قال ابن فارس رحمه الله: «الحاء والميم والدال كلمة واحدة وأصل واحد يدل على خلاف الذم. يقال: حمدت فلانًا أحمده. ورجل محمود ومحمد، إذا كثرت خصاله المحمودة غير المذمومة»[1].
الحمد: نقيض الذم، تقول: حمدت الرجل أحمده حمدًا ومحمدة، فهو حميد ومحمود، والتحميد أبلغ من الحمد، وهو كثرة حمد الله تعالى، والمحمدة: خلاف المذمة[2].
[1] مقاييس اللغة (2/100) [دار الجيل، 1420هـ].
[2] انظر: مقاييس اللغة (2/100)، والصحاح للجوهري (2/466) [دار العلم للملايين، ط3]، ولسان العرب (15/314) [دار إحياء التراث العربي، ط3].
الحمد: ذكر محاسن المحمود والإخبار بها، مع حبه وإجلاله وتعظيمه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: «الحمد خبر بمحاسن المحمود مقرون بمحبته»[1].
وقال ابن القيّم رحمه الله: «الحمد: إخبار عن محاسن المحمود مع حبّه وإجلاله وتعظيمه»[2].
[1] منهاج السُّنَّة النبوية (5/404) [جامعة الإمام، ط1، 1406هـ]، وانظر: دقائق التفسير (2/366) [مؤسسة علوم القرآن، دمشق، ط2، 1404هـ].
[2] بدائع الفوائد (2/93) [دار الكتاب العربي، بيروت].
الحمد: على الإطلاق لا يكون إلا لله، فهو المستحق للحمد كله، وبالنظر لأفعال العبد وتعلق الحمد بها، فإنه يكون واجبًا؛ كالحمد في خطبة الجمعة، ويكون مستحبًّا كالحمد بعد العطاس، ويكون مكروهًا كالحمد حال قضاء الحاجة، ويكون محرمًا إذا تضمن منهيًّا كالشرك بالله[1].
[1] انظر: الحمد على ضوء الكتاب والسُّنَّة وأقوال السلف الصالح لوليد السعدون (325) [دار رواء، القاهرة، ط1].
إن منزلة الحمد منزلة عظيمة في الشريعة الإسلامية، فالحمد أَوسع الصفات وأَعم المدائح والطرق إِلى العلم به في غاية الكثرة، والسبيل إِلى اعتباره فى ذرّات العالم وجزئياته وتفاصيل الأمر والنهي واسعة جدًّا؛ لأن جميع أسمائه تبارك وتعالى حمد، وصفاته حمد وأفعاله حمد، وأحكامه حمد، وعدله حمد، وانتقامه من أعدائه حمد، وفضله في إحسانه إلى أوليائه حمد، والخلق والأمر إنما قام بحمده، ووجد بحمده، وظهر بحمده، وكان الغاية هي حمده، فحمده سبب ذلك وغايته ومظهره وحامله، فحمده روح كل شيء، وقيام كل شيء بحمده، وسريان حمده فى الموجودات وظهور آثاره فيه أَمر مشهود بالأبصار والبصائر.
وما يبين منزلة الحمد أن الحمد شرع أمام كل خطاب مع التوحيد.
ففي الفاتحة الشكر والتوحيد، والخطب الشرعية لا بد فيها من الشكر والتوحيد. والباقيات الصالحات نوعان؛ فسبحان الله وبحمده فيها الشكر والتنزيه والتعظيم، ولا إله إلا الله، والله أكبر فيها التوحيد والتكبير، وكثير من الأذكار تضمنت التحميد لله تعالى[1].
[1] انظر: مجموع الفتاوى (14/311) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ط2، 1425هـ]، وطريق الهجرتين (1/125) [دار السلفية، القاهرة، ط2].
أدلة الحمد في القرآن كثيرة جدًّا، منها على سبيل المثال: قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *} [الفاتحة] ، وقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ *} [الأنعام] ، وقوله سبحانه {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا *} [الكهف] .
ومن السُّنَّة: حديث أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ـ أو: تملأ ـ ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها» [1].
وعن ابن أبي أوفى قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا رفع ظهره من الركوع قال: «سمع الله لمن حمده، اللَّهُمَّ ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد» [2].
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من تعارَّ من الليل، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللَّهُمَّ اغفر لي، أو دعا، استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته» [3].
[1] صحيح مسلم (كتاب الطهارة، رقم 223).
[2] أخرجه مسلم (كتاب الصلاة، رقم 476).
[3] أخرجه البخاري (كتاب التهجد، رقم 1154).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «والحمد إنما يكون على المحاسن، وقرن بين الحمد والتعظيم كما قرن بين الجلال والإكرام؛ إذ ليس كل معظم محبوبًا محمودًا ولا كل محبوب محمودًا معظمًا»[1].
وقال أيضًا: «التحميد يتضمن التعظيم ويتضمن إثبات ما يحمد عليه وذلك يستلزم الإلهية؛ فإن الإلهية تتضمن كونه محبوبًا؛ بل تتضمن أنه لا يستحق كمال الحب إلا هو، والحمد هو الإخبار عن المحمود بالصفات التي يستحق أن يجب، فالإلهية تتضمن كمال الحمد، ولهذا كان الحمد لله مفتاح الخطاب، وكل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم»[2].
وقال ابن القيم رحمه الله: «فالحمد هو الإخبار بمحاسن المحمود على وجه الحب له، ومحاسن المحمود تعالى إما قائمة بذاته، وإما ظاهرة في مخلوقاته، فأما المعدوم المحض الذي لم يخلق ولا خلق قط فذاك ليس فيه محاسن ولا غيرها، فلا محامد فيه البتة، فالحمد لله الذي يملأ المخلوقات ما وجد منها، وما يوجد هو حمد يتضمن الثناء عليه بكماله القائم بذاته، والمحاسن الظاهرة في مخلوقاته»[3].
[1] دقائق التفسير (2/365).
[2] المصدر السابق.
[3] طريق الهجرتين (1/241 ـ 242) [دار عالم الفوائد، ط1، 1429هـ].
يقسم الحمد باعتبارات مختلفة:
أولاً: باعتبار الإطلاق والتقييد، حيث ينقسم إلى قسمين:
الحمد المطلق: وهو الذي لا يكون مقيدًا بزمان أو حال أو فعل.
والحمد المقيد: وهو الذي يكون مقيدًا بزمان أو حال أو فعل[1].
ثانيًا: يقسم باعتبار تعلقه بالله إلى نوعين:
1 ـ حمد لله على ما يستحقه بنفسه.
2 ـ وحمد على إحسانه لعبده[2].
[1] انظر: الحمد على ضوء الكتاب والسُّنَّة وأقوال السلف الصالح (173).
[2] التحفة العراقية (58) [المطبعة السلفية، القاهرة].
المسألة الأولى: قول: (الحمد كله لله) له معنيان:
أحدهما: أَنه محمود على كل شيء وبكل ما يحمد به المحمود التام وإن كان بعض خلقه يحمد أيضًا كما يحمد رسله وأنبياؤه وأَتباعهم؛ فذلك من حمده تبارك وتعالى؛ بل هو المحمود.
المعنى الثاني: أي: الحمد التام الكامل فهذا مختص بالله عزّ وجل ليس لغيره فيه شركة.
والتحقيق أَن له الحمد بالمعنيين جميعًا[1].
المسألة الثانية: حكم حمد المخلوق:
حمد المخلوق إذا كان من باب شكرهم على حسن أفعالهم ولا يتضمن تعظيمًا ولا حبًّا لا يليق إلا بالله فلا بأس به، وفي الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس» [2].
قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله: «هذا الكلام يتأول على وجهين؛ أحدهما: أن من كان طبعه وعادته كفران نعمة الناس وترك الشكر لمعروفهم كان من عادته كفران نعمة الله وترك الشكر له سبحانه.
والوجه الآخر: أن الله سبحانه لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه إذا كان العبد لا يشكر إحسان الناس ويكفر معروفهم لاتصال أحد الأمرين بالآخر»[3].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وأما أهل السُّنَّة فيقولون: الحمد لله كله، وإنما للعبد حمد مقيد، لكون الله تعالى أنعم عليه، كما للعبد ملك مقيد. وأما الملك المستقل والحمد المستقل والملك العام والحمد العام فهو لله ربِّ العالمين»[4].
[1] طريق الهجرتين (1/115) [دار السلفية، القاهرة، ط2].
[2] أخرجه أبو داود (كتاب الأدب، رقم 4811)، والترمذي (أبواب البر والصلة، رقم 1954) وصححه، وأحمد (12/472) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/776) [مكتبة المعارف، ط1425هـ].
[3] معالم السنن (4/113) [المطبعة العلمية بحلب، ط1، 1352هـ].
[4] جامع المسائل لابن تيمية (3/285) [دار عالم الفوائد، ط1، 1422هـ].
الفرق بين الحمد والشكر:
الحمد أعم من الشكر من جهة أسبابه؛ فإنه يكون على نعمة وعلى غير نعمة، والشكر أعم من جهة أنواعه؛ فإنه يكون بالقلب واللسان واليد[1].
والحمد: يتضمن المدح والثناء على المحمود بذكر محاسنه، سواء كان الإحسان إلى الحامد أو لم يكن، والشكر لا يكون إلا على إحسان المشكور إلى الشاكر، فمن هذا الوجه الحمد أعم من الشكر[2].
قال ابن القيم رحمه الله: «الشكر أعم من جهة أنواعه وأسبابه، وأخص من جهة متعلقاته. والحمد أعم من جهة المتعلقات، وأخص من جهة الأسباب؛ ومعنى هذا: أن الشكر يكون بالقلب خضوعًا واستكانة، وباللسان ثناء واعترافًا، وبالجوارح طاعة وانقيادًا. ومتعلقه: النعم، دون الأوصاف الذاتية، فلا يقال: شكرنا الله على حياته وسمعه وبصره وعلمه. وهو المحمود عليها. كما هو محمود على إحسانه وعدله، والشكر يكون على الإحسان والنعم، فكل ما يتعلق به الشكر يتعلق به الحمد من غير عكس، وكل ما يقع به الحمد يقع به الشكر من غير عكس. فإن الشكر يقع بالجوارح. والحمد يقع بالقلب واللسان»[3].
الفرق بين الحمد والمدح:
المدح: الإخبار عن محاسن الغير إخبارًا مجردًا من حب وإرادة.
والحمد: إخبار عن محاسن المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه[4].
الفرق بين الحمد والذم:
الحمد : خبر بمحاسن المحمود مقرون بمحبته.
والذم: خبر بمساوئ المذموم مقرون ببغضه؛ فلا يكون حمد لمحمود إلا مع محبته، ولا يكون ذم لمذموم إلا مع بغضه[5].
[1] انظر: مجموع الفتاوى (14/308).
[2] انظر: مجموع الفتاوى (11/133 ـ 134).
[3] مدارج السالكين (2/237) [دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، 1416هـ]، وانظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (2/387) [دار الكتب العلمية، ط1، 1408هـ].
[4] مدارج السالكين (2/93).
[5] منهاج السُّنَّة النبوية (5/404) [جامعة الإمام، ط1، 1406هـ].
الحمد: هو من جملة الذكر، وللذكر عمومًا آثار كثيرة: منها طمأنينة القلب، وسكونه وراحته كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ *} [الرعد] .
ومن آثاره: الرضا بكل ما يقدره الله تعالى للعبد؛ إذ إن الحمد يشرع على كل حال، سواء كان في السراء أو الضراء، وهذا مما يورث التسليم والانقياد والقبول لأوامر الله تعالى، ولقضائه وقدره.
ومنها: زيادة النعم ونماؤها، وحصول البركة في الرزق والمال والأهل، كما قال جلّ جلاله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأََزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] .
القدرية يرون العبد خالقًا لفعله، وأن الله لم يقدر له الطاعات، فعلى أصلهم هذا لا يستحق الله الحمد على التوفيق وعمل الطاعات، إذ كان ما أعطاهم من القدرة والتمكين وإزاحة العلل قد أعطى الكفار مثله[1].
وحقيقة قول الجبرية أنه سبحانه لا يستحق الحمد على عمل الطاعات وترك السيئات؛ لأن العبد مجبور عليها، وليس لله نعمة على العبد في صرفه عن معصيته، ولا له في ذلك حكمة[2].
وأما بيان بطلان مذهبهم فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وعلى مذهب السلف: له الملك وله الحمد تامين، وهو محمود على حكمته، كما هو محمود على قدرته ورحمته، وقد قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *} [آل عمران] ، فله الوحدانية في إلهيته، وله العدل، وله العزة، والحكمة، وهذه الأربعة إنما يثبتها السلف وأتباعهم، فمن قصر عن معرفة السُّنَّة، فقد نقص الرب حقه»[3].
وقال ابن القيم رحمه الله: «فهؤلاء لم يثبتوا له كمال الحمد ـ يعني: الجبرية ـ، كما لم يثبت له أولئك كمال الملك ـ يعني: القدرية ـ، وكِلا القولين منكر عند السلف وجمهور الأمة»[4].
[1] انظر: جامع المسائل (3/283)، وطريق الهجرتين (1/246) [دار عالم الفوائد، ط1، 1429هـ].
[2] انظر: مجموع الفتاوى (14/309)، وطريق الهجرتين (1/246) [دار عالم الفوائد، ط1، 1429هـ].
[3] مجموع الفتاوى (14/309 ـ 310).
[4] طريق الهجرتين (1/247) [دار عالم الفوائد، ط1، 1429هـ].
1 ـ «التحفة العراقية»، لابن تيمية.
2 ـ «التسبيح»، لمحمد بن إسحاق كندو.
3 ـ «بدائع الفوائد»، لابن القيم.
4 ـ «الحمد على ضوء الكتاب والسُّنَّة وأقوال السلف الصالح»، لوليد بن عيسى السعدون.
5 ـ «جامع المسائل» (ج3)، لابن تيمية.
6 ـ «دقائق التفسير»، لابن تيمية.
7 ـ «طريق الهجرتين» (ج1)، لابن القيم.
8 ـ «منهاج السُّنَّة النبوية»، لابن تيمية.
9 ـ «مدارج السالكين» (ج2)، لابن القيم.
10 ـ «معالم السنن» (ج4)، للخطابي.
11 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.