الحاء والشين والراء أصل يدل على الاجتماع والسوق والبعث والانبعاث[1]. فأصل الحشر: الجمع، لكنه مع سوق[2]. ومن معانيه: الجلاء عن الأوطان[3].
[1] انظر: مقاييس اللغة (2/66) [دار الفكر، 1399هـ].
[2] انظر: لسان العرب (4/190) [دار صادر، ط3، 1414هـ]، والمصباح المنير (1/148) [دار الفكر]، القاموس المحيط (480)، وترتيب القاموس (1/646) [دار الفكر، ط3].
[3] انظر: النهاية في غريب الحديث (1/967)، ولسان العرب (4/190) [دار صادر، ط3، 1414هـ].
قال الله تعالى: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا *} [الكهف] ، وقال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} [مريم: 68] ، وقال تعالى: {وَمَا مِنْ دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ *} [الأنعام] .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال صلّى الله عليه وسلّم: «يحشر الناس يوم القيامة حفاةً عراةً غرلاً» قلت: يا رسول الله: النساء والرجال جميعًا ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: «يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض» [1].
[1] أخرجه البخاري (كتاب الرقاق، رقم 6527)، ومسلم (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم 2859).
قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: «يحشر الناس يوم القيامة في صعيد واحد فينادى: أين المتقون»[1].
وقال ابن القيم: «قال حذيفة وعبد الله بن مسعود وغيرهما: يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف، فمن رجحت حسناته على سيئاته بواحدة دخل الجنة»[2].
وقال سعيد بن جبير: «يحشر الناس حفاة عراة، فأول من يلقى بثوب إبراهيم عليه السلام»[3].
[1] أخرجه اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (3/552) [دار طيبة، ط8].
[2] طريق الهجرتين (562).
[3] أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (برقم 37099).
المسألة الأولى: أرض المحشر:
أرض المحشر هي الأرض المبدلة، وفيها قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ *} [إبراهيم] ، وأما صفة هذه الأرض فكما قال صلّى الله عليه وسلّم: «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء[1]؛ كقرصة نقي [2]»، قال سهل أو غيره: ليس فيها معلم لأحد[3][4].
قال ابن مسعود رضي الله عنه هي: «أرض كالفضة نقية لم يسل فيها دم، ولم يعمل فيها خطيئة، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، حفاةً عراةً قيامًا، أحسب أنه قال: كما خُلقوا، حتى يلجمهم العرق قيامًا»[5].
المسألة الثانية: يحشر الناس حفاة عراة غرلاً:
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنكم محشورون حفاة عراة غرلاً» ثم قرأ: «{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ *} [الأنبياء] »[6].
المسألة الثالثة: تميز أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم في أرض المحشر:
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «يبعث الناس يوم القيامة، فأكون أنا وأمتي على تل، ويكسوني ربي تبارك وتعالى حلة خضراء، ثم يؤذن لي، فأقول ما شاء الله أن أقول، فذاك المقام المحمود» [7].
المسألة الرابعة: حشر الناس على صور شتى:
إن المتكبرين يحشرون كأمثال الذر من الصغار؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس، يعلوهم كل شيء من الصغار، حتى يدخلوا سجنًا في جهنم يقال له: بولس، فتعلوهم نار الأنيار، يسقون من طينة الخبال: عصارة أهل النار» [8].
وأما الكفار فإنهم يحشرون على وجوههم؛ لقوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا *} [الإسراء] ، وقال تعالى: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً *} [الفرقان] .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه؛ أن رجلاً قال: يا نبي الله كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال: «أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادرًا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة». قال قتادة: بلى وعزة ربنا[9].
المسألة الخامسة: حال الناس في المحشر:
من أعظم الأمور التي جاءت بها النصوص من أحوال الناس في المحشر: دنو الشمس من رؤوس العباد حتى يكون بينها وبينهم إلا مقدار ميل واحد، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا. يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «تُدنى الشمس يوم القيامة من الخلق، حتى تكون منهم كمقدار ميل» ، قال سليم بن عامر [أحد رواة الحديث]: فوالله ما أدري ما يعني بالميل؟ أمسافة الأرض، أم الميل الذي تكتحل به العين. قال: «فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا» [10].
أ ـ من أحوال الكفار:
أما الكفار فإنه ينزل بهم من الكروب والعظائم ما سطره الله تعالى في القرآن وذكره النبي صلّى الله عليه وسلّم في صحيح سُنَّته، فمن ذلك:
1 ـ الذل والهوان والحسرة التي يكونون فيها:
قال تعالى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ *خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ *} [المعارج] .
2 ـ الكرب والخوف الذي يكونون فيه:
قال سبحانه: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ *} [غافر] .
ب ـ حال بعض عصاة المؤمنين:
إن بعض عصاة الموحدين قد ورد فيهم العذاب الأليم يوم القيامة، ومن ذلك عذاب مانع الزكاة، ففي «صحيح مسلم» من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار . قيل: يا رسول الله فالإبل؟ قال: ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها ومن حقها حلبها يوم وردها إلا إذا كان يوم القيامة بُطح لها بقاع قرقر[11] أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلاً واحدًا، تطؤه بأخفافها، وتعضه بأفواهها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله؛ إما إلى الجنة، وإما إلى النار . قيل: يا رسول الله، فالبقر، والغنم؟ قال: ولا صاحب غنم ولا بقر لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة بطح له بقاع قرقر لا يفقد منها شيئًا، ليس فيها عقصاء، ولا جلحاء، ولا عضباء[12] تنطحه بقرونها، وتطؤه بأظلافها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله؛ إما إلى الجنة، وإما إلى النار» [13].
ومن ذلك: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم: رجل حلف على سلعة لقد أعطى بها أكثر مما أعطى وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر؛ ليقتطع بها مال رجل مسلم، ورجل منع فضل ماء، فيقول الله: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك» [14].
ج ـ من أحوال الأتقياء:
عندما يكون الناس في الموقف العظيم تحت وهج الشمس القاسي، ويذوقون من البلاء الشيء الهائل يكون فريق من الأخيار الأتقياء الأنقياء في ظل عرش الرحمن، لا يعانون الكربات التي يقاسي منها الآخرون. يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابّا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه» [15].
المسألة السادسة: مدة الوقوف في أرض المحشر:
ورد في الحديث الصحيح أن وقوف الناس يكون: خمسين ألف سنة، ففي الحديث السابق: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار» الحديث[16].
المسألة السابعة: حشر بقية المخلوقات غير الثقلين للقصاص:
من تمام حكمة الله تعالى وعدله بين العباد وغيرهم، أن يقتص الخلق يوم القيامة بعضهم من بعض، حتى الحيوانات فيما بينها، يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء» [17].
[1] العفر: بياض ليس بناصع، وقيل: يضرب إلى الحمرة، وقيل: خالصة البياض.
[2] أي: الدقيق النقي من الغش، والنخال.
[3] أي: مستوية. انظر فيما سبق: فتح الباري (11/382 ـ 383) [دار الريان، ط1، 1407هـ].
[4] أخرجه البخاري (كتاب الرقاق، رقم 6156)، ومسلم (كتاب صفة القيامة والجنة والنار، رقم 2790).
[5] أخرجه الطبري (7/47) [دار الكتب العلمية، ط1، 1412هـ]، والحاكم (كتاب الأهوال، رقم 8699)، وقال ابن حجر في الفتح (11/375) [دار المعرفة]: «رجاله رجال الصحيح، وهو موقوف، وأخرجه البيهقي من وجه آخر مرفوعًا، وقال: الموقوف أصح، وأخرجه الطبري والحاكم من طريق عاصم عن زر بن حبيش عن ابن مسعود بلفظ: «أرض بيضاء كأنها سبيكة فضة»، ورجاله موثوقون أيضًا».
[6] أخرجه البخاري (كتاب الأنبياء، رقم 3349)، ومسلم (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم 2860).
[7] أخرجه أحمد (5/349) [دار الفكر، ط1، 1411هـ]، وابن أبي عاصم في السُّنَّة (2/364) [المكتب الإسلامي، ط3، 1413هـ]، وابن حبان (كتاب التاريخ، رقم 6479)، والحاكم (كتاب التفسير، رقم 3383) وصححه، وقال الهيثمي: «رجاله رجال الصحيح». مجمع الزوائد (7/51) [مكتبة القدسي]، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 2370) [مكتبة المعارف، ط2، 1416هـ].
[8] أخرجه الترمذي (أبواب صفة القيامة والرقائق والورع، رقم 2492) وحسَّنه، وأحمد (11/260) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/340) [المكتب الإسلامي، ط1، 1408هـ].
[9] أخرجه البخاري (كتاب الرقاق، رقم 6523)، ومسلم (كتاب صفة القيامة والجنة والنار، رقم 2806).
[10] أخرجه مسلم (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم 2864).
[11] أي: بسط لها ومد لها بأرض مستوية.
[12] العقصاء: الملتوية القرون، والجلحاء: التي لا قرون لها، والعضباء: التي انكسر قرنها الداخل.
[13] أخرجه مسلم (كتاب الزكاة، رقم 987).
[14] أخرجه البخاري (كتاب المساقاة، رقم 2369).
[15] أخرجه البخاري (كتاب الأذان، رقم 660)، ومسلم (كتاب الزكاة، رقم 1031).
[16] أخرجه مسلم (كتاب الزكاة، رقم 987). وانظر: التذكرة للقرطبي (269).
[17] أخرجه مسلم (كتاب البر والصلة والآداب، برقم 2582). وانظر: التذكرة للقرطبي (308)، وشرح صحيح مسلم للنووي (16/137).