حرف الجيم / جنب الله

           

قال ابن فارس رحمه الله: «الجيم والنون والباء أصلان متقاربان؛ أحدهما: النّاحية، والآخر البُعْد. فأمّا الناحية فالجَنَاب. يقال هذا من ذلك الجَناب؛ أي: الناحية... ومن الباب الجَنْبُ للإنسان وغيره... وأمَّا البُعْد فالجَنَابة.
فلا تَحْرِمنّي نائلاً عن جَنابةٍ
فإني امرؤٌ وَسْطَ القِبابِ غريبُ
ويقال: إنَّ الجُنُب الذي يُجامِع أهْلَه، مشتقٌّ من هذا؛ لأنه يبعدُ عما يقرُب منه غيرُه، من الصَّلاةِ والمسجد وغير ذلك...»[1].
وقال الجوهري: «الجنب: معروف، تقول: قعدت إلى جنب فلان، وإلى جانب فلان بمعنى»[2]. وقال الفيومي: «جنب الإنسان: ما تحت إبطه إلى كشحه»[3].


[1] مقاييس اللغة (1/483 ـ 484) [دار الفكر، ط1399هـ].
[2] الصحاح (1/101) [دار العلم للملايين].
[3] المصباح المنير (99).


جنب الله: أي: حق الله وذكره وطاعته[1].


[1] انظر: نقض الدارمي على المريسي (517 ـ 519) [أضواء السلف، الرياض، ط1، 1419هـ]، وإبطال التأويلات لأبي يعلى (2/427 ـ 428) [دار إيلاف الدولية، الجهراء، ط1، 1416هـ]، والأسماء والصفات للبيهقي (2/209) [مكتبة السوادي، ط1، 1413هـ].


المعنى الصحيح لجنب الله الوارد في قوله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56] : هو التفريط في حق الله تعالى وذكره وطاعته وعبادته[1].


[1] انظر: نقض الدارمي على المريسي (517 ـ 519)، وإبطال التأويلات (2/427 ـ 428)، والأسماء والصفات للبيهقي (2/209).


استُدلّ بقوله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56] على إثبات صفة (الجنب) لله تعالى، وأنها صفة ذاتية له عزّ وجل، ولكن هذا الاستدلال لا يخلو من النظر، وسيأتي تفصيله بوضوح في الفقرة اللاحقة عند ذكر أقوال أهل العلم في هذا الشأن.



عن مجاهد رحمه الله في قول الله: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56] قال: في أمر الله[1]. وعن قتادة قال: ضيع طاعة الله[2].
وقال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56] : «يقول على ما ضيعت من العمل بما أمرني الله به، وقصرت في الدنيا في طاعة الله»[3].
وقال عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله في رده على بشر المريسي الجهمي: «وادعى المعارض أيضًا زورًا على قوم أنهم يقولون في تفسير قول الله: {يَاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56] ، قال: يعنون بذلك الجنب الذي هو العضو، وليس على ما يتوهمونه. فيقال لهذا المعارض: ما أرخص الكذب عندك، وأخفه على لسانك! فإن كنت صادقًا في دعواك فأشر بها إلى أحد من بني آدم قاله، وإلا فَلِمَ تشنع بالكذب على قوم هم أعلم بهذا التفسير منك، وأبصر بتأويل كتاب الله منك، ومن إمامك؟! إنما تفسيرها عندهم: تحسُّر الكفار على ما فرطوا في الإيمان والفضائل التي تدعو إلى ذات الله تعالى، واختاروا عليها الكفر والسخرية بأولياء الله، فسماهم الساخرين؛ فهذا تفسير (الجنب) عندهم. فمن أنبأك أنهم قالوا: جنب من الجنوب؛ فإنه لا يجهل هذا المعنى كثير من عوام المسلمين فضلاً عن علمائهم»[4].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «لا يعرف عالم مشهور عند المسلمين، ولا طائفة مشهورة من طوائف المسلمين، أثبتوا لله جنبًا نظير جنب الإنسان، وهذا اللفظ جاء في القرآن في قوله: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56] .
فليس في مجرد الإضافة ما يستلزم أن يكون المضاف إلى الله صفة له؛ بل قد يضاف إليه من الأعيان المخلوقة وصفاتها القائمة بها ما ليس بصفة له باتفاق الخلق؛ كقوله تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ} [الشمس: 13] ، وقوله: {عِبَادَ اللَّهِ} [الصافات: 40] ؛ بل وكذلك قوله: {رَوْحِ اللَّهِ} [يوسف: 87] عند سلف المسلمين وأئمتهم وجمهورهم.
ولكن إذا أضيف إليه ما هو صفة له وليس بصفة لغيره، مثل: كلام الله، وعلم الله، ويد الله، ونحو ذلك كان صفة له.
وفي القرآن ما يبيِّن أنه ليس المراد بالجنب ما هو نظير جنب الإنسان، فإنه قال: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56] . والتفريط ليس في شيء من صفات الله سبحانه وتعالى، والإنسان إذا قال: فلان قد فرط في جَنْبِ فلان أو جانبه لا يريد به أن التفريط وقع في شيء من نفس ذلك الشخص؛ بل يريد به أنه فرط في جهته وفي حقه. فإذا كان هذا اللفظ إذا أضيف إلى المخلوق لا يكون ظاهره أن التفريط في نفس جنب الإنسان المتصل بأضلاعه بل ذلك التفريط لم يلاصقه فكيف يظن أن ظاهره في حق الله أن التفريط كان في ذاته»[5].
وقال أيضًا: «فهذا إخبار عما تقوله هذه النفس الموصوفة بما وصفت به، وعليه: هذه النفوس لا تعلم أن لله جنبًا، ولا تقر بذلك، كما هو الموجود منها في الدنيا، فكيف يكون ظاهر القرآن أن الله أخبر عنه بذلك، وقد قال في كلامهم: {يَاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56] ، فجعلوا التفريط في جنب الله، والتفريط: فعل أو ترك فعل، وهذا لا يكون قائمًا بذات الله، لا في جنب، ولا في غيره؛ بل يكون منفصلاً عن الله، وهذا معلوم بالحس والمشاهدة؛ فظاهر القرآن يدل على أن قول القائل: {يَاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} ليس أنه جعل فعله أو تركه في جنب يكون من صفات الله وأبعاضه»[6].


[1] أخرجه ابن جرير في تفسيره (20/234) [دار هجر، ط1]، والبيهقي في الأسماء والصفات (2/209)، والأثر إسناده صحيح، كما في التفسير الصحيح لحكمت بن بشير ياسين (4/245) [دار المآثر، المدينة المنورة، ط1].
[2] أخرجه ابن جرير في تفسيره (20/235)، وإسناده حسن، كما في التفسير الصحيح (4/245).
[3] تفسير ابن جرير (20/234).
[4] نقض الدارمي على المريسي (517 ـ 519).
[5] الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (4/415 ـ 416) [دار العاصمة، الرياض، ط2، 1419هـ].
[6] بيان تلبيس الجهمية (5/467 ـ 468) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ط1، 1426هـ]، وانظر: الصواعق المرسلة (1/247 و250) [دار العاصمة الرياض، ط3، 1418هـ]، وبدائع الفوائد (2/403) [دار عالم الفوائد، ط1، 1425هـ].


المسألة الأولى: صفة الجنب لله تعالى:
لا تصح نسبة هذه الصفة إلى الله سبحانه وتعالى لعدم وجود الدليل، ولم يعرف عن أحد من أهل العلم المشهورين إثباتها لله سبحانه وتعالى، قال ابن تيمية: «لا يعرف عالم مشهور عند المسلمين، ولا طائفة مشهورة من طوائف المسلمين، أثبتوا لله جنبًا نظير جنب الإنسان»[1].
المسألة الثانية: خطأ من يفسر الجنب المضاف إلى الله تعالى بالصفة:
إن من فسَّر الجنب المضاف إلى الله تعالى بالصفة فقد جانب الصواب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «لا يعرف عالم مشهور عند المسلمين، ولا طائفة مشهورة من طوائف المسلمين، أثبتوا لله جنبًا نظير جنب الإنسان، وهذا اللفظ جاء في القرآن في قوله: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56] ... وفي القرآن ما يبيِّن أنه ليس المراد بالجنب ما هو نظير جنب الإنسان فإنه قال: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56] ، والتفريط ليس في شيء من صفات الله سبحانه وتعالى. والإنسان إذا قال: فلان قد فرط في جَنْبِ فلان أو جانبه لا يريد به أن التفريط وقع في شيء من نفس ذلك الشخص؛ بل يريد به أنه فرط في جهته وفي حقه. فإذا كان هذا اللفظ إذا أضيف إلى المخلوق لا يكون ظاهره أن التفريط في نفس جنب الإنسان المتصل بأضلاعه بل ذلك التفريط لم يلاصقه فكيف يظن أن ظاهره في حق الله أن التفريط كان في ذاته»[2]. فإن التفريط هو فعل أو ترك فعل، وهذا لا يكون قائمًا بذات الله، لا في جنب، ولا في غيره؛ بل يكون منفصلاً عن الله، وهذا معلوم بالحس والمشاهدة؛ فظاهر القرآن يدل على أن قول القائل: {يَاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} ليس أنه جعل فعله أو تركه في جنب يكون من صفات الله، ويبيِّن صحة هذا التأويل ما في سياق الآية من قوله: {فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ *} [الزمر] ، {لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ *} [الزمر] ، وهذا كله راجع إلى الطاعات، فلا يصح تفسير الجنب في الآية بالصفة لله تعالى[3].


[1] الجواب الصحيح (4/415 ـ 416).
[2] الجواب الصحيح (4/415 ـ 416).
[3] انظر: إبطال التأويلات لأخبار الصفات (2/427 ـ 428)، وبيان تلبيس الجهمية (5/467 ـ 468)، والصواعق المرسلة (1/247 و250)، وبدائع الفوائد (2/403).


1 ـ «إبطال التأويلات لأخبار الصفات» (ج2)، للقاضي أبي يعلى.
2 ـ «بدائع الفوائد» (ج2)، لابن القيم.
3 ـ «بيان تلبيس الجهمية» (ج5)، لابن تيمية.
4 ـ «تفسير الطبري» (ج22).
5 ـ «الجواب الصحيح» (ج4)، لابن تيمية.
6 ـ «زاد المسير في علم التفسير» (ج7)، لابن الجوزي.
7 ـ «صفات الله سبحانه وتعالى الواردة في الكتاب والسُّنَّة»، لعلوي بن عبد القادر السقاف.
8 ـ «الصواعق المرسلة» (ج1)، لابن القيم.
9 ـ «معجم ألفاظ العقيدة»، لعالم عبد الله فالح.
10 ـ «نقض عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد»، لعثمان بن سعيد الدارمي.