قال ابن فارس رحمه الله: «الجيم والنون أصل واحد وهو الستر والتستر؛ فالجنة ما يصير إليه المسلمون في الآخرة، وهو ثواب مستور عنهم، والجنة البستان، وهو ذاك لأنَّ الشجر بورقه يستر»[1]. فالجنّة بفتح الجيم وتشديد النون: الحديقة والبستان وجمعها: جَنّات وجِنانٌ[2]، وقال الراغب: «الجنة كل بستان ذي شجر يستر بأشجاره الأرض»[3]. وهو من الجَنّ وهو الستر.
[1] مقاييس اللغة (200) [دار الفكر، ط2، 1418هـ].
[2] الصحاح (5/3094) [دار العلم للملايين، ط3]، وتهذيب اللغة (11/499) [الدار المصرية للتأليف].
[3] مفردات ألفاظ القرآن (203 ـ 204) [دار القلم، ط3].
هي دار النعيم التي أعدها الله تعالى للمؤمنين المتقين، فيها من النعيم ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر[1].
العلاقة بين المعنى اللغوي والشرعي:
المعنى الشرعي أخص من المعنى اللغوي؛ فالجنة في الشرع البستان الخاص الذي ينعم فيها المؤمنون في الآخرة.
[1] عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة لابن عثيمين (36)، وانظر: الجنة والنار من الكتاب والسُّنَّة المطهرة (94) [ط3]، والغاية: مباحث علمية ودراسات حديثية حول الجنة (19 ـ 20) [دار القاسم، ط1، 1426هـ].
من أسماء الجنة: جنة الخلد، دار السلام، دار الخلد، جنة عدن، دار المقامة، دار الحيوان، جنة النعيم، الفردوس، المقام الأمين، جنة المأوى وغيرها[1].
[1] انظر: التذكر (3/1021) [دار المنهاج، ط1، 1425هـ]، وحادي الأرواح (131 ـ 139) [مؤسسة الرسالة، ط3، 1424هـ]، والغاية (21 ـ 23)، والجنة والنار من الكتاب والسُّنَّة المطهرة (96).
وجوب الإيمان بها، وهو من الركن الخامس من أركان الإيمان، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق، أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء» [1]، ويجب الإيمان بوجودها الآن، لقوله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد: 21] .
[1] أخرجه البخاري (كتاب الأنبياء، رقم 3435)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 28) واللفظ له.
الجنة: دار ذات أنهار وبساتين، ومخلوقة حقيقة، وموجودة الآن، فيها من النعيم ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر[1].
[1] انظر الأدلة في: الجامع لأحكام القرآن (20/28) [مؤسسة الرسالة ط1، 1427هـ]، والتذكرة (2/929) وما بعدها، وشرح العقيدة الطحاوية (420) [وزارة الشؤون الإسلامية السعودية، 1418هـ]، والغاية (32 ـ 33).
الأدلة على الجنة كثيرة جدًّا؛ منها: قول الله تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 15] ، وقوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصْفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد: 15] ، وغير ذلك من الآيات الكثيرة كلها تدل على وجود الجنة وبعض صفاتها، وأنها دار المتقين الأبرار.
ومن الأدلة كذلك: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما يرويه عن ربه: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فاقرؤوا إن شئتم: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] »[1]، وقوله صلّى الله عليه وسلّم لما سأله ابن صياد عن تربة الجنة؟ فقال: «دَرْمَكة بيضاء، مسك خالص [2]»[3] وغير ذلك من الأدلة الكثيرة حتى إن كثيرًا من المحدثين خصصوا كتبًا وأبوابًا في جوامعهم وسننهم؛ كالبخاري ومسلم وغيره في صفة الجنة.
[1] أخرجه البخاري (كتاب بدء الخلق، رقم 3244)، ومسلم (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم 2824).
[2] درمك على وزن جعفر: قال النووي: معناه أنها في البياض درمكة وفي الطيب مسك، والدرمك هو الدقيق الحُوَّاري الخالص البياض. انظر: شرح مسلم للنووي (18/258) [دار المعرفة، ط12، 1427هـ]، والنهاية في غريب الحديث (1/565) [دار المعرفة، ط2].
[3] أخرجه مسلم (كتاب الفتن وأشراط الساعة، رقم 2928).
يُعلم من بعض النصوص أنها أربع[1]؛ لقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ *} [الرحمن] ، ثم قال بعد أن ذكر بعض صفاتهما: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ *} [الرحمن] ، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما...» [2]، يجمع بين ورود الجنة مفردة، وورودها بصيغة الجمع بأنها مفردة باعتبار الجنس، ومجموعة باعتبار النوع[3]، ولها عدة أسماء، وأن الجنات نوعان الأول لمن خاف مقام ربه وهم السابقون المقربون، ومن دونهما جنتان وهي لأصحاب اليمين كما في سورة الواقعة [10 ـ 40] ، وورد أن درجات الجنة كثيرة[4] مائة منها أعدها الله للمجاهدين، وبين كل درجتين ما بين السماء والأرض وأن أوسطها وأعلاها الفردوس لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة» [5]، وكيفية كون الفردوس أوسط الجنة وأعلاها ككون وسط القبة أعلاها، ومعنى الفردوس: البستان، وقيل: البستان الذي فيه الكرم والأشجار[6]، والفردوس أعلى الجنة، وأعلى المنازل على الإطلاق هي الوسيلة، وهي لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «... سلوا لي الوسيلة؛ فإنها درجة في الجنة، لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو...» [7]، وأدنى أهل الجنة منزلةً، وهذه الدونية بالنسبة للأعلى وليست من الدناءة بمعنى النقص، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن أدنى أهل الجنة منزلة وليس فيهم دني...» [8]، وفي الحديث: «سأل موسى ربه: ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعدما أدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: أدخل الجنة. فيقول: أي رب! كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له أترضى أن يكون لك مثل ما كان مُلك مَلك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب. فيقول: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله فيقول في الخامسة: رضيت رب، فيقول: هذا لك وعشر أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك ولذّت عينك، فيقول: رضيت رب!...»[9].
[1] ذكر القرطبي في التذكرة أن الجنات أربع، وأسماءها متعددة. انظر: التذكرة (3/1021) وقريبًا منه قال ابن القيم في نونيته: (فصل في عدد الجنات وأجناسها... (224)) [مطبعة التقدم العلمية بمصر، 1344هـ].
[2] أخرجه البخاري (كتاب التفسير، رقم 4878، و4880)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 180).
[3] فتح القدير (893) [دار المعرفة، ط4، 1428هـ]، وتفسير سورة الذاريات لابن عثيمين.
[4] انظر: صفة الجنة لأبي نعيم (2/61) [دار المأمون للتراث، ط2، 1415هـ]، ونونية ابن القيم (219)، وحادي الأرواح (113).
[5] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، رقم 7423).
[6] تهذيب اللغة (13/151)، الصحاح (3/959)، النهاية (2/354)، لسان العرب (7/56) [دار الحديث، 1423هـ].
[7] أخرجه مسلم (كتاب الصلاة، رقم 384).
[8] المعجم الكبير (6/169) [مكتبة العلوم والحكم، ط2، 1404هـ].
[9] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 464).
المسألة الأولى: الجنة مخلوقة موجودة الآن:
يدلُّ على ذلك الكتاب والسُّنَّة والإجماع، فمن الكتاب قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ *} [آل عمران] ، وقوله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد: 21] .
ومن السُّنَّة دخول النبي صلّى الله عليه وسلّم فيها لمّا عرج به «... ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ[1] وإذا ترابها المسك...»[2] .
وأما الإجماع فقد قال ابن القيم وابن أبي العز الحنفي رحمهم الله: «لم يزل أهل السُّنَّة على أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن، ولم يزل على ذلك أهل السُّنَّة حتى نبغت نابغة من المعتزلة والقدرية فأنكرت ذلك وقالت: بل ينشئهما الله يوم القيامة»[3].
المسألة الثانية: مكان الجنة:
الصحيح: أنها فوق السماء السابعة وسقفها العرش[4]، ويدل على هذا قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى *عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى *عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى *} [النجم] ، قال الحسن رحمه الله: «هي التي يصير إليها المتقون»[5]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو كقوله: {فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *} [السجدة] [6]، وسدرة المنتهى في السماء السابعة[7]، وفي الحديث: «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن»[8].
المسألة الثالثة: أول من يستفتح الجنة:
هو النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «آتي باب الجنة يوم القيامة؛ فأستفتح فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد. فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك» [9]، وأمة محمد أول الأمم تدخل الجنة لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة» [10].
المسألة الرابعة: اختلف أهل العلم في الجنة التي أهبط منها آدم وزوجه؛ أهي جنة الخلد أم غيرها؟
ذكر ابن كثير وابن القيم رحمهم الله هذا الخلاف وأطالا فيه[11]، ونسب ابن كثير في تفسيره القول بأنها جنة الخلد إلى الجمهور، فقال عقب قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35] : «الجمهور على أن هذه الجنة جنة المأوى»[12]، وادعى النووي رحمه الله إجماع أهل السُّنَّة على ذلك حيث قال: «الجنة مخلوقة موجودة، وهو مذهب أهل السُّنَّة، وهي التي أهبط منها آدم، وهي التي ينعم فيها المؤمنون في الآخرة، هذا إجماع أهل السُّنَّة»[13]، وورد عن ابن تيمية رحمه الله في هذه المسألة قولان:
أحدهما: في مجموع الفتاوى: «الجنة التي أسكنها آدم وزوجته عند سلف الأمة وأهل السُّنَّة والجماعة: هي جنة الخلد، ومن قال: إنها جنة في الأرض بأرض الهند، أو بأرض جدة، أو غير ذلك، فهو من المتفلسفة والملحدين، أو من إخوانهم المتكلمين المبتدعين، فإن هذا يقوله من يقوله من المتفلسفة والمعتزلة، والكتاب والسُّنَّة يرد هذا القول، وسلف الأمة وأئمتها متفقون على بطلان هذا القول»[14].
والآخر: في كتاب النبوات، حيث قال: «أصح القولين أن جنة آدم جنة التكليف لم تكن في السماء، فإن إبليس دخل إلى جنة التكليف جنة آدم بعد إهباطه من السماء، وقول الله له: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ *} [ص] وقوله: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُومًا مَدْحُورًا} [الأعراف: 18] ، لكن كانت في مكان عال في الأرض من ناحية المشرق ثم لما أكل من الشجرة أهبط منها إلى الأرض»[15].
[1] جنابذ: قباب. انظر: شرح مسلم للنووي (2/393) [دار المعرفة، ط12، 1427هـ].
[2] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3342)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 163).
[3] حادي الأرواح (35 ـ 36)، وانظر: شرح العقيدة الطحاوية (615).
[4] جلاء العينين (480) [دار المدني].
[5] تفسير القرطبي (20/29).
[6] أخرجه الطبري في تفسيره (22/518) [مؤسسة الرسالة، ط1].
[7] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 189).
[8] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3342)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 163).
[9] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 197).
[10] أخرجه مسلم (كتاب الجمعة، رقم 855).
[11] حادي الأرواح (49 ـ 70)، ومفتاح دار السعادة (1/14)، والبداية والنهاية (1/69 ـ 71)، والغاية (379 ـ 393).
[12] النهاية في الفتن والملاحم (2/379) [دار الحديث].
[13] المنهاج شرح صحيح مسلم (13/34) [دار المعرفة، ط12، 1427هـ].
[14] مجموع فتاوى ابن تيمية (4/347).
[15] النبوات (182) [المطبعة السلفية، ط. عام 1386هـ].
1 ـ زعمت المعتزلة ومن وافقهم أن الجنة معدومة الآن، وينشئها الله تعالى يوم القيامة، قال ابن أبي العز ردًّا على تلك المزاعم: «لم يزل أهل السُّنَّة على أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن، ولم يزل على ذلك أهل السُّنَّة حتى نبغت نابغة من المعتزلة والقدرية فأنكرت ذلك وقالت: بل ينشئهما الله يوم القيامة، وحملهم على ذلك أصلهم الفاسد الذي وضعوا به شريعة فيما يفعله الله وأنه ينبغي له أن يفعل كذا ولا ينبغي له أن يفعل كذا»[1]، وقد دلَّت أدلة كثيرة على أنها موجودة معدة الآن، مثل قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ *} [آل عمران] ، وقوله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ *} [الحديد] ، وغيرها من الأدلة، والتجديد والزيادة فيها لا ينافيان وجودها الآن، فالله يزيد فيها ويزينها لعباده المتقين، وأرواح الشهداء في «أجواف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت»[2] قبل يوم القيامة، ويفتح من الجنة الباب إلى قبر العبد المؤمن «فيأتيه من روحها وطيبها»[3].
2 ـ حكى العلماء أن الجهم بن صفوان وأتباعه زعموا أن الجنة فانية، وبذلك خالفوا سبيل المؤمنين جميعًا؛ حيث لم يحك هذا أحد عن السلف الصالح لا الصحابة ولا التابعين ولا غيرهم بل كلهم يقولون: إن الجنة باقية بإبقاء الله تعالى لها بقاءً أبديًّا سرمديًّا، على مرّ الدهور والعصور، مستدلين بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء: 57] تأكيد الخلود بالأبدية يدل دلالة صريحة أن الجنة أبدية لا تفنى، ومن الأدلة كذلك قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: 35] ، والدائم هو المستمر على مر الدهور والعصور، وقوله تعالى في أرزاق الجنة: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ *} [ص] ، وقال تعالى عن ثمار الجنة: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ *لاَ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ *} [الواقعة] .
قال ابن تيمية رحمه الله في إبطال القول بفناء الجنة: «حكوه عن الجهم بن صفوان وأتباعه الجهمية، وهذا مما أنكره عليه أئمة الإسلام؛ بل مما أكفروهم به... عن خارجة بن مصعب، أنه قال: كفرت الجهمية بآيات من كتاب الله سبحانه وتعالى، في غير موضع بأربع آيات من كتاب الله: بقوله تعالى: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: 35] وهم يقولون: لا يدوم. ويقول الله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ *} [ص] ، وهم يقولون: ينفد. وبقوله تعالى: {لاَ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ *} [الواقعة] ، فمن قال: إنها تنقطع، فقد كفر، وبقوله تعالى: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ *} [هود] ؛ أي: غير مقطوع. فمن قال: إنه ينقطع، فقد كفر»[4]. وزاد في خلق أفعال العباد للبخاري: «أبلغوا أنهم كفار، وأن نساءهم طوالق»[5].
3 ـ زعمت بعض الفلاسفة الباطنية ومن نحا نحوهم[6] أن نعيم الجنة للروح دون الجسد، وبذلك خالفوا المذهب الحق القائلين: إن نعيم الجنة للروح والجسد معًا، لا الروح فقط، والأدلة على بطلان زعم الفلاسفة الباطنية كثيرة مستفيضة منها: قوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ *} [الطور، والمرسلات: 43] ، وقوله تعالى: {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ *} [الدخان، والطور: 20] ، وقوله تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ} [الكهف: 31] ؛ فالأكل والشرب والزواج واللباس والحلي والآنية إنما هي حسية، والحسية لا تكون إلا للمحسوس الذي هو الجسد[7].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «والأكل والشرب في الجنة ثابت بكتاب الله وسُنَّة رسوله وإجماع المسلمين، وهو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، وكذلك الطيور والقصور في الجنة بلا ريب...»[8]، وقال في موضع آخر: «المسلمون أثبتوا جميع أنواع اللذات: سمعًا وبصرًا وشمًّا وذوقًا ولمسًا للروح والبدن جميعًا، وكان هذا هو الكمال؛ لا ما يثبته أهل الكتاب[9] ومن هو شر منهم من الفلاسفة الباطنية وأعظم لذَّات الآخرة لذة النظر إلى الله سبحانه، كما في الحديث الصحيح: «فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه» [10] وهو ثمرة معرفته وعبادته في الدنيا؛ فأطيب ما في الدنيا معرفته، وأطيب ما في الآخرة النظر إليه سبحانه»[11].
[1] شرح العقيدة الطحاوية (615). وانظر: حادي الأرواح (35 ـ 36).
[2] أخرجه مسلم (كتاب الإمارة، رقم 1887).
[3] أخرجه أبو داود في سننه (كتاب السُّنَّة، رقم 4753)، وأحمد في مسنده (30/499، رقم 18534) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وصححه ابن القيم في أعلام الموقعين (1/137) [دار الكتب العلمية، ط1]، والألباني في أحكام الجنائز (159) [المكتب الإسلامي، ط4].
[4] الرد على من قال بفناء الجنة والنار (43 ـ 44) [دار بلنسية، ط1، 1415هـ]، والغاية (415) عن ابن تيمية، وانظر: السُّنَّة لعبد الله بن أحمد (130 برقم 77) [دار عالم الكتب، ط4، 1416هـ].
[5] خلق أفعال العباد10) [مؤسسة الرسالة، ط3].
[6] الغاية (224، 225).
[7] الغاية (223).
[8] مجموع فتاوى ابن تيمية (4/313) [مجمع الملك فهد، 1425هـ].
[9] انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (4/313 ـ 314) (13/238).
[10] لفظ الحديث في صحيح مسلم: «فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عزّ وجل ». انظر: صحيح مسلم (كتاب الإيمان، رقم 181).
[11] مجموع فتاوى ابن تيمية (14/163).
1 ـ «الإسماعيلية تاريخ وعقائد».
2 ـ «أصول الإسماعيلية».
3 ـ «التذكرة» (ج2، 3)، للقرطبي.
4 ـ «الجامع لأحكام القرآن» (ج20)، للقرطبي.
5 ـ «حادي الأرواح»، لابن القيم.
6 ـ «خلق أفعال العباد»، للبخاري.
7 ـ «الرد على من قال بفناء الجنة والنار»، لابن تيمية.
8 ـ «شرح العقيدة الطحاوية»، لابن أبي العز.
9 ـ «شرح النووي على مسلم» (ج18).
10 ـ «صفة الجنة»، لأبي نعيم الأصبهاني.