الحكمة: من (حَكَمَ)؛ قال ابن فارس: «الحاء والكاف والميم أصل واحد، وهو المنع. وأول ذلك الحكم، وهو المنع من الظلم. وسميت حكَمة الدابة؛ لأنها تمنعها، يقال: حكمتُ الدابة وأحكمتها. ويقال: حكمت السفيه وأحكمته»[1].
والحِكْمَةُ: قياسها المنع من الجهل، تقول: حكَّمت فلانًا تحكيمًا: منعته عما يريد، وحكِّم فلانا في كذا؛ أي: جُعل أمره إليه، والحكمة: عِبَارَةٌ عَنْ مَعْرِفَةِ أَفْضَلِ الأَشياء بِأَفْضَلِ الْعُلُومِ. وَيُقَالُ لمَنْ يُحْسِنُ دَقَائِقَ الصِّناعات ويُتقنها: حَكِيمٌ[2].
[1] مقاييس اللغة (2/91) [دار الجيل، 1420هـ].
[2] انظر: لسان العرب (12/140) [دار صادر، ط3]، وتاج العروس (31/512) [دار الهداية]، والمعجم الوسيط (1/190) [دار الدعوة].
هذه المسألة عظيمة، ذات شعب عديدة؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «هذه المسألة كبيرة، من أجلِّ المسائل الكبار، التي تكلم الناس فيها، وأعظمها شعوبًا وفروعًا، وأكثرها شبهًا ومحارات؛ فإن له تعلقًا بصفات الله وبأسمائه، وأفعاله، وأحكامه، والأمر والنهي، والوعد والوعيد، وهي داخلة في خلقه وأمره، فكل ما في الوجود متعلق بهذه المسألة، فإن المخلوقات جميعها متعقلة بها، وهي متعلقة بالخالق سبحانه، وكذلك الشرائع كلها، الأمر والنهي، والوعد والوعيد متعلقة بها، وهي متعلقة بمسائل القدر والأمر، وبمسائل الصفات والأفعال، وهذه جوامع علوم الناس»[1].
[1] مجموع الفتاوى (8/819).
تتضح حقيقة الحكمة لله عزّ وجل بما يأتي:
1 ـ أنها حكمة مقصودة من الفعل، وليست مترتبة عليه؛ بل سابقة لوجودها ولها يوجد، خلافًا للنفاة الذين يقولون: إن الحكمة نتيجة للفعل، وهي أثر من آثاره، وليست مقصودة له.
2 ـ يعود على الله تعالى منها حكم، وتتعلق به تعالى، كما يعود على عباده منها حكم، خلافًا للقدرية.
3 ـ أنها حكمة في الأفعال وفي المخلوقات وفي المأمورات[1].
[1] جهود شيخ الإسلام ابن تيمية في توضيح الإيمان بالقدر (2/1096).
وصف الله عزّ وجل نفسه بالحكمة: قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىءُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *} [الحشر] ، وقال: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ *} [يوسف] .
التصريح بلفظ الحكمة وما تصرف منه: قال تعالى: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} [القمر: 5] ، وقال: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] ، وقال: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} [الإسراء: 39] .
إخباره أنه فعل كذا لكذا، وأنه أمر بكذا لكذا، ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ *} [الذاريات] ، وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا *} [الطلاق] ، وقوله تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا *} [النساء] .
أقوال أهل العلم:
قال قتادة رحمه الله فِي قَوْله تعالى: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ *}: «حَكِيم فِي أمره خَبِير بخلقه»[1].
وقال الطبري: في قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ} [الأنعام: 128] : «في تدبيره في خلقه، وفي تصريفه إياهم في مشيئته من حال إلى حال، وغير ذلك من أفعاله {عَلِيمٌ *} بعواقب تدبيره إياهم، وما إليه صائرةُ أمرهم من خير وشر»[2].
وقال الذهبي: «وقال جمهور السُّنَّة: بل هو حكيم في خلقه وأمره»[3].
وقال ابن القيم بعد أن ذكر المنكرين للحكمة وتهافت قولهم أمام البرهان الواضح البيِّن قال: «إنه سبحانه يفعل بمشيئته وقدرته وإرادته، ويفعل ما يفعله بأسباب وحكم وغايات محمودة، وقد أودع العالم من القوى والطبائع والغرائز والأسباب والمسببات ما به قام الخلق والأمر، وهذا قول جمهور أهل الإسلام وأكثر طوائف النظار وهو قول الفقهاء قاطبة؛ إلا من خلى الفقه ناحية وتكلم بأصول النفاة فعادى فقهه أصولَ دينه»[4].
[1] الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية لابن بَطَّة (2/219) [دار الراية، ط2، 1418هـ].
[2] تفسير الطبري (12/118) [مؤسسة الرسالة، ط1].
[3] المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي (36).
[4] شفاء العليل (343، 344)، وانظر: النبوات (1/250)، ومجموع الفتاوى (3/19)، ومنهاج السُّنَّة (1/141).
الحكمة لله عزّ وجل ثابتة في فعله وخلقه وأمره، والحكمة: صفة من صفاته عزّ وجل فهو الحكيم، وأهل العلم يقسمون حكمة الله عزّ وجل إلى قسمين:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وكل ما خلقه الله فله فيه حكمة كما قال: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88] ، وقال: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7] ، وهو سبحانه غني عن العالمين. فالحكمة تتضمن شيئين:
أحدهما: حكمة تعود إليه يحبها ويرضاها.
والثاني: إلى عباده هي نعمة عليهم يفرحون بها ويلتذون بها؛ وهذا في المأمورات وفي المخلوقات»[1].
[1] مجموع الفتاوى (8/36).
المسألة الأولى: وصف الحكمة بالغرض:
لفظ الغرض لفظ يعبَّر به أهل الكلام، وأهل السُّنَّة يتجنبونه؛ لأنه يشعر بالحاجة ولم يعبر به الشارع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وأما لفظ الغرض فالمعتزلة تصرح به... وأما الفقهاء ونحوهم فهذا اللفظ يشعر عندهم بنوع من النقص: إما ظلم وإما حاجة، فإن كثيرًا من الناس إذا قال: فلان له غرض في هذا، أو فعل هذا لغرضه، أرادوا أنه فعله لهواه ومراده المذموم، والله منزه عن ذلك. فعبَّر أهل السُّنَّة بلفظ الحكمة والرحمة والإرادة ونحو ذلك مما جاء به النص»[1].
وقال: «وأما لفظ: (الغرض) فتطلقه طائفة من أهل الكلام كالقدرية. وطائفة من المثبتين للقدر أيضًا يقولون: إنه يفعل لغرض، كما ذكر ذلك من يذكره من مثبتة القدر: أهل التفسير والفقه وغيرهم. ولكن الغالب على الفقهاء وغيرهم من المثبتين للقدر أنهم لا يطلقون لفظ: (الغرض) وإن أطلقوا لفظ الحكمة لما فيه من إيهام الظلم والحاجة، فإن الناس إذا قالوا: فلان فعل هذا لغرض، وفلان له غرض مع فلان، كثيرًا ما يعنون بذلك المراد المذموم من ظلم وفاحشة أو غيرهما، والله تعالى منزه عن أن يريد ما يكون مذمومًا بإرادته»[2].
المسألة الثانية: السؤال عن الحكمة:
طلب معرفة الحكمة جائز في الشرع؛ فإن كان منصوصًا عليها في الشرع فيجب القول بها، وإن لم ينص عليها فيجوز السعي إلى معرفتها بدون تكلف، ولا يرتبط بمعرفتها الامتثال للأمر الشرعي.
والسؤال عن الحكمة جائز لكن لا يجب معرفتها كما حكى الله عزّ وجل ذلك عن الملائكة في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ *} [البقرة] ، فالملائكة سألوا عن حكمة خلق بني آدم مع ما سيحدث منهم من سفك للدماء وإفساد، فلم يخبرهم الله عزّ وجل بها وأخبرهم بإحاطته بكل شيء علمًا.
«والعباد متفاوتون في معرفة حكمة الرب، كلما ازداد العبد علمًا بحقائق الأمور؛ ازداد علمًا بحكمة الله وعدله، ورحمته وقدرته، وإذا علم العبد؛ من حيث الجملة، أن لله فيما خلقه وأمر به حكمة عظيمة؛ كفاه هذا، وكلما ازداد علمًا وإيمانًا ظهر له من حكمة الله ورحمته ما يبهر عقله، ويبيِّن له تصديق ما أخبر الله به في كتابه حيث قال: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ *} [فصلت] ...»[3].
[1] منهاج السُّنَّة النبوية (1/455).
[2] منهاج السُّنَّة النبوية (2/314).
[3] مجموع الفتاوى (8/97)، وانظر أيضًا: (8/513).
الفرق بين العلة والحكمة:
العلة يعبَّر بها عمّا لأجله يفعل الفعل؛ فيقال: فعل الفعل لعلة كذا أو لم يفعل لعلة كذا[1].
والعلة نوعان: علة غائية وعلة فاعلية.
فالعلة الفاعلية هي جميع الأمور المعتبرة في وجود الفعل، وهي المقتضى التام لوجود الفعل، أو هي سبب وجود الفعل[2].
والعلة الغائية أو الحكمة الغائية هي المقصودة بالفعل؛ التي تصلح أن تكون جواب: (لِم)، وهي المقرونة باللام في قول المجيب: لكذا، وهي التي تنصب على المفعول له إذا حذفت اللام بأن تكون العلة مصدرًا فعلاً لفاعل الفعل المعلل ومقارنة له في الزمان؛ كما تقول: فعلت هذا ابتغاء وجه الله ونحو ذلك[3].
والفرق بين العلة الغائية والعلة الفاعلية من حيث الوجود أنّ العلة الغائية متقدمة في التصور والإرادة والعلة الفاعلية متأخرة في الوجود[4].
وعليه؛ يتبين أن العلة الفاعلية هي السبب، والعلة الغائية هي الحكمة فلا فرق بين العلة الغائية والحكمة.
[1] انظر: المصباح المنير (2/77)، ولسان العرب (13/495)، والتعريفات (201 ـ 202).
[2] انظر: مجموع الفتاوى (8/85)، ودرء تعارض العقل والنقل (1/329 ـ 330).
[3] انظر: بيان تلبيس الجهمية (1/197 ـ 198)، وانظر: مجموع الفتاوى (8/187).
[4] مجموع الفتاوى (10/384) و(8/187).
المخالفون في إثبات الحكمة لله عزّ وجل على الوجه الصحيح طائفتان:
الطائفة الأولى: المعتزلة: أثبت المعتزلة أن أفعال الله عزّ وجل معللة ولها حكمة، وأن الله عزّ وجل لا يفعل إلا لحكمة، إلا أنهم يقولون: إن الحكمة تعود إلى الخلق وليس هناك حكمة تعود إلى الخالق؛ لأنهم ينكرون صفات الله عزّ وجل ويزعمون أن الله لا يوصف بالإرادة بل له إرادة مخلوقة ولا يقوم به وصف يسمى الإرادة، وإنما إرادته للشيء هو وجوده[1]. وينصون على أن الحكمة من إيجاد الخلق هي نفعهم. قال الأشعري: «وأجمعت المعتزلة على أن الله سبحانه خلق عباده لينفعهم لا ليضرهم، وأن ما كان من الخلق غير مكلف فإنما خلقه لينتفع به المكلف ممن خلق وليكون عبرة لمن يخلقه ودليلاً»[2]. وقال القاضي عبد الجبار: «وتعلم أنه لا يجوز في حكمه أن يمرض أو يسقم إلا لمنفعة، وكل من قال خلاف ذلك فقد جوّز على الله عزّ وجل الظلم ونسبه إلى السفه»[3].
[1] انظر: مقالات الأسلاميين للأشعري (1/152) [المكتبة العصرية، ط1، 1416هـ].
[2] مقالات الإسلاميين (1/199).
[3] الأصول الخمسه للقاضي عبد الجبار (70) [مطبوعات جامعة الكويت، 1998م].
المعتزلة أحسنوا هنا بإثبات الحكمة لله عزّ وجل فيما يتعلق بأمره وخلقه، ولكنهم أخطؤوا في أمرين:
الأول: إنكارهم الحكمة التي تعود إلى الخالق.
الثاني: زعمهم أن الله عزّ وجل خلق الخلق لينفعهم، فحصروا الحكمة في ذلك، مع أن الحكمة بابها واسع جدًّا ولا يمكن حصرها بما ذكروا.
ومن أظهرها قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ *} [الذاريات] ، ومنها الابتلاء والامتحان، كما قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] ، كما أن القول بأن الحكمة هي منفعة العباد يعارضه سؤال كبير، وهو أن أكثر العباد هم من الكفار المستحقين للخلود في النار، كما قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116] ، وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ *} [يوسف] ، فأي منفعة لهم وهم سيدخلون النار؟! ومتاع الدنيا قليل مهما كان؛ لا يساوي شيئًا مع عذاب الله؛ بل هو شر عليهم وزادهم إلى النار نسأل الله المعافاة كما قال تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَِنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ *} [آل عمران] ، فما يكون لهم في الدنيا من النعيم هو زادهم للعذاب يوم القيامة، نسأل الله المعافاة.
ودعوى المعتزلة أن الله عزّ وجل خلق الخلق لينفعهم دعوى باطلة، وهي قائمة على النظر العقلي القاصر مع أن الحكمة الربانية لا يمكن معرفتها إلا من خلال النص أو إشاراته الواضحة، ولو نظرنا في كلام الملائكة عليهم السلام نجد أنهم نظروا إلى مقام العبودية للخالق فلذا استفسروا عن الحكمة من خلق بني آدم مع انتهاكهم لهذا المقام؛ بالإفساد في الأرض وسفك الدماء.
فهذا يبيِّن بطلان دعوى المعتزلة أن الحكمة هي أن الله خلق الخلق لينفعهم، أما إقرارهم بتعليل أفعال الله عزّ وجل وأن الشرع مبني على مصالح العباد فهو حق.
الطائفة الثانية: نفاة الحكمة والتعليل، وهم جمهور الأشاعرة، ومن وافقهم من فقهاء المذاهب، نفوا الحكمة والتعليل عن خلق الله وفعله، وزعموا أن الفعل تابع للإرادة، والحكمة هي وقوع الفعل وفق العلم والإرادة، وهذا أصل الجهمية.
يقول ابن تيمية: «وذهب طائفة من أهل الكلام، ونفاة القياس إلى نفي التعليل في خلقه وأمره، وهو قول الأشعري ومن وافقه، وقالوا: ليس في القرآن لام تعليل في فعل الله وأمره، ولا يأمر الله بشيء لحصول مصلحة أو دفع مفسدة؛ بل ما يحصل من مصالح العباد ومفاسدهم بسبب من الأسباب فإنما خلق ذلك عندها، لا أنه يخلق هذا لهذا، ولا هذا لهذا، واعتقدوا أن التعليل يستلزم الحاجة، والاستكمال بالغير، وأنه يفضي إلى التسلسل»[1].
وللقوم حجج وشبه أشهرها قولهم[2]: إن التعليل في أمره وخلقه يستلزم الحاجة والاستكمال بالغير، وذلك نقص في ذاته سبحانه وتعالى، وهو ممتنع في حقه عزّ وجل؛ لأنه ينافي غناه المطلق.
الرد عليهم[3]:
أحدها: قولهم: إن إثبات الحكمة يستلزم أن يكون ناقصًا بذاته: يقال لهم: أتعنون به أنه كان عادمًا شيئًا من الكمال الذي كان يجب أن يكون له قبل حدوث ذلك المراد، أم تعنون به أن يكون عادمًا لما ليس كمالاً قبل وجوده، أم تعنون به معنىً ثالثًا؟.
فإن ادعيتم الأول: كان ممنوعًا؛ فالله متصف بالكمال أزلاً وأبدًا، والكمال هو من لوازم ذاته؛ إذ هو الغني الحميد، فلا يفتقر إلى غيره سبحانه وتعالى، لا في أفعاله، ولا في ذاته، ولا في صفاته.
وإن ادَّعيتم الثاني: فهو حجة عليكم؛ لأن عدم الشيء في الوقت الذي لم تقتض الحكمة وجوده فيه كمال، كما أن وجوده في وقت اقتضاء الحكمة وجوده فيه كمال، فليس عدم كل شيء نقصًا؛ بل عدم ما يصلح وجوده هو النقص، كما أن وجود ما لا يصلح وجوده نقص، فيكون حيئنذٍ نافي الحكمة هو الذي وصف الله تعالى بالنقص لا مثبتها.
الثاني: وهو قولهم: «مستكملاً بغيره» كلام مجمل؛ فإنه يقال لهم: أتعنون به أن الحكمة التي يجب وجودها حصلت له من شيء غني عنه، أم تعنون به أن تلك الحكمة نفسها هي الغير، وأنه استكمل بها؟
فإن عنيتم الأول: فهو باطل؛ لأنه لا محدث لشيء من الأشياء إلا هو، فلا ربَّ سواه، ولا خالق سواه، ولم يستفد من أحد غيره شيئًا؛ بل العالم كله إنما استفاد الكمال الذي فيه منه سبحانه وتعالى.
وإن عنيتم الثاني: فتلك الحكمة صفته عزّ وجل، وصفاته ليست غيرًا له؛ فإن حكمته قائمة به، وهو الحكيم الذي له الحكمة، كما أنه العليم الذي له العلم، فثبوت حكمته لا يستلزم استكماله بغير منفصل عنه، كما أن كماله سبحانه وتعالى بصفاته، وهو لم يستفدها من غيره.
[1] مجموع الفتاوى (8/377)، وانظر: المصدر نفسه (8/38)، وانظر من كتب الأشاعرة: مقالات الأشعري لابن فورك (130، 132) [مكتبة الثقافة الدينية، ط1، 1425هـ]، ونهاية الإقدام للشهرستاني (397)، والأربعين في أصول الدين للرازي (1/350) [دار القلم، ط1، 1424هـ].
[2] جمع الرازي حجج القوم وشبههم في هذا الباب في كتابه الأربعين في أصول الدين (1/350 ـ 352)، وقد أوصلها إلى خمس حجج، وبعضها قد ذكرها من تقدمه كالباقلاني في كتابه تمهيد الأوائل (50)، وانظر: غاية المرام للآمدي (197)، وغيرها. وقد أجاب عنها الإمام ابن تيمية في شرح الأصبهانية (410 ـ 432)، وكذا ابن القيم أجاب عنها بتوسع أكثر في شفاء العليل (2/127).
[3] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (8/146)، وشرح الأصبهانية (411)، وشفاء العليل (2/127).
1 ـ «درء تعارض العقل والنقل»، لابن تيمية.
2 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.
3 ـ «شفاء العليل»، لابن القيم.
4 ـ «الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى»، لمحمد ربيع هادي المدخلي.
5 ـ «الرسالة التدمرية»، لابن تيمية.
6 ـ «شرح مراقي السعود»، للشنقيطي.
7 ـ «القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسُّنَّة»، لعبد الرحمن بن صالح المحمود.
8 ـ «جهود شيخ الإسلام ابن تيمية في توضيح الإيمان بالقدر»، لتامر محمد متولي.