الحنيفية في اللغة: مشتقة من الحَنَف: وهو الاعوجاجُ في الرِجل، وذلك بإقْبالِ كل واحدة من القدمين على الأُخرى بإبْهامها، ومنه سُمي الأحنف بن قيس، لحنف كان في رجليه، والحنف أيضًا: الميل، يقال: تَحَنَّفَ فلان إلى الشيء تَحَنُّفًا: إذا مال إليه[1].
[1] انظر الصحاح (4/1347)، والنهاية في غريب الحديث (1/451)، والقاموس المحيط (1036)، وتفسير الطبري (1/594)، وزاد المسير (90).
الحنيفية هي الإسلام العام: عبادة الله وحده لا شريك له، والإيمان بكتبه ورسله واليوم الآخر، فهي حقيقة الإسلام الذي لا يقبل الله دينًا سواه، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ *} [آل عمران] ، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ *} [الأنعام] .
وضد الحنيفية: الشرك بالله تعالى، قال تعالى: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ *} [يونس] . فمن ترك الحنيفية صار من المشركين[1].
[1] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (35/188)، والفتاوى الكبرى له (1/281)، والجواب الكافي (135).
لما كانت ملة إبراهيم التي هي الإسلام في حقيقتها ميلاً عن الشرك إلى التوحيد، كما قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ *} [النحل] ، وكان الميل في اللغة هو أحد معاني الحنف، أطلق ذلك على ملة إبراهيم عليه السلام التي هي الإسلام، لكونها ميلاً عن الشرك.
الحنيفية: هي الفطرة التي ارتضاها الله تعالى لعباده ولا يقبل غيرها، وهي ملة الإسلام ودين أهل التوحيد في كل زمان ومكان الذي عليه الأنبياء والمرسلون عليهم السلام، وهي الاعتقاد المَائِل عن كل دين بَاطِل لا يُرضي الله إِلَى الدين المستقيم الذي يرضي الله، وتحقيقها يكون بالاستسلام للخالق عزّ وجل والانقياد له بالطاعة، والخلوص له من الشرك، وذلك بفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه[1].
[1] انظر: العذب النمير للشنقيطي (2/620) [دار عالم الفوائد، ط2، 1426هـ].
قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] ، وقال تعالى: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ *} [يونس] ، وقال تعالى: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ *} [الحج] ، وقوله تعالى: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ *} [الأنعام] ، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ *} [البينة] .
ومن السُّنَّة: حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال ذات يوم في خطبته: «ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم، مما علمني يومي هذا، كل مال نحلته عبدًا حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا»[1].
وحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أي الأديان أحبّ إلى الله؟ قال: «الحنيفية السمحة» [2]. قال ابن القيم رحمه الله معلقًا على هذا الحديث: «فهي حنيفية في التوحيد وعدم الشرك سمحة في العمل وعدم الآصار والأغلال بتحريمهم من الطيبات الحلال فيعبد سبحانه بما أحبه ويستعان على عبادته بما أحله»[3].
أقوال أهل العلم:
قال الطبري: «فإن قال: فكيف أضيف الحنيفية إلى إبراهيم وأتباعه على ملته خاصة، دون سائر الأنبياء قبله وأتباعهم؟ قيل: إنّ كل من كان قبل إبراهيم من الأنبياء كان حنيفًا متّبعًا طاعة الله، ولكن الله تعالى ذكره لم يجعل أحدًا منهم إمامًا لمن بعده من عباده إلى قيام الساعة؛ كالذي فعل من ذلك بإبراهيم، فجعله إمامًا فيما بيّنه من مناسك الحج والختان، وغير ذلك من شرائع الإسلام، تعبُّدًا به أبدًا إلى قيام الساعة، وجعل ما سنّ من ذلك علمًا مميزًا بين مؤمني عباده وكفارهم، والمطيع منهم له والعاصي، فسمي الحنيف من الناس: حنيفًا؛ باتباعه ملته، واستقامته على هديه ومنهاجه، وسمي الضال عن ملته بسائر أسماء الملل، فقيل: يهودي، ونصراني، ومجوسي، وغير ذلك من صنوف الملل»[4].
وقال ابن تيمية: «الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام فإن الحنف هو الميل عن الشيء بالإقبال على آخر، فالدين الحنيف هو الإقبال على الله وحده والإعراض عما سواه، وهو الإخلاص الذي ترجمته كلمة الحق والكلمة الطيبة لا إله إلا هو، اللَّهُمَّ ثبتنا عليها في الدنيا وفي الآخرة ولا حول ولا قوة بالله»[5].
وقال أيضًا: «وأما الكتب السماوية المتواترة عن الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ فناطقة بأن الله لا يقبل من أحد دينًا سوى الحنيفية، وهي الإسلام العام عبادة الله وحده لا شريك له، والإيمان بكتبه ورسله واليوم الآخر، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ *} [البقرة] ، وبذلك أخبرنا عن الأنبياء المتقدمين وأممهم»[6].
وقال ابن القيم: «الحنيفية: ملة إبراهيم التي أمر الله بها عباده كلهم ولا يقبل من أحد غيرها، وهي حقيقة الإسلام كما قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ *} [آل عمران] ، وهي ملة إبراهيم عليه السلام التي من رغب عنها فهو من أسفه السفهاء»[7].
[1] أخرجه مسلم (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم 2865).
[2] أخرجه أحمد (4/17) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وعلقه البخاري في صحيحه (كتاب الإيمان، باب الدين يسر)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (رقم 881) [مكتبة المعارف، ط1، 1415هـ].
[3] شفاء العليل (303) [دار المعرفة، ط. 1398هـ].
[4] تفسير الطبري (1/566).
[5] الفتاوى الكبرى (1/281).
[6] مجموع الفتاوى (35/188).
[7] الجواب الكافي (135).
المسألة الأولى: الحنيفية دين جميع الأنبياء عليهم السلام:
لما كانت الحنيفية هي الإسلام الذي هو عبادة الله تعالى وتوحيده، فهي دين جميع الأنبياء عليهم السلام، الذي لا يقبل الله سواه، وضد ذلك مأخوذ عن المشركين والصابئين، أعداء إبراهيم إمام الحنفاء عليه السلام[1].
المسألة الثانية: إضافة الحنيفية إلى ملة إبراهيم عليه السلام:
أضيفت الحنيفية إلى ملة إبراهيم عليه السلام، ووصف عليه السلام بذلك في عدد من الآيات القرآنية؛ كقوله تعالى: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ *} [البقرة] ، وقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} [النحل: 120] ، وقوله: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ *} [البقرة] .
وأما سبب إضافة الحنيفية إلى ملة إبراهيم عليه السلام دون غيره من الأنبياء عليهم السلام ممن كان قبله، فذلك راجع إلى أمرين:
1 ـ أن الله سبحانه وتعالى جعله إمامًا في التوحيد والبراءة من الشرك والمشركين، كما قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ *} [النحل] .
2 ـ أن إبراهيم عليه السلام، هو أول إمام لزم العبادَ ـ الذين كانوا في عصره ومن جاؤوا بعده إلى قيام الساعة ـ اتباعُه في مناسك الحج، وفي الختان، ولذا فسر بعض السلف الحنيفية، بأنها حج البيت والختان[2].
المسألة الثالثة: معنى حديث: «خلقت عبادي حنفاء...»:
الحديث يدل على أن الله تعالى فطر العباد مائلين عن الشرك إلى التوحيد. مستقيمين منيبين لقبول الهداية، وقيل: المراد حين أخذ عليهم العهد في الذر وقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}، فأزالتهم الشياطين عما كانوا عليه، وصرفتهم عن عبادة ربهم والإقرار بألوهيته سبحانه[3].
ثم لا بد من البيان أنه لا تعارض بين حديث: «خلقت عبادي حنفاء...» وحديث: «كلكم ضال إلا من هديته...» ، والجواب عن ذلك أن يقال:
1 ـ أن الله خلق بني آدم وفطرهم على قبول الإسلام، والميل إليه، لكن لا بد للعبد من تعلم الإسلام بالفعل؛ لأنه قبل التعلم يكون جاهلاً.
2 ـ أن الإنسان يولد مفطورًا على قبول الحق، فإن هداه الله سبَّب له من يعلمه الهدى.
قال ابن رجب: «وقوله: «كلكم ضال إلا من هديته» ، قد ظن بعضهم أنه معارض لحديث: يقول الله عزّ وجل: «خلقت عبادي حنفاء» ، وليس كذلك، فإن الله خلق بني آدم وفطرهم على قبول الإسلام، والميل إليه دون غيره، والتهيؤ لذلك والاستعداد له بالقوة، لكن لا بد للعبد من تعلم الإسلام بالفعل»[4].
[1] انظر: مجموع الفتاوى (35/188) (10/73)، وتفسير ابن عطية (136).
[2] انظر: تفسير الطبري (1/566).
[3] انظر: شرح مسلم للنووي (17/97) [دار إحياء التراث، ط2، 1392هـ].
[4] جامع العلوم والحكم (1/441).
الفرق بين الحنيفية والفطرة:
ورد لفظ الفطرة في القرآن الكريم في قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ *} [الروم] ، كما ورد ذلك في السُّنَّة في عدد من الأحاديث الصحيحة؛ كقوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه»[1].
وقد اختلف العلماء في المراد بالفطرة الواردة في النصوص، هل هي مرادفة للحنيفية والإسلام على أقوال كثيرة، أهمها قولان:
1 ـ أن الفطرة ليست مرادفة للإسلام والحنيفية، وإنما يراد بها السلامة من الكفر والإيمان، واحتج أصحاب هذا القول، بأن الإنسان يولد لا يعلم شيئًا كما قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78] .
وقد ذهب إلى هذا القول طائفة من أهل العلم ورجحه ابن عبد البر وغيره[2].
2 ـ أن الفطرة مرادفة للحنيفية والإسلام، فقد فطر الناس على الإسلام، وعلى هذا تدلُّ الآية المتقدمة، حيث أمر الله بإقامة الوجه للدين الحنيف، وأخبر سبحانه أنه هو الفطرة التي فطر الناس عليها، ويدل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم حيث ذكر في الحديث ملل الكفر دون ملة الإسلام، فعلم أنه يتحول من الإسلام إلى غيره بفعل الأبوين، وهذا القول هو قول عامة السلف رحمهم الله ، ورجحه ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من المحققين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «الآثار المنقولة عن السلف لا تدل إلا على هذا القول الذي رجحناه لا تدل على أنه حين الولادة لم يكن على فطرة سليمة مقتضية للإيمان مستلزمة له لولا المعارض»[3].
[1] رواه البخاري (كتاب الجنائز، رقم 1385)، ومسلم (كتاب القدر، رقم 2658).
[2] التمهيد لابن عبد البر (18/70)، وانظر: عقيدة الإمام ابن عبد البر، لسليمان الغصن (435).
[3] درء التعارض (8/410)، وانظر: تحفة المودود (113).
1 ـ «تحفة المودود»، لابن القيم.
2 ـ «تفسير الطبري» (ج1).
3 ـ «جامع العلوم والحكم»، لابن رجب.
4 ـ «الجواب الكافي»، لابن القيم.
5 ـ «درء التعارض»، لابن تيمية.
6 ـ «زاد المسير في علم التفسير»، لابن الجوزي.
7 ـ «عقيدة الإمام ابن عبد البر في التوحيد والإيمان»، لسليمان الغصن.
8 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.
9 ـ «الفتاوى الكبرى» (ج1)، لابن تيمية.
10 ـ «النهاية في غريب الحديث»، لابن الأثير.