حرف الحاء / الحاسب

           

الحاسب: اسم فاعل، من حسب يحسب، من باب نصر، وزنه فاعل[1]، والحاسب من الحسيب، ومن معاني الحسيب: العد والإحصاء[2].
والحَسَب: ما عدّ، والحساب والحسابة: عدك الشيء، وحَسَبَ الشيء يحسُبه بالضم حَسْبًا وحِسابًا وحِسابة: عده[3]، «وقوله جلَّ وعز: {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا *} [الإسراء] ؛ أي: كفى بِك لنفسك محاسبًا»[4]، قال الراغب الأصبهاني: «والحسيب والمحاسب من يحاسبك، ثم يعبر به عن المكافئ بالحساب»[5].


[1] الجدول في إعراب القرآن (7/173) [دارالرشيد، ط4، 1418هـ].
[2] انظر: مقاييس اللغة (2/59)، ولسان العرب (1/311) [دار صادر، ط1، 1410هـ].
[3] لسان العرب (1/313)، والقاموس المحيط (94) [مؤسسة الرسالة، ط2، 1407هـ].
[4] لسان العرب (1/314).
[5] مفردات غريب القرآن (117) [دار القلم، ط1، 1412هـ].


الحاسب: من الحساب، وهو من معاني الحسيب، فهو المحاسب لعباده على أعمالهم[1]، الذي يحصي كل شيء ويقوم عليه[2]، العليم بعباده، الرقيب لهم، المتولي جزاءهم بالخير والشر بحسب حكمته وعلمه بدقيق أعمالهم وجليلها[3].
قال الخطابي: «والحسيب أيضًا بمعنى: المحاسب؛ كقولهم: وزير ونديم بمعنى: موازر ومنادم، ومنه قوله جلّ جلاله: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا *} [الإسراء] ؛ أي: محاسبًا»[4]، وقال الطبري في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا *} [النساء] : «يعني بذلك جلَّ ثناؤه: إن الله كان على كل شيء مما تعملون، أيها الناس، من الأعمال، من طاعة ومعصية، حفيظًا عليكم، حتى يجازيكم بها جزاءه، وأصل (الحسيب) في هذا الموضع عندي: (فعيل) من (الحساب) الذي هو في معنى الإحصاء، يقال منه: حاسبت فلانًا على كذا وكذا، وفلان حاسِبُه على كذا، وهو حسيبه، وذلك إذا كان صاحبَ حِسابه»[5].


[1] المقصد الأسمى (89) [دار البيروتي، ط1، 1424هـ].
[2] أحكام القرآن (2/809) [دار الجيل، 1407هـ].
[3] انظر: تفسير السعدي (947) [مؤسسة الرسالة، ط1].
[4] شأن الدعاء (70) [دار الثقافة العربية، ط1، 1404هـ].
[5] تفسير الطبري (8/591) [مؤسسة الرسالة، ط1].


ورد اسم الحاسب مرتين في القرآن بصيغة الجمع؛ وذلك في قوله تعالى: {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ *} [الأنعام] ، وقوله تعالى: {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ *} [الأنبياء] .



أثبت هذا الاسم لله تعالى جمع من أهل العلم؛ منهم: القرطبي[1]، وابن تيمية[2]، وابن الوزير[3]، ومحمد الحمود النجدي[4]. ولم يذكره غيرهم من العلماء.


[1] الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى (1/207) [دار الصحابة، ط1، 1416هـ].
[2] المستدرك على فتاوى ابن تيمية (1/47) [ط1، 1418هـ].
[3] إيثار الحق على الخلق (160) [دار الكتب العلمية، ط2].
[4] النهج الأسمى (1/345) [مكتبة الإمام الذهبي، ط1، 1413هـ].


المسألة الأولى: يدل اسم الحاسب على كمال علمه فلا يخفى عليه مثقال ذرة من أعمال خلقه:
قال تعالى: {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا *} [الجن] ، وقد كتب ذلك في اللوح المحفوظ، قال جلّ جلاله: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا *} [النبأ] ، وكتب ذلك قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة[1].
المسألة الثانية: من كمال محاسبته لعبده أنه لا يستطيع أحد أن يخفي عن الله شيئًا من أعماله:
فأوجب ذلك كمال الخوف والتعظيم، فلا سبيل إلى خداعه، ولا جدوى من الشرك أو الرياء أو النفاق، ولن ينفع الإنسان إلا ما أداه بإخلاص، فكل الأمور عند الله تعالى مقيمة ومقدرة.
المسألة الثالثة: يدلُّ هذا الاسم على أنه تعالى المحاسب على أعمال الناس في الدنيا:
فهو سبحانه الحسيب من حيث رقابته على تصرفات عباده فيما استخلفهم فيه من أموال وغيرها.
المسألة الرابعة: كما أنه سبحانه المحاسب في الدنيا، فكذلك هو المحاسب في الآخرة، ويندرج تحت هذا مسائل:
1 ـ إثبات الحساب في الآخرة، بمعنى: المجازي للخليقة عند قدومها بحسناتها وسيئاتها إما بالجنة وإما بالنار، «ومعنى الحساب: تعريف الله عباده مقادير الجزاء على أعمالهم، وتذكيره إياهم بما قد نسوه، بدليل قوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6] »[2]، والحساب هو المقصود من الإيمان باليوم الآخر، فإن الإيمان بالبعث معناه: الإيمان بيوم يرجع فيه الناس إلى الله فيحاسَبُون، فحقيقة الإيمان بالبعث هو الإيمان بالحساب؛ لأنه ما ثَمَّ شيء إلا سيحاسب الله جلّ جلاله عبده عليه.
2 ـ أن الله تعالى يتولى محاسبة عباده يوم القيامة، قال ابن زمنين: «ومن قول أهل السُّنَّة: أن الله عزّ وجل يحاسب عباده يوم القيامة ويسألهم مشافهة منه إليهم: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ *} [الشعراء] ، وهل يحاسب العباد إلا الذي خلقهم وتعبَّدهم، وأحصى أعمالهم وحفظها عليهم حتى يسألهم عنها، فيغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء، وهو العلي القدير»[3].
وقد دلَّت السُّنَّة أيضًا على هذه المسألة في أحاديث كثيرة، فمن ذلك حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله، ليس بينه وبينه ترجمان» [4]، ولا يعارضه قوله تعالى: {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة: 174] فالمعنى «لا يكلمهم بما يحبون، وقد يكلمهم ويسألهم عن أعمالهم، ويأخذ منهم» [5].
3 ـ أن المحاسبة على حقيقتها، وأنه تعالى يكلم العباد في أحوال أعمالهم وما لها من الثواب والعقاب، وليس كما يقوله أهل التأويل أنها «مجاز عن خلق علم ضروري فيهم بأعمالهم، وجزائها كمًّا وكيفًا، أو مجازاتهم عليها»[6].
4 ـ التفريق بين محاسبة المؤمن والكافر، «فمحاسبة الله للخلائق على نوعين؛ النوع الأول: للمؤمنين؛ والنوع الثاني: للكافرين؛ أما حساب المؤمنين: فإن الله سبحانه وتعالى يخلو بعبده المؤمن، ويقرره بذنوبه، ويقول له: «عملت كذا في يوم كذا» حتى يقر ويعترف، فيقول الله عزّ وجل له: «قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم» [7]؛ ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من نوقش الحساب عذب ؛ فقالت عائشة: يا رسول الله، أليس الله يقول: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا *} [الانشقاق] ، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ذلك العرض» [8]؛ أي: تعرض الأعمال على الشخص حتى يقر؛ فإذا أقر بها قال الله تعالى له: «سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم» ؛ وأما غير المؤمنين: فإنهم لا يحاسبون كذلك؛ وإنما الأمر كما قال شيخ الإسلام: «وأما الكفار، فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته، فإنه لا حسنات لهم، ولكن تعد أعمالهم وتحصى، فيوقفون عليها ويقررون بها ويجزون بها»[9].
المسألة الخامسة: ورود النصوص بأن الله تعالى أسرع الحاسبين:
جاءت تفاسير العلماء لأسرع الحاسبين؛ أي: أنه أسرع من حسب عددكم وأعمالكم وآجالكم وغير ذلك من أموركم أيها الناس، وأحصاها، وعرف مقاديرها ومبالغها؛ لأنه لا يحسب بعقد يد، ولكنه يعلم ذلك ولا يخفى عليه منه خافية، {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ *} [سبأ] [10].
والدليل عليه: قوله تعالى: {أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ *} [الأنعام] . وذكر القرطبي في تفسيره حديثًا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أثبت فيه اسم {أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ *} وعزاه لابن منده فقال: «خرج الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن منده في كتاب التوحيد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله تبارك وتعالى ينادي يوم القيامة بصوت رفيع غير فظيع: يا عبادي، أنا الله لا إله إلا أنا، أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين، وأسرع الحاسبين، يا عبادي، لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون»[11].
وقد أثبت اسم {أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ *} لله تعالى مجموعة من العلماء: نقله ابن العربي عن سفيان وابن شعبان[12] ولم يقره، وأثبته ابن تيمية[13]، وابن الوزير[14].
وأما من لم يثبته فكل من ذكر أسماء الله تعالى لم يعد {أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ *} اسمًا لله تعالى إلا ما تقدم ذكره، ولم يُذكر في إحصاء النسائي، وابن منده، والبيهقي، والأصبهاني، وابن حزم، وابن العربي، وابن حجر، وابن عثيمين وغيرهم.
المسألة السادسة: الدلالة على سرعة تحقق الوعد للصالحين والوعيد للكافرين وعدم تخلفهما:
قال ابن عطية: «{ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ *} [الأنعام] ؛ أي: ألا له الحساب، وهو أسرع من يحاسب فلا يتأخر جزاؤه، وهذا يتضمن وعدًا ووعيدًا؛ لأنه لما أتي بحرف المهلة في الجمل المتقدمة، وكان المخاطبون فريقين: فريق صالح وفريق كافر، وذكر أنهم إليه يرجعون كان المقام مقام طماعية ومخالفة؛ فالصالحون لا يحبون المهلة، والكافرون بعكس حالهم، فعُجلت المسرة للصالحين والمساءة للمشركين بقوله: {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ *} [الأنعام »[15].
المسألة السابعة: إن الله تعالى يحاسب الخلق يوم القيامة في وقت سريع، فهو أسرع الحاسبين:
ومما يدل على سرعة الحساب في ذلك اليوم أن الله سماه ساعة[16]، ولو كان غير الله عزّ وجل الحاكم بين خلقه لما قدروا عليه، ولاحتاجوا إلى خمسين ألف سنة، أو يكون مقداره على الكافر خمسين ألف سنة:
قد يتوهم متوهم أنه كيف يقال: إن الله تعالى أسرع الحاسبين وسريع الحساب، وقد وردت النصوص أن مدة يوم الفصل بين الخلائق ومحاسبتهم تبلغ خمسين ألف سنة، كما في قوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ *لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ *مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ *تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ *فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً *إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا *وَنَرَاهُ قَرِيبًا *يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ *وَتَكُونُ الْجِبِالُ كَالْعِهْنِ *وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا *} [المعارج] فهذه الآيات تتحدث عن يوم القيامة ومدته خمسين ألف سنة، كما هو ظاهر من السياق، وهو القول الراجح، فقد ذكر ابن كثير أربعة أقوال في المراد من اليوم، ومال إلى أن المراد به يوم القيامة[17]، وهو الراجح، بدليل ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار» [18]، وما جاء عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الآية: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ *} [المطففين] ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كيف بكم إذا جمعكم الله كما يجمع النبل في الكنانة خمسين ألف سَنَة، ثم لا ينظر الله إليكم؟!» [19].
والجواب عن ذلك: أنه لا تعارض بين كون الله تعالى أسرع الحاسبين وبين النصوص التي فيها أن مدةَ الحساب خمسون ألف سنة، وذلك بذكر الأجوبة التالية:
الجواب الأول: أن مدة حساب الله للخلائق من الكفار والمؤمنين قصيرة، ولو تولاها غيره لكانت طويلة حتى تبلغ خمسين ألف سنة:
قال البغوي: «وقيل معناه: لو ولي محاسبة العباد في ذلك اليوم غير الله لم يفرغ منه خمسين ألف سنة، وهذا معنى قول عطاء عن ابن عباس ومقاتل، قال عطاء: ويفرغ الله منه في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا، وروى محمد بن الفضل عن الكلبي قال: يقول: لو وَلّيت حسابَ ذلك اليوم الملائكةَ والجنَّ والإنسَ وطوقُتهم محاسبتَهم لم يفرغوا منه إلا بعد خمسين ألف سنة، وأنا أفرغ منها في ساعة واحدة من النهار»[20].
وقال ابن القيم: «ويوم القيامة إلى ربهم محشورون، وعند العرض عليه محاسبون بحضرة الموازين ونشر صحف الدواوين، أحصاه الله ونسوه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، لو كان غير الله عزّ وجل الحاكم بين خلقه، فالله يلي الحكم بينهم بعدله بمقدار القائلة في الدنيا وهو أسرع الحاسبين»[21].
وقال ابن عادل الحنبلي: «وإنما خاطبهم على قدرة فهم الخلائق، وإلا فلا يشغله شأن عن شأن، وكما يرزقهم في ساعة يحاسبهم في لحظة، والمعنى: لو ولي محاسب العباد في ذلك اليوم غير الله لم يفرغ منه في خمسين ألف سنة»[22].
الجواب الثاني: أن مدة حساب الله تعالى للمؤمنين قصيرة جدًّا، وأما على الكفار فهي طويلة جدًّا حتى تبلغ خمسين ألف سنة، وذلك من أجل زيادة عذابهم لا أن الله غير قادر على سرعة حسابهم. قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: {تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ *} [المعارج] ، قال: «فهذا يوم القيامة، جعله الله تعالى على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة»[23].
وقد وردت أحاديث في معنى ذلك؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقوم الناس لربِّ العالمين مقدار نصف يوم من خمسين ألف سنة، فيهون ذلك على المؤمن كتدلي الشمس للغروب، أو إلى أن تغرب»[24].
وقال إبراهيم التيمي: «ما قدر ذلك اليوم على المؤمن إلا ما قدر ما بين ظهر يومنا وعصره»[25].
المسألة الثامنة: إثبات حساب الله لخلقه في وقت قصير بلا مشقة فيه ولا تعب له سبحانه وتعالى ، فهو أسرع الحاسبين، وسريع الحساب:
قال ابن جرير: «هو أسرع من حسب عددكم وأعمالكم وآجالكم وغيرها من أموركم، أحصاها وعرف مقاديرها ومبالغها؛ لأنه لا يحسب بعقد يد، ولكنه يعلم ذلك، ولا يخفى عليه منه خافية، {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ *} [سبأ] »[26]، فكما أن خلقهم وبعثهم لا مشقة فيه قال تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ *} [لقمان] ، فكذلك حسابهم لا مشقة فيه ولا تأخير، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *} [يس] .
المسألة التاسعة: ورود النصوص بأن الله تعالى سريع الحساب:
اختلف العلماء في بيان معنى سرعة الحساب في قوله تعالى: {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ *} [البقرة] على قولين:
القول الأول: أن السرعة سرعة الزمن؛ بمعنى: أن حساب الله قريب[27]، كما في قوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ *} [الشورى] ، وقوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا *} [الأحزاب] ، قال ابن عطية: «وقيل معنى الآية: سريع مجيء يوم الحساب»[28]، وقال أبو منصور الأزهري: «وقوله تعالى: {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ *} [البقرة] ؛ أي: حِسَابُه واقع لا محالة، وكل واقع فهو سريع»[29].
القول الثاني: «أن المراد: سرعة محاسبة الله للخلق ـ أي: أن نفس حسابه سريع ـ، والثاني أبلغ؛ فإن الله عزّ وجل يحاسب الخلائق كلها في يوم واحد، ويعطي كل إنسان ما يستحقه من ذلك الحساب»[30]: قال ابن جرير: «فإنه جلّ ثناؤه سريع الحساب؛ يعني: سريع الإحصاء، وإنما معنى ذلك: أنه حافظ على كل عامل عمله، لا حاجة به إلى عقد كما يعقده خلقه بأكفِّهم، أو يعونه بقلوبهم، ولكنه يحفظ ذلك عليهم، بغير كلفة ولا مؤونة، ولا معاناة لما يعانيه غيره من الحساب»[31].
وقال البغوي: «يعني: إذا حاسب فحسابه سريع لا يحتاج إلى عقد يد ولا وعي صدر ولا إلى روية ولا فكر، قال الحسن: أسرع من لمح البصر»[32]، «وقيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: كيف يحاسب الله الخلائق في يوم؟ فقال: كما يرزقهم في يوم»[33].
وقال السعدي: «{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ *} [المائدة] ؛ كقوله تعالى: {إِقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ *} [الأنبياء] ، ويحتمل أن معناه: سريع المحاسبة فيحاسب الخلق في ساعة واحدة، كما يرزقهم ويدبرهم بأنواع التدابير في لحظة واحدة، لا يشغله شأن عن شأن وليس ذلك بعسير عليه»[34].
وزاد ابن الجوزي أقوالاً أخرى لمعنى الآية ـ ولعلها ترجع للقولين السابقين[35] ـ فقال: «وفي معنى سرعة الحساب خمسة أقوال؛ أحدها: أنه قلّته، قاله ابن عباس، والثاني: أنه قرب مجيئه، قال مقاتل، والثالث: أنه لما علم ما للمحاسب وما عليه قبل حسابه كان سريع الحساب لذلك، والرابع: أن المعنى: والله سريع المجازاة، ذكر هذا القول والذي قبله الزجاج، والخامس: أنه لا يحتاج إلى فكر وروية كالعاجزين، قاله أبو سليمان الدمشقي»[36].
وقد ورد اسم سريع الحساب في القرآن في ثمانية مواضع: منها قوله تعالى: {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ *} [البقرة: 202، والنور] ، وقال تعالى: {وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ *} [الرعد] ، وقال تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ *} [آل عمران] ، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ *} [آل عمران] .
وورد في السُّنَّة من حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه يقول: دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الأحزاب على المشركين فقال: «اللَّهُمَّ منزل الكتاب، سريع الحساب، اللَّهُمَّ اهزم الأحزاب، اللَّهُمَّ اهزمهم وزلزلهم»[37].
وقد أثبته ابن منده[38]، ونقله ابن العربي عن سفيان وابن شعبان[39] ولم يقره، والحليمي[40]، والبيهقي[41]، والقرطبي[42]، وابن تيمية[43]، وابن القيم[44].
وأما من لم يثبته فكل من ذكر أسماء الله تعالى لم يعد (سريع الحساب) اسمًا لله تعالى إلا ما تقدم ذكره، ولم يُذكر في إحصاء النسائي، والأصبهاني، وابن حزم، وابن العربي، وابن حجر، وابن الوزير، وابن عثيمين[45].


[1] جاء ذلك في حديث عبد الله بن عمرو في صحيح مسلم (كتاب القدر، الرقم 2653).
[2] تفسير القرطبي (2/435) [دار الكتب المصرية، ط2، 1384هـ].
[3] رياض الجنة (117) [مكتبة الغرباء الأثرية، 1415هـ].
[4] أخرجه البخاري (كتاب الرقاق، رقم 6539)، ومسلم (كتاب الزكاة، رقم 1016).
[5] رياض الجنة (119).
[6] روح المعاني (2/90) [دار إحياء التراث العربي]، وانظر: تفسير الرازي (1/839) [دار إحياء التراث العربي].
[7] أخرجه البخاري (كتاب، المظالم والغصب، رقم 2441)، ومسلم (كتاب التوبة، رقم 2768).
[8] أخرجه البخاري (كتاب الرقاق، رقم 6536)، ومسلم (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم 2876).
[9] مجموع الفتاوى (3/146) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1416هـ].
[10] انظر: تفسير الطبري (11/413) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والمحرر الوجيز (2/355) [دار الكتب العلمية، ط1، 1413هـ]، وتفسير البغوي (3/152) [دار طيبة، ط4، 1417هـ]، وتفسير القرطبي (7/7) [دار الكتب المصرية، ط2، 1384هـ].
[11] تفسير القرطبي (10/417) [دار الكتب المصرية، ط2]، كذا قال، والمعروف أن كتاب التوحيد لأبي عبد الله محمد بن إسحاق بن منده، وليس لأبي القاسم عبد الرحمن ابن منده.
[12] انظر: أحكام القرآن (2/805) [دار الجيل، 1407هـ].
[13] المستدرك على مجموع فتاوى ابن تيمية (1/47) [ط1، 1418هـ].
[14] إيثار الحق على الخلق (160) [دار الكتب العلمية، ط2].
[15] التحرير والتنوير (7/280) [الدار التونسية للنشر، 1984م].
[16] انظر: تفسير البحر المحيط (4/110) [دار الكتب العلمية، ط1، 1422هـ].
[17] تفسير ابن كثير (8/221 ـ 222) [دارطيبة، ط2].
[18] أخرجه مسلم (كتاب الزكاة، رقم 987).
[19] أخرجه الطبراني في الكبير (13/37) [مكتبة ابن تيمية، ط2]، والحاكم في المستدرك (كتاب الأهوال، رقم 8707) وصححه، وقال الهيثمي: «رجاله ثقات». مجمع الزوائد (7/135) [مكتبة القدسي]، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 2817).
[20] تفسير البغوي (8/221).
[21] اجتماع الجيوش الإسلامية (45) [دار الكتب العلمية، ط1، 1404هـ]، والأسماء والصفات (1/214) [مكتبة السوادي، ط1، 1413هـ].
[22] اللباب في علوم الكتاب (19/355) [دار الكتب العلمية، ط1، 1419هـ].
[23] أخرجه الطبري في تفسيره (23/602) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وعزاه ابن كثير في التفسير (8/222) لابن أبي حاتم، وعزاه صاحب الدر المنثور (8/279) [دارالفكر، 1993م] لابن المنذر والبيهقي في البعث والنشور.
[24] أخرجه أبو يعلى (10/415) [دار المأمون، ط1]، وابن حبان (كتاب إخباره صلّى الله عليه وسلّم عن مناقب الصحابة، رقم 7333) [مؤسسة الرسالة، ط2، 1414هـ]، وقال الهيثمي: في مجمع الزوائد (10/337) [مكتبة القدسي]: «رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح غير إسماعيل بن عبد الله بن خالد، وهو ثقة»، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (رقم 3589) [مكتبة المعارف، ط5].
[25] اللباب في علوم الكتاب (19/355).
[26] تفسير الطبري (11/413).
[27] انظر: تفسير القرآن لابن عثيمين (4/350).
[28] المحرر الوجيز (1/263) [دار الكتب العلمية، ط1].
[29] تهذيب اللغة (4/195)، وانظر: تفسير البغوي (1/233) [دار طيبة، ط4، 1417هـ]، وروح المعاني (3/107) [دار إحياء التراث العربي]، وفتح القدير (2/14)، ولسان العرب (1/314)، وتاج العروس (2/268) [دار الهداية].
[30] تفسير القرآن لابن عثيمين (4/350).
[31] تفسير الطبري (6/279) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وانظر: تفسير الطبري (4/207).
[32] تفسير البغوي (1/233).
[33] المحرر الوجيز (1/263).
[34] تفسير السعدي (428) [مؤسسةالرسالة، ط1]، وانظر: تفسير أبي السعود (1/210) [دار إحياء التراث العربي]، وروح المعاني (3/107).
[35] فالقول الثالث والرابع والخامس راجع للقول الأول، فإنها تعتبر علل لسرعة وقت الحساب، ولذلك اعتبرها السعدي قولين وعلل ببقية الأقوال لسرعة المحاسبة فقال في تفسير الآية: «أي: لا تستبطؤوا ذلك اليوم فإنه آت، وكل آت قريب. وهو أيضًا سريع المحاسبة لعباده يوم القيامة، لإحاطة علمه وكمال قدرته». تفسير السعدي (735).
[36] زاد المسير (1/216) [المكتب الإسلامي، ط4]، وانظر عرض هذه الأقوال في: تفسير القرطبي (2/287).
[37] أخرجه البخاري (كتاب الجهاد والسير، رقم 2933)، ومسلم (الجهاد والسير، رقم 1742).
[38] التوحيد (2/137) [مطابع الجامعة الإسلامية، ط1].
[39] انظر: أحكام القرآن (2/805) [دار الجيل].
[40] الأسماء والصفات (1/213) [مكتبة السوادي، ط1].
[41] المرجع السابق.
[42] الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى (207) [دار الصحابة، ط1، 1416هـ].
[43] المستدرك على فتاوى ابن تيمية (1 / 47).
[44] مدارج السالكين (2 / 195) [دار الكتاب العربي، ط2، 1393 هـ ].
[45] انظر: جدول مراجع أسماء الله الحسنى للغصن (350) [دار الوطن، ط2، 1420هـ].


وجوب الاستعداد على العباد لهذا الحساب، وأن يحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا، قال القرطبي: «فيأخذ العبد لنفسه في تخفيف الحساب عنه بالأعمال الصالحة، وإنما يخف الحساب في الآخرة على من حاسب نفسه في الدنيا»[1].


[1] تفسير القرطبي (2/435).


1 ـ «أسماء الله الحسنى»، لعبد الله الغصن.
2 ـ «الأسماء والصفات»، للبيهقي.
3 ـ «الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى» (ج1)، للقرطبي.
4 ـ «إيثار الحق على الخلق»، لابن الوزير.
5 ـ «رياض الجنة بتخريج أصول السُّنَّة»، لابن أبي زمنين.
6 ـ «شأن الدعاء»، للخطابي.
7 ـ «مجموع الفتاوى» (ج3)، لابن تيمية.
8 ـ «المستدرك على مجموع فتاوى ابن تيمية» (ج1).
9 ـ «معتقد أهل السُّنَّة والجماعة في أسماء الله الحسنى»، لمحمد بن خليفة بن علي التميمي.
10 ـ «المقصد الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى»، لزروق.
11 ـ «النهج الأسمى»، لمحمد الحمود.