الإرادة: أصلها من (رَوَد) بمعنى: المشيئة والطّلب والاختيار. والرّود: المهلة في الشيء. وقالوا: رويدًا؛ أي: مهلاً. والإرادة في الأصل: جعلت اسمًا لنزوع النّفس إلى الشّيء مع الحكم فيه بأنّه يفعل أو لا يفعل، وقد يستعمل مرّة في المبدأ، وهو نزوع النّفس إلى الشّيء، وتارة في المنتهى، وهو الحكم فيه بأنّه ينبغي أن يفعل أو لا يفعل. وقد تكون بحسب القوّة التّسخيريّة والحسّيّة، وقد تكون بمعنى القوّة الاختياريّة، والإرادة قد تكون محبّة وغير محبّة[1].
[1] انظر: الصحاح للجوهري (2/478 ـ 479) [دار العلم للملايين، ط4، 1990م]، ولسان العرب (3/189) [دار صادر، ط3، 1414هـ]، والمصباح المنير (1/245) [المكتبة العلمية]، والمفردات للراغب الأصفهاني [دار القلم، والدار الشامية، ط1، 1412هـ].
الإرادة: صفة فعلية ثابتة لله تعالى على ما يليق به. وهي نوعان: تقدير الله الكوني الأزلي النافذ في جميع الموجودات ويكون وقوعه حتمًا لا محالة، سواء كان محبوبًا أم غير محبوب. والثاني: تقديره الشرعي المراد من العباد شرعًا، وهذا قد يقع وقد يتخلف وقوعه وهذا لا يكون إلا محبوبًا لله تعالى، وهي إرادة قديمة أزلية من حيث النوع ومتجددة من حيث تعلّقها بالمعيّن[1].
[1] انظر: مجموع الفتاوى (10/583) (16/301 ـ 303) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف، ط1416هـ]، ومنهاج السُّنَّة (3/180، 5/413) [جامعة الإمام محمد بن سعود، ط1، 1406هـ].
يجب على المسلم إثبات صفة الإرادة لله تعالى، على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى وأن إرادته تعالى ـ التي بمعنى المشيئة ـ هي إرادةٌ نافذة في جميع الكائنات، فهو سبحانه وتعالى إذا أراد شيئًا فعله.
ويعتقد المسلم أن إرادة الله تعالى ـ التي بمعنى: المحبة ـ هي تقديره الشرعي، الذي لا يلزم فيه وقوع المراد، ولا يكون المراد فيه إلا محبوبًا إلى الله تعالى.
أما من القرآن؛ فمن الأدلة على الإرادة التي بمعنى المشيئة: قول الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ *} [البقرة] ، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ *} [المائدة] . ومن الأدلة على الإرادة التي بمعنى المحبة: قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125] ، وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] .
ومن السُّنَّة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «... حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار، أمر الله الملائكة: أن يخرجوا من كان يعبد الله، فيخرجونهم ويعرفونهم بآثار السجود» الحديث[1].
وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «وكَّل الله بالرحم ملكًا، فيقول: أي رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة، فإذا أراد الله أن يقضي خلقها، قال: أي رب، أذكر أم أنثى، أشقي أم سعيد، فما الرزق، فما الأجل، فيكتب كذلك في بطن أمه»[2].
وصفة الإرادة لله عزّ وجل كما هي ثابتة شرعًا، فالعقل أيضًا يدل عليها، وقد أشار شيخ الإسلام في شرح العقيدة الأصفهانية إلى أن أشهر دليل يستخدم في إثبات صفة الإرادة: أن الله عزّ وجل عندما خلق العالم جعل فيه تخصيصات كثيرة، مثل تخصيص كل شيء بما له من القدر والصفات والحركات كطوله وقصره، وطعمه ولونه، وريحه وحياته، وقدرته وعلمه وسمعه وبصره، وسائر ما فيه، وهذا التخصيص دليل على وجود إرادة عند المخصِّص وهو الخالق سبحانه وتعالى، فلو لم تكن هناك إرادة لما كان هناك تخصيص[3].
[1] أخرجه البخاري في (كتاب الأذان، رقم 806)، ومسلم (في كتاب الإيمان، رقم 182).
[2] أخرجه البخاري في (كتاب القدر، رقم 6595)، ومسلم (في كتاب القدر، رقم 2646).
[3] انظر: شرح العقيدة الأصفهانية لشيخ الإسلام ابن تيمية (62 ـ 63) [مكتبة الرشد، ط 1، 1415هـ].
قال أبو عثمان الصابوني رحمه الله: «ومن مذهب أهل السُّنَّة والجماعة: أن الله عزّ وجل مريد لجميع أعمال العباد خيرها وشرها، ولم يؤمن أحد إلا بمشيئته، ولو شاء لجعل الناس أمة واحدة، ولو شاء أن لا يُعصى ما خلق إبليس. فكفر الكافرين وإيمان المؤمنين بقضائه سبحانه وتعالى وقدره، وإرادته ومشيئته، أراد كل ذلك وشاءه وقضاه»[1].
وقال ابن تيمية: «وأما ما يوصف به الرب من الكلام والإرادة، فقد دلت عليه أسماؤه الحسنى، وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن الله تعالى متكلم بكلام قائم به وأن كلامه غير مخلوق، وأنه مريد بإرادة قائمة به، وأن إرادته ليست مخلوقة»[2].
وقال أيضًا: «إنه ـ سبحانه ـ لم يزل مريدًا بإرادات متعاقبة، فنوع الإرادة قديم وأما إرادة الشيء المعين فإنما يريده في وقته. وهو سبحانه يقدّر الأشياء ويكتبها ثم بعد ذلك يخلقها. فهو إذا قدّرها علم ما سيفعله وأراد فعله في الوقت المستقبل لكن لم يرد فعله في تلك الحال فإذا جاء وقته أراد فعله فالأول عزم والثاني قصد»[3].
وقال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله: «والمحققون من أهل السُّنَّة يقولون: الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة قدرية كونية خلقية، وإرادة دينية أمرية شرعية.
فالإرادة الشرعية هي المتضمنة للمحبة والرضا، والكونية هي المشيئة الشاملة لجميع الحوادث»[4].
[1] عقيدة السلف وأصحاب الحديث (285 ـ 286) [دار العاصمة، ط2، 1419هـ].
[2] شرح العقيدة الأصفهانية (32).
[3] مجموع الفتاوى (16/301 ـ 303) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف، 1416هـ].
[4] شرح الطحاوية (69) [وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف، ط1، 1418هـ].
الإرادة تنقسم إلى قسمين: إرادة كونية، لا بدَّ فيها من وقوع المراد، وقد يكون المراد فيها محبوبًا أو غير محبوب. وهذه الإرادة بمعنى المشيئة، ودليل ذلك قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125] .
والثاني: إرادة شرعية، فلا يلزم فيها وقوع المراد ولا يكون المراد فيها إلا محبوبًا إلى الله تعالى. وهذه الإرادة هي بمعنى: المحبة ودليلها قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 27] [1].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «إن الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة تتعلق بالأمر، وإرادة تتعلق بالخلق. فالإرادة المتعلقة بالأمر أن يريد من العبد فعل ما أمره به، وأما إرادة الخلق فأن يريد ما يفعله هو. فإرادة الأمر هي المتضمنة للمحبة والرضا وهي الإرادة الدينية، والثانية المتعلقة بالخلق هي المشيئة وهي الإرادة الكونية القدرية»[2].
[1] انظر: مجموع الفتاوى (10/583)، ومنهاج السُّنَّة (3/180، 5/413) [جامعة الإمام، ط1، 1406هـ].
[2] منهاج السُّنَّة النبوية (3/156).
ـ المراد نوعان: مراد لذاته ومراد لغيره.
هذه المسألة مبنية على قول البعض: كيف يريد الله أمرًا ولا يرضاه ولا يحبه؟ وكيف تجتمع إرادته له وبغضه وكراهته؟ فالجواب: أن المراد نوعان:
النوع الأول: مراد لذاته؛ وهو المحبوب، فالشيء المحبوب يريده من يريده لذاته كالإيمان، فالإيمان مراد لله كونًا وشرعًا؛ لأنه مراد لذاته.
النوع الثاني: المراد لغيره؛ بمعنى أن الله تعالى يقدره لا لأنه يحبه، ولكن لما يترتب عليه من المصالح فهو مراد لغيره، فيكون من هذه الناحية مشتملاً على الحكمة، وإن كان مكروهًا له من حيث نفسه وذاته، إلا أنه مراد له من حيث قضاؤه وإيصاله إلى مراده، فيجتمع فيه الأمران: بغضه وإرادته، ولا يتنافيان، لاختلاف متعلقهما[1].
« مثال ذلك: الكفر مكروه لله عزّ وجل ولكن الله يقدره على العباد؛ لأنه لولا الكفر لم يتميز المؤمن من الكافر، ولم يكن المؤمن محلًّا للثناء؛ لأن كل الناس مؤمنون، وأيضًا لو لم يقع الكفر فلم يكن هناك جهاد فمن يجاهد المؤمن إذًا؟ ولو لم يقع الكفر ما عرف المؤمن قدر نعمة الله عليه بالإسلام، ولو لم يقع الكفر، وكان الناس كلهم مسلمين ما ظهر للإسلام فضل، ولو لم يقع الكفر لكان خلق النار عبثًا، وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى في قوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ *إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأََمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ *} [هود] ، فتبين أن المراد الكوني ـ الذي يكون مكروهًا لله ـ يكون مرادًا لغيره»[2].
[1] انظر: شرح الطحاوية (229) [وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف، ط1، 1418هـ].
[2] مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (3/201) [دار الوطن، ط1، 1412هـ].
الفرق بين الإرادة والمشيئة:
هناك فرق بين الإرادة والمشيئة. فالإرادة عامة تشمل الإرادة الكونية. وهذه هي المشيئة، وتشمل الإرادة الشرعية. وليست هي المشيئة، فالمشيئة إذن: موافقة للإرادة الكونية، فهي أخص من الإرادة، والإرادة بشكل عام أعم: تشمل المشيئة والإرادة الشرعية[1].
الفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية:
الإرادة الكونية: هي مشيئته سبحانه الشاملة لجميع الحوادث، تتعلق بخلقه وأمره الكوني، وكذلك تتعلق بما يحب وبما يكرهه، كله داخل تحت مشيئته، كما خلق إبليس وهو يبغضه وخلق الشياطين والكفار والأعيان والأفعال المسخوطة له وهو يبغضها، فمشيئته سبحانه شاملة لذلك كله.
وأما الإرادة الشرعية: فهي المتضمنة للمحبة والرضا، تتعلق بأمره الديني وشرعه الذي شرعه على ألسنة رسله.
وعلى هذا فبالنسبة لوقوع المراد، وفي أي الإرادتين يتعلق تكون الأقسام أربعة:
أحدها: ما تعلقت به الإرادتان الكونية والدينية، وهو ما وقع في الوجود من الأعمال الصالحة، فهذه مرادة شرعًا؛ لأنها أعمال صالحة مأمور بها، ومرادة كونًا؛ لأنها وقعت.
الثاني: ما تعلقت به الإرادة الشرعية فقط، وهو ما أمر الله به من الطاعات والأعمال الصالحة، فعصى ذلك الكفار ولم يأتوا به، فهذا مراد شرعًا؛ لأنه من الأعمال الصالحة، وغير مراد كونًا؛ لأنه لم يقع من الكفار والعصاة.
الثالث: ما تعلقت به الإرادة الكونية فقط؛ كالمباحات والمعاني التي لم يأمر بها الله إذا فعلها العصاة، فهي غير مرادة دينًا، ولكنها مرادة كونًا لأنها وقعت.
الرابع: ما لم تتعلق به الإرادتان، وذلك مما لم يقع ولم يوجد من أنواع المباحات والمعاصي[2].
[1] انظر: شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (47 ـ 48).
[2] انظر: مجموع الفتاوى (8/189)، وشفاء العليل (47 ـ 48)، وشرح الطحاوية (69).
ـ ذهبت الكلابية والأشعرية إلى أن الإرادة واحدة قديمة، وإنما يتجدد تعلقها بالمراد، ونسبتها إلى الجميع واحدة، ولكن من خواص الإرادة أنها تخصص بلا مخصص. فهم يقولون: إن العالم حدث في الوقت الذي تعلقت الإرادة القديمة بحدوثه فيه من غير حدوث إرادة ومن غير أن تتغير صفة القديم[1].
الرد عليهم:
يقال: إن فساد هذا المذهب معلوم بالاضطرار، ولم يقل به أحد من العقلاء. وبطلانه من جهات؛ من جهة جعل إرادة هذا غير إرادة ذاك، ومن جهة جعل الإرادة تخصَّص لذاتها، ومن جهة أن هذا المذهب لم يجعل عند وجود الحوادث شيئًا حدث حتى تخصص أو لا تخصص، بل تجددت نسبة عدمية، ليست وجودًا، وهذا ليس بشيء. فلم يتجدد شيء، فصارت الحوادث تحدث وتتخصص بلا سبب حادث ولا مخصص[2].
ـ ذهب الجهمية والمعتزلة إلى نفي قيام الإرادة بالله تعالى، ثم هم إما أن يقولوا بنفي الإرادة، وإما يفسروها بنفس الأمر والفعل، وإما يقولوا بحدوث إرادة لا في محل؛ كقول البصريين منهم[3]. وكل هذه الأقوال قد علم أيضًا فسادها، وما تقدم من الأدلة وأقوال أهل العلم كاف في الرد عليهم[4].
[1] انظر: كتاب المسامرة بشرح المسايرة لكمال الدين القدسي مع حواشيه (64 ـ 65) [المكتبة التجارية الكبرى، مصر]، وأساس التقديس للرازي (217) [مطبعة الحلبي، ط1354هـ]. وإنما وقع الأشاعرة في ذلك بسبب مذهبهم القائم على نفي الصفات الاختيارية عن الله تعالى، كالاستواء والمجيء والغضب والرضا وغيرها، فأثر ذلك في إثباتهم لهذه الصفات السبع والتي منها الإرادة.
[2] انظر: مجموع الفتاوى (16/302).
[3] انظر: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار (440) [مكتبة وهبة، ط3، 1416هـ].
[4] مجموع الفتاوى (16/301 ـ 303)، وانظر: درء التعارض (2/390) و(6/269) و(8/108) و(10/114)، ومنهاج السُّنَّة النبوية (3/238).
1 ـ «الإرادة الكونية والإرادة الشرعية في القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية»، لنوال علي محمد الزهراني.
2 ـ «الإرادة عند المعتزلة والأشاعرة: دراسة فلسفية إسلامية»، لعبد الباري محمد داود.
3 ـ «التبيان في أقسام القرآن»، لابن القيم.
4 ـ «شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل»، لابن القيم.
5 ـ «درء تعارض العقل والنقل» (ج2، 6، 8)، لابن تيمية.
6 ـ «شرح العقيدة الأصفهانية»، لابن تيمية.
7 ـ «صفة الإرادة الإلهية في الفكر الإسلامي»، لخليل الرحمن عبد الرحمن [رسالة ماجستير بجامعة أم القرى].
8 ـ «صفات الله عزّ وجل الواردة في الكتاب والسُّنَّة»، لعلوي السقّاف.
9 ـ «مجموع الفتاوى» (ج10، 16)، لابن تيمية.
10 ـ «منهاج السُّنَّة النبوية» (ج3)، لابن تيمية.