اختلف في سبب تسمية آدم أبي البشر عليه السلام بهذا الاسم؛ فذهب جماعة من أهل اللغة إلى أن كلمة (آدم) التي سمي بها أبو البشر عليه السلام هي كلمة أعجمية، وأن (آدم) اسم أعجمي، لا اشتقاق فيه، وهو مثل آزر، وشالخ، وغيرها، وقالوا: دعوى الاشتقاق لا تخلو من تعسف؛ لأن الاشتقاق إنما يكون من الأسماء العربية لا الأعجمية[1].
وذهب جماعة من أهل اللغة إلى أنه عربي، لكن اختلفوا في سبب تسميته، وأشهرها قول من قال: إنه من الأَدَمَة، والهمزة والدال والميم أصل واحد يدل على الموافقة والملاءمة؛ أي: أن آدم خُلِق من أدمة الأرض؛ أي: من باطنها، والأدمة في الأصل تطلق على باطن الجلد، وهي أحسن ملاءمة للَّحم من البَشَرة[2].
وقيل: الآدم من الناس هو الأسمر؛ يقال: رجل آدم، وعلى هذا سمي آدم به؛ لأنه كان أسمرَ، ويقال: الآدم في الإبل والظباء هو البياض، يقال: بعير آدم وناقة أدماء، وظبي آدم، وظبية أدماء، وعلى هذا يقولون: كان آدم عليه السلام أبيض[3].
والصواب في ذلك أن يقال: إن آدم عليه السلام سُمِّي بهذا الاسم قبل أن توجد اللغات، واللغات إنما وجدت بعد ذلك، فالله تعالى أعلم بحقيقة كلمة آدم التي سُمّي بها أبو البشر عليه السلام، لكن بالنظر في هذه الكلمة من حيث قواعد اللغة وإلى أصلها يترجح أنها أعجمية الأصل، ثم إنها وقعت للعرب فعربتها بألسنتها فصارت عربية، فهي قبل التعريب كانت أعجمية، وبعد التعريب صارت عربية[4].
[1] انظر: الكشاف للزمخشري (1/251) [مكتبة العبيكان، ط1]، ومدارك التنزيل للنسفي (1/36) [دار الكلم الطيب، ط1]، وفتح الباري لابن حجر (3/364) [دار المعرفة، بيروت].
[2] مقاييس اللغة (1/71 ـ 72) [دار الجيل، بيروت].
[3] انظر: تهذيب اللغة (12/214) [الدار المصرية]، والصحاح للجوهري (5/1858) [دار العلم للملايين، ط3]، وتفسير القرطبي (1/279) [دار الشعب، القاهرة، ط2، 1372هـ].
[4] انظر: جمهرة اللغة لابن دريد (2/258) [دار صادر]، والمعرب من الكلام الأعجمي للجواليقي (92) [دار القلم، دمشق، ط1]، والمسائل العقدية المتعلقة بآدم عليه السلام (66).
خلق الله آدم عليه السلام من تراب وماء؛ أي: من طين لازب، بيديه، ونفخ فيه من روحه، في يوم الجمعة، في آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات يوم الجمعة، بين العصر والليل.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيدي فقال: «خلق الله عزّ وجل التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل»[1].
وأُدخل آدم عليه السلام إلى الجنة ثم أخرج منها إلى الأرض؛ بسبب أكله وهو وزوجه من الشجرة التي نهيا عنهما.
[1] أخرجه مسلم (كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، رقم 2789). وقد اختلف في صحة هذا الحديث، وفي رفعه، فأعله بعض أئمة الحديث، وقدحوا فيه، وقالوا: الصحيح أنه موقوف على كعب الأحبار، وهذا مما أنكره الحذّاق على الإمام مسلم. انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (14/236). لكن خلق آدم يوم الجمعة ثبت في أحاديث أخرى صحيحة أخرجها مسلم وغيره، وسيأتي ذكرها.
أوحى الله تعالى إلى آدم عليه السلام، وأَمره ونهاه، وأَحلَّ له وحرَّم عليه، وهذا من معاني النبوة[1].
قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة] ، وقال تعالى: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ *} [البقرة] ، وقال تعالى: {فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ *} [الأعراف] ، وقال تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى *} [طه] .
قال ابن جرير رحمه الله : «آدم كان هو النبي صلّى الله عليه وسلّم أيام حياته بعد أن أُهبط إلى الأرض، والرسول من الله جلَّ ثناؤه إلى ولده، فغير جائز أن يكون معنيًّا ـ وهو الرسول صلّى الله عليه وسلّم ـ بقوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدَىً} [البقرة: 38] خطابًا له ولزوجته: فإما يأتينكم مني أنبياء ورسل»[2].
وأما من السُّنَّة: فقد جاء عن أبي أمامة رضي الله عنه «أن رجلاً قال: يا رسول الله أنبي كان آدم؟ قال: «نعم. مكلَّم» . قال: فكم كان بينه وبين نوح؟ قال: «عشرة قرون»»[3].
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنا سيِّد ولد آدم يوم القيامة، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما نبي يومئذ آدم فما سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر»[4].
قال ابن تيمية رحمه الله : «النبوة في الآدميين هي من عهد آدم عليه السلام فإنه كان نبيًّا، وكان بنوه يعلمون نبوته وأحواله بالاضطرار»[5].
[1] انظر: قصص الأنبياء لعبد الوهاب النجار (10) [المكتبة التجارية، ط4]، والنبوة والأنبياء للصابوني (132) [مكتبة الغزالي، دمشق، ط3، 1405هـ].
[2] تفسير الطبري (1/590) [دار هجر، ط. 1422هـ].
[3] أخرجه ابن حبان في صحيحه (كتاب التاريخ، رقم 6190) [الرسالة، ط2]، والحاكم (كتاب التفسير، رقم 3039) [دار الكتب العلمية، ط1]، وصححه الحاكم وابن كثير على شرط مسلم. انظر: البداية والنهاية (1/237) [دار هجر، ط1]، وصححه الألباني أيضًا في السلسلة الصحيحة (6/359) [مكتبة المعارف، ط1].
[4] أخرجه الترمذي في سننه (أبواب التفسير، رقم 3148) وحسنه، وابن ماجه (كتاب الزهد، رقم 4308)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (رقم 3543) [مكتبة المعارف، ط5].
[5] شرح العقيدة الأصبهانية (162) [مكتبة الرشد، ط1].
دلَّت قصة ابنَيْ آدم عليه السلام على مسائل عقدية وأخلاقية في دعوة آدم عليه السلام، ودلَّت بطريق الأولى على نبوته عليه السلام.
قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأََقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ *لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَِقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ *إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ *فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ *} [المائدة] .
فهذه القصة فيها دلالة على أن أولاد آدم عليه السلام كانوا على رسالة وشريعة وهداية من الله سبحانه وتعالى ، وكانوا يتقربون إلى الله تعالى بالقرابين، وكانوا يعرفون أهمية الإخلاص والخوف من الله تعالى، وأنه لا يتقبل إلا ممن كان قائمًا بالتقوى والإخلاص له تعالى، وكانوا يعلمون أن هناك ثوابًا وعقابًا، وأن الظالمين لهم عذاب النار، فهذا وغيره يشعر بأن دعوة آدم عليه السلام كانت قائمة على التوحيد، وإثبات المعاد، والنهي عن الفساد في الأرض بالقتل[1].
وقد جاءت الأدلة من القرآن والسُّنَّة على أن دعوة الأنبياء كلهم واحدة، وأصل دينهم واحد، وهو التوحيد وإفراد الله بالعبادة، وبهذا بعث الله الرسل إلى أممهم؛ كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] ، وقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ *} [فاطر: 24] .
[1] انظر: تفسير الطبري (6/194)، وأنبياء الله لأحمد بهجت (33) [دار الشروق، القاهرة، ط3]، والمسائل المتعلقة بآدم عليه السلام (806 ـ 807).
توفي آدم عليه السلام يوم الجمعة، كما ورد ذلك في بعض الأحاديث الصحيحة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم وفيه أُدخل الجنة وفيه أُخرج منها ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة»[1].
وعن أوس بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة...»[2].
وأما عن مكان دفنه فقد اختلفت أقوال المؤرخين والمفسرين فيه؛ فقيل: توفي بمكة ودفن بغار أبي قبيس، وقيل: دفن عند مسجد الخيف بمنى، وقيل: في المسجد الحرام بين الكعبة وبين بئر زمزم، وغيرها من الأقوال[3].
لكن لم يثبت شيء صحيح يستند إليه في ذلك، وهذا عام في قبور الأنبياء عليهم السلام جميعًا، اللَّهُمَّ إلا قبر نبيِّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، أو ما ذكر في قبر إبراهيم الخليل عليه السلام على اختلاف فيه.
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن قبور الأنبياء عليهم السلام : أهي هذه القبور التي تزورها الناس اليوم؟ مثل: قبر نوح، وقبر الخليل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، ويونس، وإلياس، واليسع، وشعيب، وموسى، وزكريا وهو بمسجد دمشق...؟ فأجاب رحمه الله بقوله: «الحمد لله: القبر المتفق عليه هو قبر نبيِّنا صلّى الله عليه وسلّم، وقبر الخليل فيه نزاع، لكن الصحيح الذي عليه الجمهور أنه قبره، وأما يونس، وإلياس، وشعيب، وزكريا فلا يعرف»[4].
وقال أيضًا: «حتى قال طائفة من العلماء ـ منهم عبد العزيز الكناني ـ: كل هذه القبور المضافة إلى الأنبياء لا يصح شيء منها، إلا قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم»[5].
وقال الشيخ الألباني رحمه الله : «لم يثبت في حديث مرفوع أن إسماعيل عليه السلام، أو غيره من الأنبياء الكرام دفنوا في المسجد الحرام، ولم يرد شيء من ذلك في كتاب من كتب السُّنَّة المعتمدة؛ كالكتب الستة، ومسند أحمد، ومعاجم الطبراني الثلاثة، وغيرها من الدواوين المعروفة... وغاية ما روي في ذلك آثار معضلات، بأسانيد واهيات موقوفات، أخرجها الأزرقي في: «أخبار مكة»، فلا يلتفت إليها، وإن ساقها بعض المبتدعة مساق المسلَّمات»[6].
[1] أخرجه مسلم (كتاب الجمعة، رقم 854)، وأبو داود (كتاب الصلاة، رقم 1046)، والترمذي (أبواب الجمعة، رقم 491)، وقال: «وهذا حديث صحيح»، والنسائي (كتاب الجمعة، رقم 1373).
[2] أخرجه أبو داود (كتاب الصلاة، رقم 1047)، والنسائي (كتاب الجمعة، رقم 1374)، وابن ماجه (كتاب الجنائز، رقم 1636)، وابن حبان (كتاب الرقائق، رقم 910)، وصححه النووي في الأذكار (115) [دار الفكر]، والألباني في صحيح سنن أبي داود (4/214).
[3] انظر: تاريخ الملوك والأمم للطبري (1/101) [دار الكتب العلمية، ط1]، والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم لابن الجوزي (1/227)، والبداية والنهاية لابن كثير (1/98، 326 ـ 328)، وغيرها.
[4] مجموع الفتاوى (27/445) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ط2، 1425هـ]
[5] المصدر نفسه (27/446).
[6] تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد (101) [مكتبة المعارف، ط1، 1422هـ].
المسألة الأولى: خصائص وفضائل آدم عليه السلام:
كرّم الله آدم وفضَّله بخصائص عظيمة، جاء ذكرها في القرآن والسُّنَّة، منها:
1 ـ خَلَقَهُ الله تعالى بيديه الكريمتين، كما قال تعالى: {قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] .
2 ـ ونفخ فيه من روحه، وهي من خصائصه عليه السلام التي انفرد بها عن سائر الخلق، كما قال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ *} [ص] .
وهذه الروح هي من جملة المخلوقات، وأضافه الرب تعالى إلى نفسه المقدسة إضافة خلق وملك، لا كما يزعمه أهل الباطل من الأقوال الفاسدة، التي يعلم بطلانها بضرورة الشرع والعقل.
قال ابن القيم رحمه الله : «الروح الذي نفخ منها في آدم عليه السلام روح مخلوقة غير قديمة، وهي مادة روح آدم، فروحه أولى أن تكون حادثة مخلوقة»[1].
3 ـ وأَسَجد له ملائكته بعد خلقه، كما قال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ *فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ *إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ *} [ص] .
4 ـ وأَدْخله وزوجه جنَّته، كما قال تعالى: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة: 35] .
وقد جاءت هذه الخصائص مجتمعة في حديث الشفاعة الطويل؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنَّا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في دعوة فرُفع إليه الذِّراع وكانت تعجبه فنهس منها نهسة وقال: «أنا سيِّد القوم يوم القيامة، هل تدرون بمن؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيبصرهم الناظر، ويُسمعهم الداني، وتدنو منهم الشمس. فيقول بعض الناس: ألا ترون إلى ما أنتم فيه إلى ما بلغكم؟ ألا تنظرون إلى من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس: أبوكم آدم، فيأتونه فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، وأسكنك الجنة، ألا تشفع لنا إلى ربك؟»[2].
المسألة الثانية: صفات آدم عليه السلام:
كان آدم طويل القامة، طوله ستون ذراعًا، وفي غاية الحسن والجمال.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «خلق الله آدم وطوله ستون ذراعًا، ثم قال: اذهب فَسَلِّمْ على أولئك الملائكة فاستمع ما يحيونك، تحيتك وتحية ذريتك. فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه: ورحمة الله، فكل من يدخل الجنة على صورة آدم فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن»[3].
والدليل على حسن الخلقة والجمال: قوله تعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64] ، وقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ *} [التين] ، وآدم هو أصل الإنسان، فما كان الله ليخلقه إلا في أحسن الصُّور.
قال ابن كثير: «فإن الله خلق آدم عليه السلام وصوره بيده الكريمة، ونفخ فيه من روحه، فما كان ليخلق إلا أحسن الأشباه»[4].
المسألة الثالثة: دعوى توسل آدم عليه السلام بحق النبي صلّى الله عليه وسلّم:
ادعى أهل الأهواء والبدع أن آدم عليه السلام لما أكل من الشجرة المحرمة عليه في الجنة، توسل بحق نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم وجاهه، فقبل الله توبته.
واستدلوا بحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؛ أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي، فقال الله: يا آدم وكيف عرفت محمدًا ولم أخلقه؟ قال: يا رب لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت فيَّ من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبًا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك. قال الله: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إلي. ادعني بحقه، فقد غفرت لك، ولولا محمد لما خلقتك»[5].
قالوا: إن آدم عليه السلام توسل بالنبي صلّى الله عليه وسلّم قبل وجوده، لا يمكن أن يكون قد توسل بدعائه، وإنما ذلك توسل منه بحق النبي صلّى الله عليه وسلّم وجاهه عند الله[6].
وبطلان هذه الدعوة من عدة أوجه:
أحدها: أن الحديث موضوع وكذب، لم يثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ففي إسناده من هو متهم بالكذب والوضع[7]. قال ابن تيمية: «ليس له أصل، وهو من جنس ما يرويه بعض العامة من الموضوعات، ولا يوجد في أئمة الإسلام من احتج بها، ولا اعتمد عليها»[8].
الثاني: أن آدم عليه السلام قد تلقَّى من ربه كلمات فتاب عليه، ولم يثبت أنه توسل بحق النبي صلّى الله عليه وسلّم أو بجاهه، فلو كان ثابتًا لما عدل عن ذكره المفسرون من السلف، عند تفسيرهم للكلمات.
الثالث: أن التوبة تكون بالذنب والإقرار له والاستغفار منه، ويتضمن ذلك قوله تعالى: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ *} [الأعراف] ، وإذا حصلت المغفرة بالتوبة حصل المقصود بها، ولا حاجة إلى غيره[9].
الرابع: لو كان آدم عليه السلام قد قال هذا، وبه حصلت التوبة لكانت أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم أحق به منه، ولأمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يدعوا بهذا الدعاء، وشرعه لهم، لكن لم يأمر أمته به، ولم يشرعه لهم، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة الأخيار، ولم ينقل عن أحد من العلماء الأبرار، فدل على فساده وبطلانه.
الخامس: من المعلوم بالاضطرار أن من هو دون آدم عليه السلام من الكفار والفساق إذا تاب أحدهم إلى الله تاب عليه، وإن لم يقسم عليه بأحد، فكيف يحتاج آدم عليه السلام في توبته ما لا يحتاج إليه أحد من المذنبين لا مؤمن ولا كافر[10].
المسألة الرابعة: مناظرة موسى عليه السلام لآدم عليه السلام:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «احتج آدم وموسى؛ فقال له موسى: يا آدم أنت أبونا خيَّبتنا وأخرجتنا من الجنة. قال له آدم: يا موسى، اصطفاك الله بكلامه، وخطَّ لك بيده، أتلومني على أمر قدَّر الله عليَّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة!؟ فحجَّ آدمُ موسى، فحجَّ آدمُ موسى»[11].
احتج الجبرية بهذا الحديث على فعل المعاصي، وترك الواجبات، بناء على أصلهم الفاسد في احتجاجهم بقدر الله على نفي أفعال العباد الاختيارية، وزعموا أن آدم احتج بالقدر على ما وقع منه من مخالفة الأمر الإلهي بالأكل من الشجرة المحرمة[12].
والجواب من عدة أوجه[13]:
أحدها: أن آدم عليه السلام لم يحتج بالقدر على فعل المعصية، وإنما احتج بالقدر على المصيبة التي أصابته وذريته، فهو عليه السلام أجلُّ من أن يحتج بالقدر على فعل المعاصي.
الثاني: أن آدم عليه السلام تاب وندم واستغفر من خطيئته، فتاب الله عليه، وهو يدل على أن القدر ليس بحجة في فعل المعاصي؛ إذ لو كان ذلك كذلك لم يكن هناك حاجة تدعو إلى الندم والتضرع والاستغفار، بل كان يكفيه القدر حجة واعتذارًا.
الثالث: أن موسى عليه السلام لم يلمه على فعل المعصية، بل إنما لامه على المصيبة، التي وقعت لبنيه من بعده؛ لأن آدم عليه السلام كان قد تاب من ذنبه فتاب الله عليه، ثم إن موسى أجلُّ من أن يلوم أباه آدم عليه السلام على فعل المعصية، مع علمه بتوبته وقبولها من الله تعالى.
الرابع: لو أن موسى عليه السلام لام آدم عليه السلام على فعل المعصية لأجابه آدم عليه السلام بأنه قد تاب منها، وأن الله تاب عليه، ولقال له: وأنت أيضًا يا موسى قتلت رجلاً لم تؤمر بقتله، ولكن آدم عليه السلام لم يجب بذلك، فدلَّ على أن لوم موسى عليه السلام لم يكن لأجل المعصية، وإنما كان لأجل المصيبة، ونحو ذلك من الأوجه الكثيرة التي تبطل هذا المذهب وترده.
[1] الروح (282) [دار إحياء العلوم، بيروت، ط1].
[2] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3340)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 194)، واللفظ للبخاري.
[3] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3326)، ومسلم (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم 2841).
[4] البداية والنهاية (1/97).
[5] أخرجه الطبراني في الأوسط (6/313) [دار الحرمين]، والحاكم في المستدرك (كتاب آيات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، رقم 4228) [دار الكتب العلمية، ط1]، وعنه البيهقي في دلائل النبوة (5/489) [دار الكتب العلمية، ط1].
[6] انظر: تلخيص الاستغاثة لابن كثير (1/52) [مكتبة الغرباء الأثرية، ط1]، وشفاء السقام للسبكي (161) [دار الآفاق الجديدة، ط2]، وسعادة الدارين في الرد على الفرقتين للسمنودي (156) [مطبعة جريدة الإسلام، مصر]، وشواهد الحق للنبهاني (156) [دار الفكر، بيروت].
[7] انظر: الصارم المنكي في الرد على السبكي لابن عبد الهادي (60) [مكتبة التوعية الإسلامية لإحياء التراث الإسلامي]، والتوسل أنواعه وأحكامه للألباني (115) [المكتب الإسلامي، بيروت، ط4].
[8] الاستغاثة (1/67).
[9] انظر: الاستغاثة (1/69)، الوجه الثاني والثالث.
[10] انظر: منهاج السُّنَّة النبوية (1/131 ـ 132)، الوجه الرابع والخامس.
[11] أخرجه البخاري (كتاب القدر، رقم 6614)، ومسلم (كتاب القدر، رقم 2652).
[12] انظر: مجموع الفتاوى (8/179)، ومنهاج السُّنَّة (3/43)، وشفاء العليل (14).
[13] انظر: مجموع الفتاوى (2/325) و(8/108، 321، 454) و(10/160) و(11/259) و(17/98)، ومنهاج السُّنَّة (3/80)، وشفاء العليل (14)، والبداية والنهاية (1/85)، وشرح الطحاوية (136) [مؤسسة الرسالة، ط2]، وإيثار الحق على الخلق لابن الوزير اليماني280 [دار الكتب العلمية، ط2، 1407هـ].
1 ـ «آدم أبو البشر»، لعبد الله بن حسين الموجان.
2 ـ «آدم عليه السلام»، للبهي الخولي.
3 ـ «البداية والنهاية» (ج1)، لابن كثير.
4 ـ «تحفة النبلاء من قصص الأنبياء»، لابن كثير، انتخب كتابه ابن حجر العسقلاني.
5 ـ «قصص الأنبياء المعروف بالعرائس»، لأبي إسحاق الثعلبي.
6 ـ «قصص الأنبياء»، للسعدي.
7 ـ «قصص الأنبياء القصص الحق»، لشيبة الحمد.
8 ـ «شرح العقيدة الطحاوية» (ج2)، لابن أبي العز.
9 ـ «المعارف»، لابن قتيبة.
10 ـ «المسائل العقدية المتعلقة بآدم»، لألطاف الرحمن بن ثناء الله [رسالة ماجستير].