حرف الحاء / الحسد

           

قال ابن فارس رحمه الله: «الحاء والسين والدال أصل واحد، وهو الحسد»[1].
الحسد: معروف، والفعل حسد يحسد حسدًا، وأصْل الحَسَد القشر؛ لأنه يَقْشِرُ القَلْبَ كما يَقْشر القُراد الجلد فيمتص دمه؛ ولهذا يسمى القُراد الحسدل[2].


[1] مقاييس اللغة (2/61) [دار الجيل، ط. 1420هـ].
[2] انظر: تهذيب اللغة (4/280 ـ 282) [الدار المصرية للتأليف والترجمة]، ولسان العرب (3/166 ـ 167) [دار إحياء التراث العربي، ط3، 1419هـ]، وترتيب القاموس المحيط (1/638) [دار عالم الكتب، ط4، 1417هـ].


الحسد: الكراهية، والبغض لما يُرى على المنعم عليه من الإحسان، وتمني الحاسد زوال النعمة من المحسود منه، وإن لم يصر للحاسد مثلها[1].
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: «وأصل الحسد هو بغض نعمة المحسود عليه، وتمني زوالها»[2].


[1] انظر: مجموع الفتاوى (10/111) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ط1425هـ]، وشرح صحيح مسلم للنووي (6/97) [المطبعة المصرية بالأزهر، ط1، 1347هـ]، وفتح الباري لابن حجر (1/294) [دار طيبة، ط1، 1426هـ].
[2] بدائع الفوائد (2/756) [دار عالم الفوائد].


الحسد: الذي هو تمني زوال النعمة على المنعم عليه، وكراهية ذلك: هو من كبائر الذنوب، ومن المحرمات بإجماع الأمة، لورود النصوص الشرعية بالنهي عنه، وذمه، وتقبيح أهله[1].


[1] انظر: شرح صحيح مسلم للنووي (6/97)، وشرح رياض الصالحين لابن عثيمين (6/248) [مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، ط1425هـ].


حقيقة الحسد: هو كراهة النعمة، وتمني زوالها، وهما أمران متلازمان؛ فإن من كره النعمة على غيره، تمنى زوالها بقلبه، وهو مرض من أمراض النفس، مركوز في طباع البشر، وهو مرض غالب فلا يخلص منه إلا قليل من الناس، ولهذا يقال: ما خلا جسد من حسد، لكن اللئيم يبديه، والكريم يخفيه، وهو كراهة الإنسان أن يفوقه أحد من بني جنسه، في شيء من الفضائل، سواء الدنيوية أو الأخروية، لكن منهم من يسعى في زوال نعمة المحسود بالفعل أو بالقول، ومنهم من يسعى في نقله إلى نفسه، ومنهم من يسعى في زوال النعمة عليه دون نقله إلى نفسه، وهذا هو الحسد المنهي عنه[1].
قال ابن تيمية رحمه الله: «والحاسد ليس له غرض في شيء معين، لكن نفسه تكره ما أنعم به على النوع، ولهذا قال من قال: إنه تمني زوال النعمة، فإن من كره النعمة على غيره، تمنى زوالها بقلبه»[2].


[1] انظر: مجموع الفتاوى (10/124)، وجامع العلوم والحكم لابن رجب (3/968) [دار السلام، ط2، 1424هـ].
[2] مجموع الفتاوى (10/112).


قال عزّ وجل: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109] ، وقال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54] ، وقال جلّ جلاله: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ *} [الفلق] .
عن أنس بن مالك رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال»[1].
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا حسد إلا في اثنتين؛ رجل آتاه الله مالاً فسُلِّط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها» [2].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تحاسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فهو يقول: لو أوتيت مثل ما أوتي هذا لفعلت كما يفعل. ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه في حقه فيقول: لو أوتيت مثل ما أوتي عملت فيه مثل ما يعمل» [3].


[1] أخرجه البخاري (كتاب الأدب، رقم 6076)، ومسلم (كتاب البر والصلة والآداب، رقم 2558).
[2] أخرجه البخاري (كتاب العلم، رقم 73)، ومسلم (كتاب صلاة المسافرين وقصرها، رقم 816).
[3] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، رقم 7528).


قال شيخ الإسلام: «ومن أمراض القلوب: الحسد؛ كما قال بعضهم في حدِّه: إنه أذى يلحق بسبب العلم بحسن حال الأغنياء، فلا يجوز أن يكون الفاضل حسودًا؛ لأن الفاضل يجري على ما هو الجميل. وقد قال طائفة من الناس: إنه تمني زوال النعمة عن المحسود، وإن لم يصر للحاسد مثلها، بخلاف الغبطة: فإنه تمني مثلها من غير حب زوالها عن المغبوط. والتحقيق أن الحسد هو البغض والكراهة لما يراه من حسن حال المحسود»[1].
وقال ابن القيم: «والحسد خلق نفس ذميمة وضيعة ساقطة، ليس فيها حرص على الخير، فلعجزها ومهانتها تحسد من يكسب الخير والمحامد ويفوز بها دونها، وتتمنى أن لو فاته كسبها حتى يساويها في العدم»[2].
قال ابن حجر رحمه الله: «الحسد تمني زوال النعمة عن المنعم عليه، وخصه بعضهم بأن يتمنى ذلك لنفسه، والحق أنه أعم، وسببه أن الطباع مجبولة على حب الترفع على الجنس، فإذا رأى لغيره ما ليس له أحب أن يزول ذلك عنه له ليرتفع عليه، أو مطلقًا ليساويه، وصاحبه مذموم إذا عمل بمقتضى ذلك من تصميم، أو قول، أو فعل، وينبغي لمن خطر له ذلك أن يكرهه، كما يكره ما وضع في قلبه من حب المنهيات»[3].


[1] مجموع الفتاوى (10/111).
[2] كتاب الروح (2/705).
[3] فتح الباري (1/294) [دار طيبة، ط1، 1426هـ].


قسَّم العلماء الحسد إلى قسمين[1]:
الأول: كراهة النعمة مطلقًا، فهذا هو الحسد المذموم، وإذا أبغض ذلك فإنه يتألم ويتأذى بوجود ما يبغضه، فيكون ذلك مرضًا في قلبه، ويلتذ بزوال النعمة عنه، وإن لم يحصل له نفع بزوالها، لكن نفعه زوال الألم الذي كان في نفسه، والحاسد ليس له غرض في شيء معين، لكن نفسه تكره ما أنعم به على النوع، ولهذا قال: إنه تمني زوال النعمة، فإن من كره النعمة على غيره تمنى زوالها بقلبه.
الثاني: أن يكره فضل ذلك الشخص عليه، فيحب أن يكون مثله، أو أفضل منه، فهذا حسد، وهو الذي سموه الغبطة، وقد سماه النبي صلّى الله عليه وسلّم، كما في الأحاديث السابقة، فهذا الحسد هو الذي نهى عنه النبي إلا في موضعين هو الذي سماه من سماه من العلماء بالغبطة: وهو أن يحب مثل حال الغير، ويكره أن يفضل عليه.


[1] انظر: شرح النووي لصحيح مسلم (6/97)، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (10/111 ـ 113).


مراتب الحسد ثلاثة[1]:
أحدها: الحسد الذي ينتج عنه سعي الحاسد في إزالة النعمة عن المحسود فقط، دون نقلها إلى نفسه.
الثانية: الحسد الذي ينتج عنه ـ مع تمني زوال النعمة عن المحسود ـ نقلها إلى نفس الحاسد.
الثالثة: الحسد الذي يتعدى بصاحبه إلى البغي والعدوان إما بالقول أو بالفعل على المحسود.


[1] جامع العلوم والحكم (3/968).


المسألة الأولى: أحوال الناس مع الحسد:
لمّا كان الحسد من أمراض القلوب التي قلَّ من يسلم منها، فقد عفي منها بعض الحالات، وبعضها لم يعفَ عنها، وهي ثلاث حالات[1]:
الحالة الأولى: من وجد في نفسه حسدًا لغيره، ولم يعمل بمقتضاه، ولم يبغ على المحسود بقول أو فعل، وعمل على دفعه، أو كتمانه في صدره، فهذا مما قد عفي عنه.
الحالة الثانية: من وجد في نفسه حسدًا على غيره، فلم يجاهد في دفعه؛ بل يحدث به نفسه اختيارًا، مستروحًا بذلك؛ بل قد يتعدى إلى الظلم والاعتداء، إما بالقول أو الفعل، كان صاحبه مستحقًّا للعقوبة، إلا أن يتوب، وكان المحسود مظلومًا، مأمورًا بالصبر والتقوى.
الحالة الثالثة: وهو من وجد في نفسه حسدًا، وسعى في إزالته من قلبه، وبإبداله بمحبة الخير له، مع الإحسان إلى المحسود، والدعاء له، ونشر فضائله، فهذه بأعلى المنازل.
المسألة الثانية: في حقيقة الغِبطة، ولماذا أطلق عليها النبي صلّى الله عليه وسلّم اسم الحسد:
عرَّفها بعض أهل العلم بقولهم: الغبطة أن تتمنى مثل حال المغبوط من غير أن تريد زوالها، ولا أن تتحول عنه[2].
وعرَّفها ابن تيمية بقوله: «هو أن يحب مثل حال الغير، ويكره أن يفضل عليه»[3].
فإن قيل: لماذا سمّاها النبي حسدًا، وإنما أحب أن ينعم الله عليه؟
الجواب: هو أن مبدأ هذا الحب هو نظره إلى إنعامه على الغير، وكراهته أن يتفضل عليه، ولولا وجود ذلك الغير لم يحب ذلك، فلما كان مبدأ ذلك كراهته أن يتفضل عليه كان حسدًا؛ لأن كراهته تتبعها محبة، وأما من أحب أن ينعم الله عليه، مع عدم التفاته إلى أحوال الناس، فهذا ليس عنده من الحسد شيء، ولهذا يبتلى غالب الناس بهذا القسم الثاني، وقد تسمى المنافسة، فيتنافس الاثنان في الأمر المحبوب المطلوب، كلاهما يطلب أن يأخذه، وذلك لكراهية أحدهما أن يتفضل عليه الآخر، كما يكره المستبقان كل منهما أن يسبقه الآخر[4].
فالغبطة: إن كانت لكراهة التفضيل، مع حب المماثلة، فهي منهي عنها، إلا فيما خصه الدليل الشرعي كما تقدم في الأحاديث، وأما إذا أحب أن يعطى مثل ما أعطي الآخر مما يقربه إلى الله فهذا لا بأس به، وإعراض القلب عن ذلك كله هو الأفضل.
قال ابن تيمية: «فالحاسد المبغض للنعمة على من أنعم الله عليه بها ظالم معتد، والكاره لتفضيله، المحب لمماثلته منهي عن ذلك، إلا فيما يقربه إلى الله، فإذا أحب أن يعطى مثل ما أعطي مما يقربه إلى الله فهذا لا بأس به، وإعراض قلبه عن هذا بحيث لا ينظر إلى حال الغير أفضل»[5].


[1] انظر: مجموع الفتاوى (10/121 ـ 125)، وجامع العلوم والحكم (3/970 ـ 972).
[2] انظر: شرح صحيح مسلم للنووي (6/97)، والنهاية في غريب الحديث والأثر (3/339 ـ 340)، وفتح الباري لابن حجر (1/294).
[3] مجموع الفتاوى (10/113).
[4] مجموع الفتاوى (10/113).
[5] مجموع الفتاوى (10/120 ـ 121).


الفرق بين الحسد والغبطة[1]:
الحسد: هو كراهية النعمة مطلقًا، وتمني زوال النعمة عن صاحبها، سواء كانت في أمور الدين أو الدنيا، وهذا حرامٌ بإجماع الأمة مع النصوص الصحيحة.
والغبطة: وهو أن يتمنى مثل النعمة التي على غيره من غير تمني زوالها عن صاحبها، فإن كانت من أمور الدنيا كانت مباحةً، وقيل: لا خير فيها، وإن كانت طاعةً فهي مستحبة، وإن كانت في المعصية فهي مذمومة.
الحسد: منهي عنه مطلقًا، ومذموم في كل الأحوال.
وأما الغبطة: فليست مذمومة ولا محمودة مطلقًا؛ بل قد تذم إذا كره أن يفضل عليه، وقد تحمد إذا كانت من باب المنافسة في الطاعات، وأمور الآخرة.
الفرق بين العائن والحاسد[2]:
يشتركان في شيء، ويفترقان في شيء:
فيشتركان في أن كل واحد منهما تتكيف نفسه، وتتوجه نحو من يريد أذاه، فالعائن تتكيف نفسه عند مقابلة المَعين ومعاينته، والحاسد يحصل له ذلك عند غيبة المحسود، وحضوره.
ويفترقان: أن العائن قد يصيب من لا يحسده، من جماد، أو حيوان، أو زرع، أو مال، وإن كان لا يكاد ينفك من حسد صاحبه، وربما أصابت عينه نفسه.
فالعائن أخص من الحاسد، فهو حاسد أخص، وهو أضر من الحاسد، فكل عائن حاسد ولا بد، وليس كل حاسد عائنًا، فإذا استعاذ من شر الحسد دخل فيه العين.


[1] انظر: شرح صحيح مسلم للنووي (6/97)، وجامع العلوم والحكم (3/971)، وفتح الباري (1/294).
[2] انظر: بدائع الفوائد لابن القيم (2/751 ـ 756).


من آثار الحسد: ذهاب الدين، والمروءة، وضعف الإيمان في قلب العبد، وهذا حال كل من تلبس بالمعاصي والذنوب.
ومن آثاره: دخول الحاسد في جملة الظالمين المعتدين، وقد توعَّد الله تعالى الظلمة في الدنيا والآخرة، ووعد بنصره لعباده المظلومين.
ضنك المعيشة، وضيق القلب، ودوام حزنه، وتألمه وحسرته، فهو من جملة الأمراض القلبية التي تورث صاحبها الذل والهوان في الدنيا، قبل الآخرة.
قال ابن عثيمين رحمه الله: «الحسد جمرة في القلب، والعياذ بالله، كلما أنعم الله على عبده نعمة احترق هذا القلب والعياذ بالله؛ حيث أنعم الله تعالى على عباده، فتجده دائمًا في نكد وقلق»[1].


[1] شرح رياض الصالحين (6/249).


1 ـ «الروح»، لابن القيم.
2 ـ «رياض الصالحين»، النووي.
3 ـ «شرح رياض الصالحين»، لابن عثيمين.
4 ـ «شرح صحيح مسلم»، للنووي.
5 ـ «غذاء الألباب شرح منظومة الآداب»، للسفاريني.
6 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.
7 ـ «النهاية في غريب الحديث والأثر»، لابن الأثير.
8 ـ «بدائع الفوائد»، لابن القيم.
9 ـ «معالم السنن»، للخطابي.
10 ـ «مجموع رسائل ابن رجب».