وقال الآجري رحمه الله: «فلا ينبغي لمن رأى اجتهاد خارجي قد خرج على إمام، عدلاً كان الإمام أو جائرًا، فخرج وجمع جماعة، وسل سيفه، واستحل قتال المسلمين، فلا ينبغي له أن يغتر بقراءته للقرآن، ولا بطول قيامه في الصلاة، ولا بدوام صومه، ولا بحسن ألفاظه في العلم، إذا كان مذهبه مذهب الخوارج»[5].
وقال ابن كثير رحمه الله: «فخرجوا من بين الآباء والأمهات والأعمام والعمات، وفارقوا سائر القرابات، يعتقدون بجهلهم وقلة علمهم وعقلهم أن هذا الأمر يرضي رب الأرض والسماوات، ولم يعلموا أنه من أكبر الكبائر والذنوب الموبقات، والعظائم والخطيئات، وأنه مما يزينه لهم إبليس وأنفسهم التي هي بالسوء أمارات»[6].
وإليهم أشار النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله كما في حديث أبي سعيد رضي الله عنه: «تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين، يقتلها أولى الطائفتين بالحق» . وفي رواية قال: «تكون في أمتي فرقتان فتخرج من بينهما مارقة يلي قتلهم أولاهم بالحق» [7]. وفي رواية أخرى قال: «يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد» [8]، وقد تقدمت.
وهذا ما وقع منهم فعلاً، ولهذا المعنى سموا خوارج كما تقدم.
قال ابن كثير رحمه الله: «فهذا الحديث من دلائل النبوة؛ لأنه قد وقع الأمر طبق ما أخبر به الرسول صلّى الله عليه وسلّم»[9].
ونختم بكلام نفيس للآجري رحمه الله، قال: «لم يختلف العلماء قديمًا وحديثًا أن الخوارج قوم سوء، عصاة لله تعالى ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم، وإن صلوا وصاموا، واجتهدوا في العبادة، فليس ذلك بنافع لهم، ويظهرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليس ذلك بنافع لهم؛ لأنهم قوم يتأولون القرآن على ما يهوون، ويموهون على المسلمين، وقد حذَّر الله تعالى منهم، وحذر النبي صلّى الله عليه وسلّم، وحذرناهم الخلفاء الراشدون بعده، وحذرناهم الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان.
والخوارج هم الشراة الأنجاس الأرجاس، ومن كان على مذهبهم من سائر الخوارج، يتوارثون هذا المذهب قديمًا وحديثًا، ويخرجون على الأئمة والأمراء، ويستحلون قتل المسلمين.
فأول قرن طلع منهم على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو رجل طعن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يقسم الغنائم، فقال: اعدل يا محمد، فما أراك تعدل، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ويلك فمن يعدل إذا لم أكن أعدل؟» فأراد عمر رضي الله عنه قتله، فمنعه النبي صلّى الله عليه وسلّم من قتله، وأخبر: أن هذا وأصحابًا له يحقر أحدكم صلاته مع صلاته، وصيامه مع صيامه، يمرقون من الدين، وأمر في غير حديث بقتالهم، وبيَّن فضل من قتلهم أو قتلوه.
ثم إنهم بعد ذلك خرجوا من بلدان شتى، واجتمعوا وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى قدموا المدينة، فقتلوا عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقد اجتهد أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ممن كان بالمدينة في أن لا يقتل عثمان، فما أطاقوا على ذلك رضي الله عنهم.
ثم خرجوا بعد ذلك على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولم يرضوا بحكمه، وأظهروا قولهم، وقالوا: لا حكم إلا لله، فقال علي رضي الله عنه: كلمة حق أرادوا بها الباطل، فقاتلهم علي رضي الله عنه، فأكرمه الله تعالى بقتلهم، وأخبر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بفضل من قتلهم أو قتلوه، وقاتل معه الصحابة، فصار سيف علي رضي الله عنه في الخوارج سيف حق إلى أن تقوم الساعة»[10].


[1] مجموع الفتاوى (28/497).
[2] أخرجه البخاري (كتاب الأدب، رقم 6163)، ومسلم (كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، برقم 1064).
[3] مجموع الفتاوى (19/71 ـ 72).
[4] مجموع الفتاوى (3/279).
[5] الشريعة (1/345).
[6] البداية والنهاية (10/581).
[7] أخرج كلتا الروايتين: مسلم (كتاب الزكاة، برقم 1064).
[8] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3344)، ومسلم (كتاب الزكاة، رقم 1064).
[9] البداية والنهاية (10/563).
[10] الشريعة (1/325 ـ 327).


1 ـ «شرح السُّنَّة»، للبربهاري.
2 ـ «منهاج السُّنَّة»، لابن تيمية.
3 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.
4 ـ «الاعتصام»، للشاطبي.
5 ـ «وسطية أهل السُّنَّة بين الفرق»، لمحمد باكريم.
6 ـ «لزوم الجماعة وذم التفرق»، لجمال بشير بادي.
7 ـ «المباحث العقدية في حديث افتراق الأمم»، لأحمد سردار شيخ.
8 ـ «موقف أهل السُّنَّة والجماعة من أهل الأهواء والبدع»، لإبراهيم بن عامر الرحيلي.
9 ـ «المؤمل في الرد إلى الأمر الأول»، لأبي شامة.