حرف الجيم / الجوهر الفرد

           

جاء في «الصحاح»: «والجَوْهر معرَّب، الواحدة جَوْهرة»[1]. وفي «لسان العرب»: «الجَوهر معروف، الواحدة جوهرة، والجوهر كل حَجَر يُستخرج منه شيء يُنتفع به»[2]. فالجوهر لفظ معرَّب، ومعناه: كل حجر يستخرج منه شيء ينتفع به.
والفرد كما يقول ابن فارس: «الفاء والراء والدال أصلٌ صحيح يدل على وِحْدة»[3].
ولم يأت المصطلح مركبًا في اللغة.


[1] الصحاح (2/216) [دار العلم للملايين، ط3، 1404هـ]، وانظر: لسان العرب (4/153) [دار صادر].
[2] لسان العرب (4/152)، وانظر: القاموس المحيط (468) [مؤسسة الرسالة، ط2، 1407هـ].
[3] مقاييس اللغة (4/500) [دار الجيل، ط1، 1411هـ].


الجوهر الفرد عند المتكلمين: هو جزء غير قابل للانقسام، تتركب منه الأجسام، وهو أصغر ما تنتهي إليه الأجسام عند تجزئها[1].
وهو وفق مفهومهم يرادف الذرة في العلم الحديث، إلا أن الذرة قابلة للانقسام خلاف قولهم. يقول الآمدي: «فأما الجوهر الفرد فعبارة عن جوهر لا يقبل التجزي لا بالفعل ولا بالقوة»[2]. ويقول الجرجاني عنه: «جوهر ذو وضع لا يقبل الانقسام أصلاً، لا بحسب الخارج، ولا بحسب الوهم أو الفرض العقلي، تتألف الأجسام من أفراده بانضمام بعضها إلى بعض»[3].
العلاقة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي:
لا يوجد علاقة ظاهرة بينهما، فهو مصطلح مبتدع لفظًا ومعنى.


[1] موسوعة مصطلحات جامع العلوم (324 ـ 325) بتصرف.
[2] المبين (109 ـ 110) [مكتبة وهبة، ط2، 1413هـ]، وانظر: معيار العلم (291) [دار الكتب العلمية، ط1، 1410هـ].
[3] التعريفات (75) [عالم الكتب، ط1، 1407هـ]، وانظر: الصحائف الإلهية (255) [مكتبة الفلاح، ط1، 1405هـ].


أثبت العلم الحديث بطلان نظرية الجوهر الفرد عند المتكلمين، كما أبطلها ابن تيمية قبل عدة قرون، فقد ثبت علميًّا أن الذرة والتي تقابل الجوهر الفرد عند المتكلمين، تتكوَّن من إلكترونات، ونواة بها بروتونات ونيوترونات، وهذه النواة أصغر من الذرة بآلاف المرات، وأن هذه النواة تنقسم، ويولد انقسامها طاقة هائلة[1].
كما أثبت العلم الحديث اختلاف ذرات الأجسام، وأنها غير متماثلة فذرات الماء ليست مماثلة لذرات الحديد على سبيل المثال. فكل جسم له ذراته الخاصة به، كما أن اختلاف الارتباط الكيمائي للذرات ببعض، ينتج أنواعًا مختلفة من المواد[2].
وبهذا تنهار نظرية الجوهر الفرد.


[1] انظر: معجزة الذرة لهارون يحيى (103 ـ 106)، المعجم الفلسفي للحفني (128) [الدار الشرقية، ط1، 1410هـ].
[2] انظر: نحو فلسفة العلوم الطبيعية، النظريات الذرية والكوانتم والنسبية لعبد الفتاح غنيمة (63 ـ 65)، ومعجزة الذرة (67).


الجوهر الفرد لم يقل به أحد من أئمة المسلمين، لا من الصحابة، ولا التابعين، ولا من بعدهم من الأئمة المعروفين؛ بل قد نفاه جمهور الأمة. وحقيقته أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق منذ خلق الجواهر المفردة شيئًا قائمًا بنفسه، لا سماء ولا أرضًا ولا حيوانًا ولا نباتًا ولا معادن ولا إنسانًا، ولا غير ذلك؛ بل إنما يحدث تركيب تلك الجواهر القديمة، فيجمعها ويفرقها، فهو يحدث صفات قائمة بتلك الجواهر، لا أعيانًا قائمة بأنفسها، وهذا خلاف ما دلَّ عليه السمع والعقل والعيان[1].


[1] انظر: منهاج السُّنَّة (2/139)، ومجموع الفتاوى (17/244).


الآثار السيئة المترتبة على القول بالجوهر الفرد كثيرة، منها:
1 ـ أن هذه النظرية تثير الشكوك والشبهات في العقيدة، ولا تخفى حالة القائلين به في آخر حياتهم من التوقف فيه، الشك والحيرة والندم[1].
2 ـ أن القول به مرتبط عند الفلاسفة الأوائل بالإلحاد وإنكار وجود الله عزّ وجل.
3 ـ أن القول بالجوهر الفرد وما ترتب عليه من مقولات فاسدة، سبب تسلط الملاحدة على أهل الكلام، وصولتهم عليهم، وقدحهم فيما جاءت به الرسل عليهم السلام.
4 ـ ما ترتب على قولهم من البدع الكلامية المناقضة للعقل؛ كالقول بتماثل الأجسام[2]. وما يعرف بطلانه ببديهة العقل[3].
5 ـ ما ترتب على قولهم من تعطيل الرب عن كماله المقدس، ونفي صفاته[4].


[1] انظر: منهاج السُّنَّة (2/141)، وبيان تلبيس الجهمية (1/283).
[2] انظر: منهاج السُّنَّة (2/532).
[3] انظر: المصدر السابق (2/140).
[4] انظر: المصدر السابق (2/139).


اختلف في إثبات الجوهر الفرد ونفيه:
1 ـ المثبتون: أثبت الجوهر الفرد جمهور المعتزلة؛ كالجبائي وهشام الفوطي وغيرهم[1]، وتبعهم جمهور الأشاعرة والماتريدية، حتى زعم البغدادي والجويني اتفاق المسلمين على إثباته[2]. وظنوا أن القول بإثبات الصانع، وبأنه خلق السماوات والأرض، وبأنه يقيم القيامة، لا يتم إلا بإثبات الجوهر الفرد، فجعلوه أصلاً للإيمان بالله واليوم الآخر[3].
2 ـ نفى الجوهر الفرد، طوائف أهل الكلام، ومنهم: ابن كلاب إمام أتباعه[4]. والهشامية، والنجارية، والضرارية، وكثير من الكرامية، كما نفاه الفلاسفه[5]. إلا أن النظام، والفلاسفة قالوا بأن الأجزاء تتجزأ إلى ما لا نهاية[6].
وجمهور الأمة ينكرون الجوهر الفرد، وما قيل في معناه. والتحقيق كما يقول شيخ الإسلام: «أن الأجسام إذا تصغرت أجزاؤها، فإنها تستحيل، كما هو موجود في أجزاء الماء، إذا تصغر فإنه يستحيل هواءً أو ترابًا، فلا يبقى موجود ممتنع عن القسمة ـ كما يقوله المثبتون له ـ فإن هذا باطل، بما ذكره النفاة من أنه لا بد أن يتميز جانب له عن جانب، ولا يكون قابلاً للقسمة إلى غير نهاية، فإن هذا أبطل من الأول؛ بل يقبل القسمة إلى حد، ثم يستحيل إذا كان صغيرًا، وليس استحالة الأجسام في صغرها محدودًا بحد واحد؛ بل قد يستحيل الصغير وله قدر يقبل نوعًا من القسمة، وغيره لا يستحيل حتى يكون أصغر منه، وبالجملة فليس في شيء منها قبول القسمة إلى غير نهاية؛ بل هذا إنما يكون في المقدرات الذهنية، فأما وجود ما لا يتناهى بين حدين متناهيين فمكابرة، وسواء كان بالفعل أو بالقوة، ووجود موجود لا يتميز جانب له عن جانب مكابرة؛ بل الأجسام تستحيل مع قبول الانقسام، فلا يقبل شيء منها انقسامًا لا يتناهى»[7]. وهذا ما أثبته العلم الحديث، حيث إن الذرة في العلم الحديث تقابل الجوهر الفرد عند المتكلمين، وقد أثبت أن لهذه الذرة نواة أصغر منها بآلاف المرات، وأن هذه النواة تنقسم، ويولد انقسامها طاقة هائلة[8].
ومثبتو الجوهر الفرد قولهم باطل من وجوه:
الأول: أنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام؛ أن الرسول، والصحابة، والتابعين، وأئمة المسلمين، لم يبنوا شيئًا من أمر الدين على ثبوت الجوهر الفرد، ولا انتفائه، وليس المراد بذلك أنهم لم ينطقوا بهذا اللفظ، فإنه قد تجدد بعدهم ألفاظ اصطلاحية، يعبَّر بها عما دلَّ عليه كلامهم في الجملة، وذلك بمنزلة تنوع اللغات، وتركيب الألفاظ المفردات، وإنما المقصود أن المعنى الذي يقصده المثبتة، والنفاة، بلفظ الجوهر الفرد، لم يبن عليه أحد من سلف الأمة، وأئمتها، مسألة واحدة من مسائل الدين، ولا ربطوا بذلك حكمًا علميًّا ولا عمليًّا. وقد أطبق أئمة الإسلام على ذمِّ من بنى دينه على الكلام في الجواهر والأعراض[9].
الوجه الثاني: أن «هؤلاء الذين ادعوا توقف الإيمان بالله، واليوم الآخر، على ثبوته، قد شكوا فيه، وقد نفوه في آخر عمرهم؛ كإمام المتأخرين من المعتزلة أبي الحسين البصري، وإمام المتأخرين من الأشعرية أبي المعالي الجويني، وإمام المتأخرين من الفلاسفة والمتكلمين أبي عبد الله الرازي، فإنه في كتابه بعد أن بيَّن توقف المعاد على ثبوته، وذكر ذلك غير مرة في أثناء مناظرته للفلاسفة، قال في المسألة لما أورد حجج نفاة الجوهر الفرد...: واعلم أنا نميل إلى التوقف في هذه المسألة، بسبب تعارض الأدلة، فإن إمام الحرمين صرح في كتاب «التلخيص» في أصول الفقه أن هذه المسألة من محارات العقول، وأبو الحسين البصري هو أحذق المعتزلة توقف فيها، فنحن أيضًا نختار التوقف»[10].
الوجه الثالث: دعواهم أن هذا قول جمهور المتكلمين غير صحيح؛ بل هو قول أبي الهذيل العلاف، ومن اتبعه من المعتزلة، والأشاعرة. وقد نفى الجوهر الفرد كثير من أئمة المتكلمين[11]. فهذا يدل بجلاء على بطلان القول بالجوهر الفرد، وبطلان ما بنوا عليه من مسائل في العقيدة.


[1] انظر: مقالات الإسلاميين (315 ـ 316) [مكتبة النهضة المصرية، ط2، 1389هـ].
[2] انظر: أصول الدين (36) [دار الكتب العلمية، ط3، 1401هـ]، الشامل (1/49) [دار العرب، 1988م].
[3] انظر: بيان تلبيس الجهمية (1/280)، ومجموع الفتاوى (9/299)، وانظر من كتب المتكلمين: التمهيد (41) [دار الفكر العربي]، والإنصاف (17) [المكتبة الأزهرية للتراث، 1413هـ].
[4] انظر: مجموع الفتاوى (17/244).
[5] انظر: درء التعارض (1/303) [مكتبة ابن تيمية].
[6] انظر: الشامل (1/49)، وبيان تلبيس الجهمية (1/284 ـ 285).
[7] بيان تلبيس الجهمية (1/285)، وانظر: منهاج السُّنَّة (2/210).
[8] انظر: معجزة الذرة هارون يحيى (103 ـ 106)، المعجم الفلسفي للدكتور الحفني (128) [الدار الشرقية، ط1، 1410هـ].
[9] انظر: بيان تلبيس الجهمية (1/283).
[10] بيان تلبيس الجهمية (1/283).
[11] انظر: المصدر السابق (1/284).


1 ـ «أثر الفكر الاعتزالي في عقائد الأشاعرة»، لمنيف العتيبي [رسالة دكتوراه] .
2 ـ «بيان تلبيس الجهمية» (ج1)، لابن تيمية.
3 ـ «دليل الحدوث أصوله ولوازمه»، لأحمد الغامدي [رسالة دكتوراه] .
4 ـ «معجزة الذرة»، لهارون يحيى.
5 ـ «منهج المتكلمين والفلاسفة المنتسبين للإسلام في الاستدلال على وجود الله»، ليوسف الأحمد [رسالة دكتوراه] .
6 ـ «مواقف التفتازاني الاعتقادية في كتابه شرح العقائد النسفية»، لمحمد جميل [رسالة دكتوراه] .
7 ـ «نحو فلسفة العلوم الطبيعية، النظريات الذرية والكوانتم والنسبية»، لعبد الفتاح غنيمه.
8 ـ «المبين في بيان ألفاظ الحكماء والمتكلمين»، للآمدي.
9 ـ «مقالات الإسلاميين»، للأشعري.