حرف الحاء / حديث الآحاد

           

الآحاد لغة: جمع واحد. وقيل: جمع أَحَد؛ كالأحجار جمع حجر، والأصل في (أحد): وَحد، بالواو، فأبدلت الواو بالهمزة، والأحد بمعنى الواحد[1].
قال ابن فارس: «الواو والحاء والدال: أصلٌ واحد يدلُّ على الانفراد... والواحد: المنفرد»[2].
وخبر الواحد في اللغة: هو ما يلقيه ويرويه شخص واحد، وعليه فخبر الآحاد ما يرويه مجموعة قليلة؛ لأن صيغة (آحاد) من صيغ جموع القلَّة.


[1] انظر: مقاييس اللغة (1/67)، وتهذيب اللغة (5/126)، والقاموس المحيط (338) [مؤسسة الرسالة]، ولسان العرب (3/70).
[2] مقاييس اللغة (6/90)، وانظر: تهذيب اللغة (5/124).


خبر الآحاد هو: ما لم يجمع شروط التواتر من الأخبار[1].
ولذا؛ فمعرفة المراد بخبر الآحاد، لا تكون إلا بمعرفة قَسِيمه، وهو (المتواتر).
والمتواتر قد عرَّفه جمع من علماء أصول الفقه ومصطلح الحديث بأنه: ما رواه جماعة يستحيل في العادة تواطئهم على الكذب عن مثلهم، وأسندوه إلى شيء محسوس[2].


[1] انظر: الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي (16) [المكتبة العلمية]، ونزهة النظر لابن حجر (53 ـ 56) [دار ابن الجوزي، ط1، 1413هـ]،.
[2] انظر: نزهة النظر (53 ـ 56)، والإحكام للآمدي (2/14 ـ 31) [دار الكتاب العربي، ط1، 1404هـ]، وشرح الكوكب المنير (2/323 ـ 324، 345) [مكتبة العبيكان، 1413هـ].


ما يفيده خبر الآحاد:
اختلف العلماء فيما يفيده خبر الآحاد، هل يفيد العلم مطلقًا[1]، أو الظن مطلقًا، أو أنه يفيد العلم اليقيني بالقرائن.
والقول الصحيح والذي عليه عامة الفقهاء وأكثر المتكلمين[2]: أن خبر الآحاد يفيد اليقين إذا احتفت به القرائن[3]، ومن القرائن المعتبرة في ذلك:
1 ـ تلقي الأمة له بالقبول، فهذا يوجب القطع بصحته؛ لأن الأمة لا تجمع على ضلالة.
والمقصود بالأمة هنا: أهل العلم بالحديث، فإذا اتفقوا على تصحيح حديثٍ ما قطعنا بصحته، فإن إجماعهم معصوم[4].
وقد بيَّن السمعاني أن هذا القول هو قول عامة السلف، فقال: «إن الخبر إذا صح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ورواه الثقات والأئمة، وأسنده خلفهم عن سلفهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتلقته الأمة بالقبول، فإنه يوجب العلم فيما سبيله العلم، هذا قول عامة أهل الحديث، والمتقنين من القائمين على السُّنَّة»[5].
وقد قرر ابن تيمية أن «خبر الواحد المُتَلَقَّى بالقبول يوجب العلم عند جمهور العلماء من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وهو قول أكثر أصحاب الأشعري؛ كالاسفراييني، وابن فورك»[6].
بل بيَّن رحمه الله أن مثل هذا الخبر هو في منزلة المتواتر[7]، ونص على أن هذا القول هو مذهب «جمهور أهل العلم من جميع الطوائف وهو الذي ذكره المصنفون في أصول الفقه من أصحاب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي وأحمد، إلا فرقة قليلة من المتأخرين اتَّبعوا في ذلك طائفة من أهل الكلام أنكروا ذلك، ولكن كثيرًا من أهل الكلام أو أكثرهم يوافقون الفقهاء وأهل الحديث والسلف في ذلك»[8].
ومما يدخل فيما تلقته الأمة بالقبول: أن يكون الحديث متفقًا عليه بين البخاري ومسلم، أو رواه أحدهما؛ لأن جمهور أحاديث «الصحيحين» قد تلقتها الأمة بالقبول، وأئمة الحديث يعلمون علمًا قطعيًّا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد قالها، وسائر الناس تبع لهم في ذلك، ويستثنى من ذلك أحاديث قليلة فيهما قد انتقدها بعض الحفاظ، وأحاديث قد وقع التجاذب بين مدلوليها ولم يظهر الترجيح[9].
2 ـ ومن القرائن: أن يكون الحديث مستفيضًا مشهورًا، إذا كانت له طرق متباينة سالمة من ضعف الرواة والعلل.
3 ـ ومن القرائن: أن يكون الحديث مسلسلاً بالحفاظ المتقنين[10].


[1] وهذا قول غاية في الضعف، وإنما ذُكِرَ هنا لأن كتب أصول الفقه تذكره، والتحقيق والله أعلم أنه لم يقل به أحد، كما قال ابن تيمية في المسودة (220) [دار المدني، القاهرة]: «إن أحدًا من العقلاء لم يقل إن خبر كل واحد يفيد العلم»، وانظر: شرح الأصفهانية (1/92) [رسالة دكتوراه من قسم العقيدة، بجامعة الإمام].
[2] انظر: رفع الملام (مجموع الفتاوى ـ 20/257).
[3] ممن قرر ذلك: الإمام ابن الصلاح في علوم الحديث (25) [المكتبة العلمية بالمدينة المنورة، ط2، 1972م]، وابن حزم في الإحكام (1/108) [دار الحديث، ط1، 1404هـ]، وابن قدامه، والطوفي، وابن حمدان، وابن الزاغوني، كما في شرح الكوكب المنير (2/348)، والآمدي في الإحكام (2/32)، وابن كثير في الباعث الحثيث (33) [دار الكتب العلمية، ط1403هـ]، وابن حجر في النكت على ابن الصلاح (1/371) [نشر الجامعة الإسلامية، ط1].
[4] انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (18/17).
[5] الانتصار لأصحاب الحديث (34) [مكتبة أضواء المنار، ط1، 1417هـ].
[6] مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (18/40 ـ 41)، وانظر: الصواعق المرسلة (2/372 ـ 373).
[7] مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (18/48).
[8] مقدمة التفسير ضمن مجموع الفتاوى (13/351).
[9] انظر: مقدمة ابن الصلاح (14، 15)، ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (1/257) (13/350، 351) (18/17، 49)، وفتح المغيث (1/51) [دار الكتب العلمية، ط1، 1403هـ]، وتدريب الراوي (1/134) [دار إحياء السُّنَّة النبوية، ط2، 1399هـ]، ونزهة النظر (9، 74 ـ 75)، وتوضيح الأفكار (1/123 ـ 125) [مكتبة الخانجي، ط1، 1366هـ]، وإرشاد الفحول (49، 50) [دار المعرفة، 1399هـ]، وشرح نخبة الفكر للقاري (42 ـ 43) [دار الكتب العلمية، 1398هـ].
[10] انظر: نزهة النظر (76).


دلَّ على حجية خبر الآحاد في الاعتقاد والأعمال أدلة كثيرة، ومنها:
1 ـ قوله تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ *} [التوبة] .
ووجه الدلالة: أن الله أمر الطائفة النافرة بالتفقه في الدين، ثم إنذار قومهم إذا رجعوا إليهم، والنذارة بكل ما جاء به الشارع من أمور الاعتقاد والأحكام.
ومن المعلوم أن الطائفة تطلق على العدد القليل الذي لم يبلغ عدد التواتر الذي اشترطوه؛ بل يطلق على الواحد، كما قال مجاهد في هذه الآية: «الطائفة رجل»[1]، وقال ابن عباس في قوله تعالى: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} [التوبة: 66] قال: «الطائفة: الرجل والنفر»[2].
2 ـ ما اشتهر واستفاض بالنقل المتواتر من بعثه النبي صلّى الله عليه وسلّم آحاد الصحابة إلى النواحي والأمصار بالدعوة إلى الإسلام، وتبليغ أحكامه وعقائده وشرائعه؛ كبعثهِ أبا بكر رضي الله عنه على الحاج، وبعثِه عليًّا رضي الله عنه قاضيًا إلى اليمن، وبعثه معاذًا رضي الله عنه إلى اليمن داعيًا للإسلام، وغير ذلك من الوقائع[3].
وقد كان هؤلاء الصحابة موكلون بنقل الشريعة بعقائدها وأحكامها؛ بل كانت العقائد أول ما أمروا بالدعوة إليه، كما في حديث بعثة معاذ رضي الله عنه، حيث قال له صلّى الله عليه وسلّم: «فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحِّدوا الله» [4].
3 ـ بعثه صلّى الله عليه وسلّم الكتب للملوك في زمانه، والتي دعاهم فيها إلى الإسلام وأصول العقيدة، وقد كانت هذه الكتب تكتب من شخص واحد، ويحملها شخص واحد، ومع ذلك فقد قامت بها الحجة ولا شك، ولو كانت العقائد موقوفة على من يبلغون حد التواتر وشرطه، لبعث إلى كل ملك جماعة متفرقين يبلغون حد التواتر، ويستحيل تواطؤهم على الكذب، وهذا ما لم يقع قطعًا، فعلم بذلك أن خبر الواحد الثقة حجة في العقائد[5].


[1] انظر: تفسير ابن أبي حاتم (6/1912) [المكتبة العصرية، ط1].
[2] رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (6/1831).
[3] انظر: الرسالة للإمام الشافعي (413 ـ 415).
[4] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، رقم 7372) واللفظ له، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 19).
[5] انظر: العدة (3/863 ـ 864)، والإحكام لابن حزم (1/109 ـ 110)، وأخبار الآحاد في الحديث النبوي لابن جبرين (123 ـ 128) [دار عالم الفوائد، ط1].


قال الإمام الشافعي: «لم أحفظ عن فقهاء المسلمين اختلفوا في تثبيت خبر الواحد»[1].
وبوَّب البخاري لذلك فقال: «ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق»، وذكر فيه خمسة عشر حديثًا.
قال ابن حجر: «المراد بالإجازة: جواز العمل به والقول بأنه حجة، وقصد بالترجمة الرد على من يقول: إن خبر الواحد لا يحتج به إلا إذا رواه أكثر من شخص واحد يصير كالشهادة ويلزم منه الرد على من شرط أربعة أو أكثر»[2].
وقال ابن عبد البر: «ليس في الاعتقاد كله في صفات الله وأسمائه إلا ما جاء منصوصًا في كتاب الله، أو صحَّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو أجمعت عليه الأمة، وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كله أو نحوه يسلم له، ولا يناظر فيه»[3].
وقال ابن بطال: «انعقد الإجماع على القول بالعمل بأخبار الآحاد»[4].


[1] الرسالة للإمام الشافعي 457) [دار الكتب العلمية].
[2] فتح الباري (13/233) [دار المعرفة].
[3] فتح الباري (13/321).
[4] جامع بيان العلم وفضله (2/96) [دار الكتب العلمية، 1398هـ].


خبر الآحاد ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
1 ـ المشهور، وهو: ما له طرق محصورة بأكثر من اثنين.
2 ـ العزيز: وهو أن لا يرويه أقل من اثنين عن اثنين.
3 ـ الغريب، وهو ما يتفرد بروايته شخص واحد في أي موضع وقع التفرد به من السند.
وأخبار الآحاد ـ بأقسامها الثلاثة السابقة ـ تنقسم ـ من حيث القبول والردّ ـ إلى صحيح وحسن وضعيف[1]، وثمة تقسيمات أخرى لعلماء المصطلح والأصول ليس هذا موطنها.


[1] انظر: نزهة النظر (62 ـ 71).


المسألة الأولى: حجية الصحيح من أخبار الآحاد في مسائل الاعتقاد:
بما سبق تقريره يتبين لنا أن خبر الآحاد إذا صحَّ كان حجة في مسائل الاعتقاد، فإن كل حديث صح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في العقيدة وجب اعتقاد ما يدل عليه، آحادًا كان أو متواترًا، هذا ما اتفق عليه أهل السُّنَّة والجماعة.
وقد حكى ابن عبد البر الإجماع على ذلك، فقال رحمه الله: «أكثر أهل الفقه والأثر... كلهم يدين بخبر الواحد العدل في الاعتقادات، ويعادي ويوالي عليها، ويجعلها شرعًا ودينًا في معتقده، على ذلك جماعة أهل السُّنَّة»[1].
وقد تقدم كلام السمعاني وابن تيمية في أن ما تلقته الأمة بالقبول أفاد العلم اليقيني، وكان محتجًّا به في مسائل الاعتقاد.
ومع ذلك فيقال أيضًا: إن خبر الآحاد حتى لو خلا من إحدى القرائن السابقة التي تجعل خبر الآحاد مفيدًا للعلم اليقيني، وكان خبر الآحاد صحيحًا أو حسنًا ويفيد غلبة الظن، فإن ذلك الخبر يكون حجة في مسائل الاعتقاد أيضًا.
يقول ابن القيم: «إن هذه الأخبار لو لم تفد اليقين، فإن الظن الغالب حاصل منها، ولا يمتنع إثبات الأسماء والصفات بها، كما لا يمتنع إثبات الأحكام الطلبيَّة بها، ولم تزل الصحابة والتابعون وتابعوهم وأهل الحديث والسُّنَّة يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الصفات والقدر والأسماء والأحكام، ولم ينقل عن أحد منهم البتة أنه جوَّز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الأخبار عن الله وأسمائه وصفاته...»[2].
فما كانت دلالته قطعية من أخبار الآحاد في العقائد قطعنا بموجبه، وما كان راجحًا ـ لا قاطعًا ـ قلنا بموجبه، فلا نقطع في النفي ولا الإثبات إلا بدليل يوجب القطع، وإذا قام دليل يرجح أحد الجانبين بيَّنا رجحان أحد الجانبين[3].
المسألة الثانية: وجوب العمل بخبر الواحد:
وهذا قول جمهور الأمة؛ بل عليه إجماع السلف قاطبة، وإنما حدث الخلاف فيه بعد ظهور علم الكلام، وبقي الخلاف قولاً شاذًّا لشراذم من أهل البدع. وتقدمت الإشارة إلى أدلة ذلك[4].


[1] التمهيد (1/8) [طبعة وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب، 1387هـ].
[2] مختصر الصواعق (2/412) [مكتبة الرياض الحديثة].
[3] انظر: درء التعارض (3/383 ـ 384) [دار الكتب العلمية، 1417هـ].
[4] انظر: قواطع الأدلة (1/335 ـ 338) [دار الكتب العلمية، 1418هـ]، والمسودة لآل تيمية (215 ـ 225) [دار المدني]، والتحبير شرح التحرير (4/1828، وما بعدها) [مكتبة الرشد، ط1، 1421هـ]، وانظر: أخبار الآحاد في الحديث النبوي لابن جبرين.


أولاً: موقف المتكلمين من إفادة خبر الآحاد للعلم:
تقدَّم البيان بأن الآحاد خلاف المتواتر، وأن المتواتر عُرِّف عند جمع من الأصوليين والمتكلمين بأنه: ما رواه جماعة يستحيل في العادة تواطئهم على الكذب عن مثلهم، وأسندوه إلى شيء محسوس.
وهذا التعريف للمتواتر منتقَد، وهو حدٌّ قاصر وضعيف؛ بل الحق أن كل ما أفاد علمًا لسامعه سُمِّيَ متواترًا، وإفادة الخبر للعلم قد يكون من كثرة عدد المخبرين به (كما في حد المتكلمين للمتواتر)، وقد يحصل بأمور أخرى؛ كصفات المُخبرين، وتمام ديانتهم، وعلوِّ ضبطهم وإمامتهم في الحفظ، وقد يحصل بقرائن أخرى تفيد العلم اليقيني بمجموعها، ويحصل كذلك بأن تتلقاه الأمة بالقبول، تصديقًا له، أو عملاً به، فمثل هذا يفيد العلم عند جماهير الخلف والسلف[1].
ثم إن استفادة العلم من أي خبر يختلف فيها الناس، ما بين عالم وجاهل، فأئمة الفقه والحديث قد تواتر عندهم من السُّنَّة ما لم يتواتر عند غيرهم، فمن حصل له العلم من الخبر وجب عليه التصديق به، ولمن لم يحصل عنده العلم به من العامة فعليه أن يسلم ذلك لأهل العلم بالسُّنَّة، الذين أجمعوا على صحته[2].
ثانيًا: موقف المتكلمين من إفادة خبر الآحاد في مسائل الاعتقاد:
بناء على ما سبق، فقد ذهب كثير من المتكلمين، من المعتزلة، وكثير من الأشعرية وغيرهم، إلى أن خبر الآحاد إنما يفيد الظن دون العلم، وبنوا على ذلك عدم الاحتجاج به في الاعتقاد، فردوا تبعًا لذلك نصوصًا كثيرة من نصوص العقائد بناء على كونها من أخبار الآحاد، وأنه لا يحتج بالآحاد في الاعتقاد[3].
ولا شكَّ أن هذا القول قول مبتدع في الأمة، قد اخترعه المعتزلة، ثم انتقل بعدهم إلى كثير من المتكلمين والفقهاء، كما قرر ذلك الإمام السمعاني بقوله: «هذا القول الذي يذكر أن خبر الواحد لا يفيد العلم بحال ولا بد من نقله بطريق التواتر لوقوع العلم به: شيء اخترعته القدرية والمعتزلة، وكان قصدهم منه رد الأخبار، وتلقفه منهم بعض الفقهاء الذين لم يكن لهم في العلم قدم ثابت، ولم يقفوا على مقصودهم من هذا القول»[4].
فالتفريق بين الآحاد والمتواتر في إفادة العلم أمر لم يعرفه الصحابة والتابعون، فإن رسل الله عليهم الصلاة والسلام قد صدقهم المؤمنون فيما أخبروا به دون حاجة إلى تواتر المخبرين[5]، وكذلك الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان يصدق أصحابه فيما يخبرون به، وكذا الصحابة كان يصدق بعضهم بعضًا فيما يخبرون به عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولم يثبت أن أحدًا منهم قال لما حدَّثه: خبرك خبر واحد، لا يفيد العلم حتى يتواتر، وكذا التابعون يلتقون بالصحابة ويأخذون عنهم العلم ويصدقونهم فيه دون طلب التواتر المزعوم، فالقول بعدم إفادة خبر الآحاد التواتر خرق لإجماع الصحابة والتابعين فمن بعدهم من أئمة الإسلام[6].
وهذا القول المبتدع يلزم عليه لوازم باطلة، منها:
مضادة الأدلة البينة التي سبق إيرادها في لزوم الأخذ بأخبار الآحاد في الاعتقاد، من أدلة الكتاب والسُّنَّة، وعمل النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه من بعده بقبولها في العمل والاعتقاد.
كما أن الرد لأخبار الآحاد في الاعتقاد يلزم عليه الطعن في رواتها، ولازم ذلك الطعن في الشريعة، مما يؤدي لزوال الدين، إذ إن رواة هذه الأخبار هم رواة الأحكام، وعليهم الاعتماد في بيان الحلال والحرام في الدين[7].
ثم إن هذه الأحاديث قد اتفق الحفاظ على نقلها وروايتها وتخريجها في الصحاح والمسانيد وتدوينها في الدواوين وحكم الحفاظ عليها بالصحة، وعلى رواتها بالإتقان والعدالة، فطرحها مخالف للإجماع، خارج عن أهل الاتفاق، فلا يلتفت إليه ولا يعرج عليه[8].
ثم إن رد أخبار الآحاد الصحيحة في الاعتقاد وقبولها في الشرائع العملية فيه تناقض واضح، فإن عمل الإنسان بأحد الشرائع لا بد وأن يصحبه اعتقاد بمشروعيته، والثواب على فعله، والعقاب على تركه إن كان واجبًا، وكل هذه أمور اعتقادية ملازمة للأمور العملية، فالتفريق بينهما تناقض[9].


[1] مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (18/48 ـ 51) [مكتبة ابن تيمية، ط2].
[2] انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (18/51).
[3] انظر من كتب الأشاعرة: مشكل الحديث وبيانه لابن فورك (22)، والتمهيد للباقلاني (381 ـ 386)، وأصول الدين للبغدادي (12، 18)، والإرشاد للجويني (161، 359، 416) [مكتبة الخانجي، 1369هـ]، والشامل له (100، 557)، وأساس التقديس للرازي (168، 215)، ومن كتب المعتزلة: الانتصار لابن الخياط (120) [مكتبة الثقافة الدينية]، وشرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار المعتزلي (269، 672، 690، 769) [مكتبة وهبة، ط2].
[4] الانتصار لأصحاب الحديث (35).
[5] انظر: الرسالة للإمام الشافعي (436 ـ 437).
[6] انظر: مختصر الصواعق المرسلة (2/361 ـ 362).
[7] انظر: تحريم النظر في علم الكلام لابن قدامة (56 ـ 57).
[8] انظر: تحريم النظر في علم الكلام لابن قدامة (56).
[9] انظر: موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسُّنَّة لسليمان الغصن (1/227 ـ 229) [دار العاصمة، ط1، 1316هـ].


1 ـ «أخبار الآحاد في الحديث النبوي»، لابن جبرين.
2 ـ «الأدلة والشواهد على وجوب الأخذ بخبر الواحد في الأحكام والعقائد»، لسليم الهلالي.
3 ـ «حجية خبر الآحاد في العقائد والأحكام»، لعبد الله عبد الرحمن الشريف.
4 ـ «خبر الآحاد وحجيته في إثبات العقيدة»، لعبد الله السرحاني، [أطروحة دكتوراه في جامعة أم القرى] .
5 ـ «خبر الواحد وحجيته»، لأحمد الشنقيطي.
6 ـ «الرسالة»، للإمام الشافعي.
7 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.
8 ـ «مختصر الصواعق المرسلة»، للموصلي.
9 ـ «موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسُّنَّة»، لسليمان بن صالح الغصن.
10 ـ «وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة والرد على شبه المخالفين»، للألباني.