حرف الحاء / الحد

           

الحد لغة: الحاجز بين الشيئين حتى لا يتعدى أحدهما على الآخر.
قال ابن فارس في مادة: «الحاء والدال أصلان: الأوّل المنع، والثاني طَرَف الشيء، فالحد: الحاجز بين الشيئين. وفلان محدود، إذا كان ممنوعًا»[1].
وقال ابن دريد: «والحد بين الشيئين: الفرق بينهما؛ لئلا يعتدي أحدهما على الآخر»[2]. وقال الأزهري: «وقال الليث: الحد الصرف عن الشيء من الخير والشر. وتقول للرامي: اللَّهُمَّ احدده؛ أي: لا توفقه للإصابة.
وتقول: حددت فلانًا عن الشر؛ أي: منعته»[3].
فالحد إذن هو الفاصل والمانع بين الشيئين، بحيث يتميز كل منهما عن الآخر بجوانبه وجهاته وصفاته.


[1] مقاييس اللغة (2/3) [دار الجيل، ط2، 1420هـ].
[2] جمهرة اللغة (1/95) [دار العلم للملايين، ط1].
[3] تهذيب اللغة (3/270) [دار إحياء التراث العربي، ط1، 2001م].


الحدُّ عند من أثبته لله من السلف هو: حد لله في نفسه، يتميز به عن غيره كبينونته من خلقه وعدم حلوله فيهم، واختلاطه معهم.
وعند من نفاه منهم فهو: العلم والإحاطة بكنه صفات الله. وعلى هذا تدل أقوال أهل العلم[1].


[1] انظر: شرح الطحاوية (1/263) [مؤسسة الرسالة، ط10]، ومجموع فتاوى ورسائل العثيمين (7/254) [دار الوطن، دار الثريا، ط1، 1413هـ].


الحدُّ لفظ مجمل فقد يطلق ويراد به: أن الله محدود يدرك العقل حده، ويحيط به المخلوق وهذا النوع باطل.
وقد يطلق ويراد به: أن الله بائن من خلقه غير حالٍّ فيهم. وهذا حق[1].


[1] انظر: شرح الطحاوية لابن أبي العز (1/263)، ومجموع فتاوى ورسائل العثيمين (7/254).


قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وهذا المحفوظ عن السلف والأئمة من إثبات حد لله في نفسه، قد بيَّنوا مع ذلك أن العباد لا يحدونه ولا يدركونه ولهذا لم يتناف كلامهم في ذلك كما يظنه بعض الناس فإنهم نفوا أن يحد أحد الله، كما ذكره حنبل عنه[1] في كتاب السُّنَّة والمحنة»، إلى أن قال: «إن لفظ الحد عند كل من تكلم به يراد به شيئان: يراد به حقيقة الشيء نفسه، ويراد به القول الدَّال عليه المميز له، وبذلك يتفق الحد الوصفي والحد القدري، كلاهما يراد به الوجود العيني والوجود الذهني، فأخبر أبو عبد الله: أنه على العرش بلا حد يحده أحد أو صفة يبلغها واصف، وأتبع ذلك بقوله: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام 103] بحدٍّ ولا غاية، وهذا التفسير الصحيح للإدراك به؛ أي: لا تحيط الأبصار بحدِّه ولا غايته، ثم قال: {وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام 103] وهو عالم الغيب والشهادة ليتبين أنه عالم بنفسه وبكل شيء»[2].
وقال ابن أبي العز الحنفي: «ومن المعلوم أن الحد يقال على ما ينفصل به الشيء ويتميز به عن غيره، والله تعالى غير حالٍّ في خلقه، ولا قائم بهم؛ بل هو القيوم القائم بنفسه، المقيم لما سواه. فالحد بهذا المعنى لا يجوز أن يكون فيه منازعة في نفس الأمر أصلاً، فإنه ليس وراء نفيه إلا نفي وجود الرب ونفي حقيقته. وأما الحد بمعنى العلم والقول، وهو أن يحده العباد، فهذا منتف بلا منازعة بين أهل السُّنَّة»[3].
وقال ابن عثيمين رحمه الله: «أن الحدَّ تارة يراد به أن الله محدود يدرك العقل حده وتحيط به المخلوقات فهذا باطل. وتارة يراد به أنه بائن من خلقه غير حال فيهم فهذا صحيح. وبذلك تعرف أن نفي الحد وإثباته على وجه الإطلاق لا ينبغي، على أن السلامة هي أن يقال: إن الحدَّ لا يضاف إلى الله إطلاقًا لا على سبيل وجه النفي، ولا على وجه الإثبات، لكن معناه يستفصل فيه، ويثبت الحق منه ويبطل الباطل. والله أعلم»[4].


[1] أي: عن الإمام أحمد.
[2] بيان تلبيس الجهمية (3/706 ـ 708).
[3] شرح الطحاوية (1/263).
[4] مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (7/254).


المسألة الأولى: استعمال السلف للفظ (الحدّ):
جاء عن السلف في الحد استعمالان:
الاستعمال الأول: نفي أن يحد الرب عزّ وجل كما فعل المشبهة، مثل ما جاء عن إمام أهل السُّنَّة والجماعة الإمام أحمد رحمه الله لما سئل عن المشبهة من هم؟ قال: «من قال: بصر كبصري ويد كيدي وقال حنبل في موضع آخر: وقدم كقدمي، فقد شبه الله تعالى بخلقه، وهذا يحده، وهذا كلام سوء وهذا محدود، والكلام في هذا لا أحبه»[1].
قال شيخ الإسلام موجهًا هذا الكلام: «فهذا الكلام من الإمام أبي عبد الله أحمد رحمه الله يبيِّن: أنه نفى أن العباد يحدون الله تعالى، أو صفاته بحد، أو يُقدِّرون ذلك بقدر، أو أن يبلغوا إلى أن يصفوا ذلك، وذلك لا ينافي ما تقدم من إثبات أنه في نفسه له حد يعلمه هو، لا يعلمه غيره، أو أنه هو يصف نفسه، وهكذا كلام سائر أئمة السلف يثبتون الحقائق وينفون علم العباد بكنهها»[2].
الاستعمال الثاني: إثبات الحد للرد به على المعطلة مثل ما جاء عن عبد الله بن المبارك أنه قال: «الرب تبارك وتعالى على السماء السابعة على العرش، قيل له: بحد ذلك؟ قال: نعم هو على العرش فوق سبع سماوات»[3].
فالحد المثبت: هو الذي بمعنى ما ينفصل به الشيء ويتميز عن غيره، وهذا حق؛ فإن الله تبارك وتعالى غير حالٍّ في خلقه ولا مختلط بهم؛ بل هو تعالى منفصل عن خلقه بائن عنهم عالٍ على عرشه. قال ابن أبي العز رحمه الله بعد ما ذكر نحو ما تقدم: «فالحد بهذا المعنى لا يجوز أن يكون فيه منازعة في نفس الأمر أصلاً، فإنه ليس وراء نفيه إلا نفي وجود الرب ونفي حقيقته»[4].
المسألة الثانية: مراد أهل السُّنَّة بقولهم: (لا يحدون):
روى البيهقي بسنده عن أبي داود الطيالسي أنه قال: «كان سفيان الثوري وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحدون ولا يشبهون ولا يمثلون»[5].
وقال ابن عبد البر: «أهل السُّنَّة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسُّنَّة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلا أنهم لا يكيفون شيئًا من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة»[6].
فالحد المنفي: هو الذي بمعنى العلم والإحاطة بكنه صفات الخالق عزّ وجل، وهذا أمر لا نزاع فيه بين أهل السُّنَّة قال تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255] .
قال ابن أبي العز رحمه الله: «إن السلف متفقون على أن البشر لا يعلمون لله حدًّا وأنهم لا يحدون شيئًا من صفاته»[7].
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: «وهذا المحفوظ عن السلف والأئمة من إثبات حد لله في نفسه، قد بيَّنوا مع ذلك أن العباد لا يحدونه ولا يدركونه؛ ولهذا لم يتناف كلامهم في ذلك كما يظنه بعض الناس، فإنهم نفوا أن يحد أحد الله»[8].
ثم إن استعمال السلف للفظ الحد: أولاً: كان من باب الإخبار، وليس من باب الصفات. ثانيًا: كان من باب الرد على الجهمية حيث زعموا أنه تعالى لا حدَّ له. وما كان كذلك لا يباين المخلوقات ولا يكون فوق سائر البريات، ولا مستوٍ على العرش، فاستعمل السلف لفظ الحد لما فيه من الرد على هؤلاء الجهمية فيما زعموا، ولما في معنى الحد من إثبات علو الله على خلقه، واستوائه على عرشه[9].


[1] أورده ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية (2/627).
[2] بيان تلبيس الجهمية (2/628).
[3] التمهيد لابن عبد البر (7/142) [وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب، 1387هـ]، وانظر: الأسماء والصفات للبيهقي (2/335) [مكتبة السوادي، ط1].
[4] شرح الطحاوية (1/263).
[5] الأسماء والصفات للبيهقي (2/334 ـ 335).
[6] التمهيد (7/145).
[7] شرح الطحاوية لابن أبي العز (1/262).
[8] بيان تلبيس الجهمية (3/706).
[9] انظر: بيان تلبيس الجهمية (3/43)، وتعليق الدكتور محمد باكريم على رسالة الإمام السجزي إلى أهل زبيد (198 هامش رقم 4) [عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، ط2، 1423هـ]، ومقدمة تحقيق كتاب العرش للتميمي (1/223 ـ 230) [أضواء السلف، ط1، 1420هـ]، وموقف ابن تيمية من الأشاعرة (3/1216 ـ 1217) [مكتبة الرشد، ط1، 1415هـ]، والآثار الواردة عن الإمام الثوري في العقيدة جمعًا ودراسة (125).


تقدم الحديث عن استعمال السلف للفظ (الحد) للردِّ به على فريقَي التشبيه والتعطيل، الذين تشبثوا بلفظ الحد وأدخلوا فيه المعاني الفاسدة، فقد أثبته المشبهة وقصدوا به معرفة حد الله في استوائه على عرشه، وعلم كيفيته[1].
وأما المعطلة فقد توهموا في إثبات صفة الاستواء على العرش أن يكون الرب تعالى محدودًا مشابهًا لاستواء المخلوق، فنفوا عنه الحد فوقعوا في التعطيل والجحد[2].


[1] مقالات الإسلاميين للأشعري (33) [مكتبة النهضة المصرية، ط2، 1389هـ].
[2] انظر: الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (5) [دار الكتب العلمية، ط1، 1403هـ].


لا شكَّ أن صنيع كلٍّ من المشبهة الذين ادعوا معرفة كنه الصفات ثم حملوها على ما يعرفونه من صفات المخلوقين، والمعطلة الذين نفوا الصفات فرارًا من التشبيه الذي توهموه من سماع الصفات الإلهية هو صنيع فاسد لعدة أمور؛ منها:
أولاً: أنه مناقض لدلالة الشرع على الإثبات مع التنزيه، كما قال الله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ *} [الشورى] .
ففي قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ردٌّ على المشبهة وإبطال لعقيدة التشبيه بين الخالق والمخلوق في حقائق الصفات، وفي قوله سبحانه: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ *} ردَّ على المعطلة النفاة. وهكذا اشتملت الآية الكريمة على إبطال مذهب المشبهة الضلال، ومذهب المعطلة النفاة.
ثانيًا: أنه قول على الله بلا علم، وقفو بغير برهان، وهو منهي عنه غاية النهي كما قال الله سبحانه: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً *} [الإسراء] .
ثالثًا: أن كل موجود لا بدَّ له من صفة يكون عليها، وادعاء وجود موجود مجرد عن أي صفة ثبوتية، لا وجود له في الخارج؛ بل هو نفي لوجوده[1].
رابعًا: أن الحدَّ الذي أثبته السلف لله هو بمعنى علو الله على عرشه ومباينته لخلقه وعدم حلوله واختلاطه معهم، وتميزه عنهم بصفاته وخصائصه. وليس وراء نفي هذا كله عن الله إلا نفي وجوده وحقيقته[2].


[1] انظر: نقض الدارمي على المريسي (1/223 ـ 224) [مكتبة الرشد، الرياض، ط1، 1418هـ].
[2] انظر: درء تعارض العقل والنقل (2/57)، وشرح الطحاوية لابن أبي العز (1/263).


1 ـ «إثبات الحدّ لله تعالى»، لمحمود بن قاسم الدشتي.
2 ـ «اجتماع الجيوش الإسلامية»، لابن القيم.
3 ـ «بيان تلبيس الجهمية»، لابن تيمية.
4 ـ «درء تعارض العقل والنقل»، لابن تيمية.
5 ـ «شرح العقيدة الطحاوية»، لابن أبي العز الحنفي.
6 ـ «مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين».
7 ـ «مقالة التشبيه وموقف أهل السُّنَّة منها»، لجابر إدريس.
8 ـ «مقدمة تحقيق كتاب العرش»، لمحمد بن خليفة التميمي.
9 ـ «موقف ابن تيمية من الأشاعرة»، لعبد الرحمن بن صالح المحمود.
10 ـ «نقض الإمام عثمان بن سعيد الدارمي على المريسي الجهمي العنيد»، للدارمي.