قال ابن فارس: «الحاء والكاف والميم أصل واحد، وهو المنع، وأول ذلك الحكم وهو المنع من الظلم، وسميت حَكَمة الدابة؛ لأنها تمنعها، يقال: حكمت الدابة وأحكمتها، ويقال: حكمت السفيه وأحكمته إذا أخذت على يديه»[1].
الحَكِيم: فعيل بمعنى مُفْعِل من أحكم الأشياء يُحْكِمُها؛ أي: يتقنها، فالحكيم هو المحكم للأشياء والمتقن لها[2].
[1] مقاييس اللغة (2/91) [دار الجيل].
[2] انظر: تفسير أسماء الله الحسنى للزجاج (52) [دار الثقافة العربية، 1974م].
حقيقة اسمه تعالى: الحكيم أن الله موصوف بالحكمة وهو نوعان كما قال ابن القيم:
«وهو الحكيم وذاك من أوصافه
نوعان أيضًا ما هما عدمان
حُكْم وإحكام فكل منهما
نوعان أيضًا ثابتا البرهان
والحكم شرعيٌّ وكونيٌّ ولا
يتلازمان وما هما سيّان»[1].
وقال السعدي: «والحكمة نوعان:
أحدهما: الحكمة في خلقه؛ فإنه خلق الخلق بالحق، ومشتملاً على الحق، وكان غايته والمقصود به الحق، خلق المخلوقات كلها بأحسن نظام، ورتبها أكمل ترتيب، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به؛ بل أعطى كل جزء من أجزاء المخلوقات، وكل عضو من أعضاء الحيوانات خلقته، وهيئته، فلا يرى أحد في خلقه خللاً، ولا نقصًا، ولا فطورًا.
النوع الثاني: الحكمة في شرعه وأمره، فإنه تعالى شرع الشرائع، وأنزل الكتب وأرسل الرسل ليعرفه العباد، ويعبدوه، فأي حكمة أجلّ من هذا، وأي فضل، وكرم أعظم من هذا، فإن معرفته تعالى، وعبادته وحده لا شريك له، وإخلاص العمل له وحده، وشكره، والثناء عليه أفضل العطايا منه لعباده على الإطلاق، وأجل الفضائل لمن منَّ الله عليه بها، وأكمل سعادة، وسرورًا للقلوب، والأرواح، كما أنها هي السبب الوحيد للوصول إلى السعادة الأبدية، والنعيم الدائم.
فلو لم يكن في أمره، وشرعه إلا هذه الحكمة العظيمة التي هي أصل الخيرات، وأكمل اللذات، ولأجلها خلقت الخليقة، وحق الجزاء، وخلقت الجنة، والنار لكانت كافية شافية»[2].
[1] النونية لابن القيم (2/205) [مكتبة ابن تيمية].
[2] تفسير أسماء الله الحسنى للسعدي (186 ـ 187).
ورد اسمه تعالى: {الْحَكِيمُ *} في القرآن الكريم ما يقرب من مائة مرة، قال تعالى: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ *} [البقرة] ، وقال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ *} [الأنعام] ، وقال تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ *} [النساء] ، وقال تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا *} [النساء] .
فهذه الآيات صريحة في إثبات اسمه تعالى: الحكيم، وقد ذكره جمهور من جمع أسماء الله الحسنى[1].
[1] انظر: معتقد أهل السُّنَّة والجماعة في أسماء الله الحسنى للتميمي (166) [دار إيلاف، ط1، 1417هـ].
قال الطبري ـ في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ لاَ يؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *} [النحل] ـ: «الحكيم في تدبيره، فلا يدخل تدبيره خَلَل، ولا خطأ»[1].
وقال ابن كثير: «{وَهُوَ الْحَكِيمُ}؛ أي: في أقواله وأفعاله وشرعه وقَدَره»[2].
وقال ابن القيم: «إنه سبحانه حكيم، لا يفعل شيئًا عبثًا، ولا لغير معنى ومصلحة وحكمة هي الغاية المقصودة بالفعل؛ بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل، كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل، وقد دلَّ كلامه وكلام رسوله على هذا، وهذا في مواضع لا تكاد تحصى، ولا سبيل إلى استيعاب أفرادها»[3].
وقال السعدي: «والحكيم: الموصوف بكمال الحكمة، وبكمال الحكم بين المخلوقات، فالحكيم هو واسع العلم، والاطلاع على مبادئ الأمور، وعواقبها، واسع الحمد تام القدرة غزير الرحمة، فهو الذي يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها اللائقة بها في خلقه، وأمره، فلا يتوجه إليه سؤال، ولا يقدح في حكمته مقال»[4].
[1] تفسير الطبري (17/230) [مؤسسة الرسالة، ط1].
[2] تفسير ابن كثير (6/494) [دار طيبة، ط2].
[3] شفاء العليل (190) [مكتبة الرياض الحديثة، ط1].
[4] تفسير أسماء الله الحسنى للسعدي (186).
المسألة الأولى: أن اسمه تعالى (الحكيم) يدلُّ على وصفه سبحانه بالحكمة صفة ذاتية على ما يليق بجلاله:
فقد وصف الله نفسه بها وبيَّن أنه هو الذي يعطيها وينزلها على من يشاء من عباده.
قال تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] ، وقال: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} [الإسراء: 39] ، وقال: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 113] . ولا شكَّ أن معطي الحكمة غيرَه يكون حكيمًا، إذ فاقد الشيء لا يعطيه[1].
وقد أجمع المسلمون على أن الله تعالى موصوف بالحكمة، وأنه لا يجوز أن يخلو فعل الحكيم من الحكمة، ولا تكون الحكمة إلا من فاعل مختار، يكون قاصدًا بفعله تلك الحكمة[2].
وحكمته سبحانه تتضمن شيئين:
أحدهما: حكمة تعود إليه يحبها ويرضاها.
والثاني: حكمة تعود إلى عباده هي نعمة عليهم يفرحون بها، ويلتذون بها[3].
المسألة الثانية: ذكر بعض أهل العلم من أسماء الله تعالى: (الأحكم) أخذًا من قوله تعالى: {وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ *} [هود] :
وهو صنيع ابن حزم وابن الوزير، والصحيح: أن الأحكم ليس من أسماء الله تعالى، إذ لم يرد إطلاقه اسمًا لله تعالى، ووروده في هذه الآية مضافًا لا يحقق فيه شرط الإطلاق[4].
[1] انظر: الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى لمحمد ربيع المدخلي (45) [مكتبة لينة، دمنهور، ط1، 1409هـ].
[2] انظر: منهاج السُّنَّة النبوية (1/141) [مؤسسة قرطبة، ط1، 1406هـ]، والحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى (44).
[3] انظر: مجموع الفتاوى (8/35 ـ 36).
[4] انظر: أسماء الله الحسنى في الكتاب والسُّنَّة (1/30) [ط1، 1426هـ].
يجب على كل مكلف أن يعلم بأن الله عزّ وجل خلق الخلق بالحق، ومشتملاً على الحق، وكان نهايته وغايته الحق، أوجده بأحسن نظام ورتبه بأكمل إتقان، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به، ولو اجتمعت جميع العقول على أن يقترحوا مثلَ أو أحسنَ من هذه الموجودات لم يقدروا على ذلك، كما قال تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88] .
ويجب كذلك أن يعلم بأن الله عزّ وجل إنما خلق هذا الخلق من الإنس والجن لعبادته فقط، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ *} [الذاريات] [1].
وليعلم أن كل ما يحصل للعباد من خير وشر، وما يظهر فيهم من تفاوت في العطاء، فهذا غني وهذا فقير، وهذا سليم وهذا مريض، كل ذلك بمقتضى حكمته سبحانه ليعلم من يشكره على نعمه وفضله، ولو تساوى الجميع في النعمة والعافية لم يعرف صاحب النعمة قدرها ولم يبذل شكرها.
[1] انظر: فقه الأسماء الحسنى للبدر (176 ـ 177) [ط1، 1429].
أنكر عموم المتكلمين من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة أن يوصف الله عزّ وجل بالحكمة.
أما الجهمية والأشاعرة، فقد أنكروا حكمته، وقالوا: ليس في أفعاله وأوامره لام (كي)، لا يفعل شيئًا لشيء، ولا يأمر بشيء لشيء؛ وإنما الحكمة مترتبة على الفعل وحاصلة بعده من غير أن تكون مقصودة ومرادة بالفعل[1]. وأما المعتزلة فقد زعموا أن الحكمة مخلوقة منفصلة مقصورة على الخلق، وأن الله إنما خلق الخلق للإحسان إليهم ومراعاة مصالحهم وإيصال المنافع إليهم، وأنه لا يعود إلى الله تعالى من الحكمة شيء[2].
وجميع هؤلاء قد جانبوا الصواب، إذ لو كانت الحكمة غير مطلوبة بالفعل وحاصلة من غير قصد ولا إرادة لا تعد من الحكمة في شيء بل تكون رمية من غير رام؛ فإن الحكمة لا تكون إلا من فاعل مختار يريدها ويقصدها[3].
وما تقدم من الأدلة وأقوال أهل العلم وإجماعهم ترد على نفاة الحكمة في أفعال الله تعالى وأوامره، فقد وصف الله عزّ وجل نفسه بالحكمة في آيات كثيرة، كما نزه نفسه عن أن يكون خلق الأشياء عبثًا كما في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ *} [ص] ، وقوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ *} [المؤمنون] ، وصنعُ الأشياء بغير علة عبثٌ مما يترفع عنه العقلاء فمن باب أولى أن يتنزه الله عن ذلك. فما نشاهده من حسن خلق الله وبديع صنعه لم يفعله الله عبثًا ولغوًا؛ بل في كل ذلك غاية باهرة وحكمة ظاهرة لا تنكرها إلا العقول السقيمة[4].
[1] انظر: مجموع الفتاوى (8/466).
[2] انظر: نهاية الإقدام للشهرستاني (397 ـ 398) [مكتبة المثنى ببغداد]، وشرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار (77، 83، 514 ـ 515) [مكتبة وهبة، ط2، 1408هـ]، وانظر: المواقف للإيجي (2/294 ـ 300) [دار الجيل، ط1، 1997م].
[3] انظر: الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى (37).
[4] انظر: الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى (44).
1 ـ «أسماء الله الحسنى في الكتاب والسُّنَّة»، لمحمود عبد الرزاق.
2 ـ «الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى»، للقرطبي.
3 ـ «تفسير أسماء الله الحسنى»، للزجاج.
4 ـ «تفسير أسماء الله الحسنى»، للسعدي.
5 ـ «الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى»، لمحمد ربيع المدخلي.
6 ـ «شأن الدعاء»، للخطابي.
7 ـ «شفاء العليل»، لابن القيم.
8 ـ «صفات الله الواردة في الكتاب والسُّنَّة»، للسقاف.
9 ـ «فقه الأسماء الحسنى»، لعبد الرزاق البدر.
10 ـ «المنهاج لشعب الإيمان»، للحليمي.