الحساب: العدّ والإحصاء.
قال ابن فارس: «حسب: الحاء والسين والباء أصول أربعة، فالأول: العدّ. تقول: حسبتُ الشيءَ أحْسُبُه حَسْبًا وحُسْبانًا»[1]، وقال الأزهري: «الحَسْبُ: العَدُّ والإحصاء»[2]، و«الحِسابُ والحِسابة: عَدُّك الشيءَ»[3].
[1] مقاييس اللغة (2/59) [دار الفكر، 1399هـ].
[2] تهذيب اللغة (4/191) [دار إحياء التراث العربي].
[3] لسان العرب (1/313) [دار صادر، ط3، 1414هـ].
الحساب: هو تعريف الله عباده مقادير الجزاء على أعمالهم، وتذكيره إيّاهم بما قد نسوه من ذلك بدليل قوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6] [1].
وقيل: توقيف الله عباده قبل الانصراف من المحشر على أعمالهم، خيرًا كانت أو شرًّا تفصيلاً[2].
[1] انظر: الجامع لأحكام القرآن (2/435) [دار إحياء التراث العربي]، ولوائح الأنوار السنية (1/232) [مكتبة الرشد، ط1، 1415هـ].
[2] انظر: لوامع الأنوار (2/165)، والحياة الآخرة لغالب عواجي (2/908).
قال تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا *} [النساء] ، وقال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ *عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ *} [الحجر] ، وقال سبحانه: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6] ، وقال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ *} [الأنبياء] .
قال قوام السُّنَّة الأصبهاني: «يحاسب الله عباده في القيامة ويناقشهم، يحاسب بالعرض من قضى له بالمغفرة، ويناقش بالحساب من قضى عليه بالعذاب»[1].
وقال ابن تيمية: «يحاسب الله الخلائق ويخلو بعبده المؤمن كما وصف ذلك في الكتاب والسُّنَّة، وأما الكفار فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته، فإنه لا حسنات لهم، ولكن تُعد أعمالهم فتحصى، فيوقفون عليها، ويقررون بها»[2].
[1] الحجة في بيان المحجة (2/546).
[2] الواسطية مع شرح هراس (280).
المسألة الأولى: إن الله تعالى هو من يتولى حساب الخلائق:
قال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلاَئِكَةُ وقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ *} [البقرة] ، فإن الله تعالى يأتي «يوم القيامة لفصل القضاء بين الأولين والآخرين، فيجزي كل عامل بعمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر»[1].
وقال تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ *} [الزمر] ، والمعنى: «أضاءت يوم القيامة إذا تجلى الحق جلّ جلاله للخلائق لفصل القضاء»[2].
المسألة الثانية: مقدار يوم القيامة خمسون ألف سنة:
جاء في «صحيح مسلم» من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار. قيل: يا رسول الله فالإبل؟ قال: ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها ومن حقها حلبها يوم وردها إلا إذا كان يوم القيامة بُطح لها بقاع قرقر[3] أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلاً واحدًا، تطؤه بأخفافها، وتعضه بأفواهها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله؛ إما إلى الجنة، وإما إلى النار . قيل: يا رسول الله، فالبقر، والغنم؟ قال: ولا صاحب غنم ولا بقر لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة بطح له بقاع قرقر لا يفقد منها شيئًا، ليس فيها عقصاء، ولا جلحاء، ولا عضباء[4] تنطحه بقرونها، وتطؤه بأظلافها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله؛ إما إلى الجنة، وإما إلى النار» [5].
المسألة الثالثة: أنواع الحساب:
يتفاوت حساب الناس يوم القيامة؛ فمنهم من يكون حسابهم عسيرًا، وهؤلاء هم الكفرة المجرمون الذين أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا، وتمردوا على شرع الله، وكذبوا الرسل، وقد يطول حساب بعض العصاة بكثرة الذنوب وعظمها.
ومنهم من يدخل الجنة بغير حساب، وهم فئة قليلة، وهم الصفوة من هذه الأمة.
ومنهم من يحاسب حسابًا يسيرًا، وهؤلاء لا يناقشون الحساب؛ أي: لا يدقق، ولا يحقق معهم، وإنما هو عرض لذنوبهم ثم يتجاوز لهم عنها. فعن عائشة؛ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك ، فقلت: يا رسول الله، أليس قد قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ *فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا *} [الانشقاق] ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنما ذلك العرض، وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عُذِّب»[6].
ومعنى: «نوقش الحساب»؛ أي: استقصي عليه، ومعنى العرض والحساب المذكور في الآية: أن الحساب المذكور إنما هو أن تعرض أعمال المؤمن عليه حتى يعرف منَّة الله عليه في سترها عليه في الدنيا، وفي عفوه عنها في الآخرة[7].
ويوضح هذا حديث ابن عمر؛ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته. وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد: {هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ *} [هود] » [8].
المسألة الرابعة: متى يكون الحساب؟
يظهر من قوله عزّ وجل: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ *فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا *وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا *} [الانشقاق] ، من تقديم الله تعالى ذكر الكتاب ـ وهي الصحائف ـ على ذكر الحساب، على تقديم أخذ الصحف، على الحساب.
يقول القرطبي: «فإذا وقف الناس على أعمالهم من الصحف التي يؤتوها بعد البعد حوسبوا بها»[9].
فإذا أوتي الناس صحائف أعمالهم يمتاز المؤمنون في الموقف في مكان، والكفار في مكان آخر.
قال الله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ *} [الروم] ، وقال تعالى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ *} [يس] .
فإذا انقضى الحساب للعباد كان بعده وزن الأعمال؛ لأن الوزن للجزاء، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة، فإن المحاسبة لتقدير الأعمال، والوزن لإظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبها[10].
المسألة الخامسة: محاسبة الكفار:
اختلف أهل العلم في مسألة محاسبة الكفار، والصحيح أن الحساب يراد به الإحاطة بالأعمال وكتابتها في الصحف وعرضها على الكفار وتوبيخهم على ما عملوه، فهذا الضرب من الحساب ثابت بالاتفاق، وقد يراد بالحساب وزن الحسنات بالسيئات ليتبين أيهما أرجح، فالكافر لا حسنات له توزن بسيئاته، إذ أعماله كلها حابطة، وإنما توزن لتظهر خفة موازينه لا ليتبين رجحان حسنات له[11].
فالكفار لا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته، فإنه لا حسنات لهم، ولكن تُعد أعمالهم وتحصى، فيوقفون عليها ويقررون بها ويجزون بها[12].
وأما أعمالهم الصالحة من بر وصدقة وإحسان فيعجل لهم ثوابها في الدنيا، وليس لهم في الآخرة شيء يجزون به؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله لا يظلم مؤمنًا حسنة، يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها» [13].
المسألة السادسة: أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة:
أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من حقوق الله: الصلاة، فإن صلحت أفلح ونجح وإلا خاب وخسر، يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاتُه، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر» [14].
وأول ما يحاسب عليه العبد فيما يتعلق بحقوق العباد في الدماء: «أول ما يقضى بين الناس في الدماء»[15].
[1] تفسير ابن كثير (1/246) [دار الفكر، ط1406هـ].
[2] تفسير ابن كثير (4/65).
[3] أي: بسط لها ومد لها بأرض مستوية.
[4] العقصاء: الملتوية القرون، والجلحاء: التي لا قرون لها، والعضباء: التي انكسر قرنها الداخل.
[5] أخرجه مسلم (كتاب الزكاة، رقم 987).
[6] أخرجه البخاري (كتاب الرقاق، رقم 6537)، ومسلم (كتاب الجنة وصفة نعيهما وأهلها، رقم 2876).
[7] انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (17/208)، وفتح الباري (11/402).
[8] أخرجه البخاري (كتاب المظالم والغصب، رقم 2441)، ومسلم (كتاب التوبة، رقم 2768).
[9] التذكرة (255).
[10] انظر: التذكرة (309).
[11] انظر: مجموع الفتاوى (6/486 ـ 487).
[12] انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (33/24) [دار عالم الكتب، ط1412هـ].
[13] أخرجه مسلم (كتاب صفة القيامة والجنة والنار، رقم 2808).
[14] أخرجه أبو داود (كتاب الصلاة، رقم 864)، والترمذي (أبواب الصلاة، رقم 413) واللفظ له، وقال: حسن غريب، وابن ماجه (كتاب إقامة الصلاة والسُّنَّة فيها، رقم 1425)، وأحمد (15/299) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (رقم 810) [مؤسسة غراس، ط1].
[15] أخرجه البخاري (كتاب الديات، رقم 6864)، ومسلم (كتاب القسامة، رقم 1678). وراجع: التذكرة للقرطبي (321).
أنكر الطبائعيون من الفلاسفة القيامة والجنة والنار والحساب، وما يكون من أمور عظام في اليوم الآخر[1].
ولا شكَّ في كفر من لا يؤمن باليوم الآخر.
وخالفت المعتزلة حيث أنكرت الحساب، وقالت بأنه مجاز لا حقيقة له، وتبعهم في ذلك الشيعة الزيدية بسائر فرقها[2].
واحتجت المعتزلة لمذهبها بقوله تعالى: {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا *} [الإسراء] ، وقوله سبحانه: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ *} [العاديات] ، قالوا: وهذا دليل على أن ما هناك حساب ولا نشر صحيفة[3].
وهذا قول باطل مردود؛ لما فيه من رد لنصوص الوحي التي أفاد ظاهرها وقوع الحساب حقيقة، ولما فيه من مخالفة لما انعقد عليه إجماع الأمة من ثبوت الحساب.
وقد خالف بعض الطوائف في كون الله تعالى هو من يتولى حساب العباد، فذهبت بعض الفرق من المعتزلة إلى اعتقادهم بأن المسيح هو الذي يحاسب الخلائق يوم القيامة[4].
وذهبت الإسماعيلية الباطنية إلى أن القائم محمد بن إسماعيل هو من يتولى حساب الخلائق ومجازاتهم؛ لأنه الله الواحد القهار بزعمهم[5].
وهذا معتقد فاسد باطل مخالف لما عليه المسلمون من الاعتقاد بأن الله تعالى هو الذي يتولى حساب الخلائق يوم القيامة، وهو الذي يجازي ويعاقب ويعفو، وأن الخلق كلهم لا يملكون شيئًا من ذلك، وقد شهدت النصوص بذلك.
[1] انظر: شرح الأصفهانية لابن تيمية (144).
[2] انظر: عقائد الثلاث والسبعين فرقة (1/352، 426، 452) [مكتبة العلوم، ط1، 1414هـ].
[3] انظر: عقائد الثلاث والسبعين فرقة (1/426).
[4] انظر: الملل والنحل (1/74) [دار المعرفة، ط1، 1410هـ]، والفرق بين الفرق (228) [المكتبة العصرية، ط1411هـ].
[5] الإسماعيلية تاريخ وعقائد (447 ـ 449) [إدارة ترجمة السُّنَّة، ط. 1405هـ].
1 ـ «الإسماعيلية تاريخ وعقائد»، لإحسان إلهي ظهير.
2 ـ «التذكرة في أحوال الموتى والآخرة»، للقرطبي.
3 ـ «الحجة في بيان المحجة» (2/546)، للتيمي.
4 ـ «رسائل الآخرة»، للعبيدي.
5 ـ «شرح الأصفهانية»، لابن تيمية.
6 ـ «عقائد الثلاث والسبعين فرقة»، لليمني.
7 ـ «شرح الواسطية»، لمحمد خليل هراس.
8 ـ «الفرق بين الفرق»، للبغدادي.
9 ـ «لوائح الأنوار السنية»، للسفاريني.
10 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.
11 ـ «الملل والنحل»، للشهرستاني.