حرف الألف / الأسباب

           

قال ابن فارس رحمه الله : «السين والباء حدَّه بعض أهل اللغة ـ وأظنه ابن دريد ـ: أن أصل هذا الباب القطع، ثم اشتق منه الشتم... وأما الحبل: فالسَّبب، فممكن أن يكون شاذًّا عن الأصل الذي ذكرناه، ويمكن أن يقال: إنه أصل آخر يدل على طول وامتداد، ومن ذلك السَّبب»[1].
والأسباب: جمع (سبب)، والسبب الحبل، وكل شَيْء يُتوصَّل به إلى غيره، وفي القرآن: {...وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا *} [الكهف] ، والقرابة، والمودة، والباب، يقال: ما لي إِليك سبب طَرِيق[2].


[1] مقاييس اللغة (3/63 ـ 64) [دار الجيل، 1420هـ]
[2] انظر: مقاييس اللغة (1/64)، والمعجم الوسيط (1/411) [مجمع اللغة العربية، دار الدعوة].


الأسباب: هي ما يتوصل بها إلى مسبباتها، ويحصل بها المقصود المطلوب، كالوطء لإنجاب الأولاد، والسقي للحرث، والنار للحرق، وكالعمل الصالح لتحصيل الإيمان، ونحوها من الأسباب القدرية والشرعية[1].
الأسماء الأخرى:
التولُّد؛ إذ يقال في تعريفه: «تولد الشيء من الشيء؛ أي: حدث»[2].


[1] انظر: شفاء العليل لابن القيم (319) [دار الكتب العلمية، ط3].
[2] شمس العلوم لنشوان الحميري (11/7296) [دار الفكر المعاصر، بيروت، ط1، 1420هـ].


يجب الإقرار بأن الله ربط الأسباب بمسبباتها؛ شرعًا وقدرًا، وجعل الأسباب محل حكمته في أمره الديني الشرعي، وأمره الكوني القدري، فإنكار الأسباب والقوى والطبائع جحد للضروريات، وقدح في العقول والفطر، ومكابرة للحس، وجحد للشرع[1].


[1] انظر: منهاج السُّنَّة (5/361 ـ 368)، ومجموع الفتاوى (8/138 ـ 140، 175 ـ 177).


جعل اللهُ عزّ وجل الكون كله قائمًا على الفعل وأثر الفعل، أو إن شئت قلت: السبب والمسبَبَ، قال ابن القيم: «بل الموجودات كلها أسباب ومسببات، والشرع كله أسباب ومسببات، والمقادير أسباب ومسببات»[1].


[1] شفاء العليل (1/188) [دار المعرفة، 1398هـ].


لا نجد كتابًا من الكتب أعظم إثباتًا للأسباب من القرآن؛ فالقرآن يدل على إثبات الأسباب الكونية والشرعية، من وجوه كثيرة؛ منها:
1 ـ كل موضع في القرآن رتّب فيه الحكم الشرعي أو الجزائي على الوصف أفاد كونه سببًا له، من ذلك قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ} [المائدة: 38] .
2 ـ كل موضع تضمّن الشرط والجزاء أفاد سببه الشرط والجزاء، ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأََزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ *} [إبراهيم] .
3 ـ كل موضع ذُكرت فيه الباء تعليلاً لما قبلها بما بعدها أفاد التسبب، ومن ذلك قوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ *} [الحاقة] .
4 ـ كل موضع صرح فيه بأن كذا جزاء لكذا أفاد التسبب، كما في قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159] [1].
5 ـ كل موضع أضاف الفعل فيه إلى مخلوق فهو من إضافة المسبَبِ إلى السبب، وهو الأكثر ومنه، قوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل: 60] ، وقوله: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ *} [ق] .


[1] شفاء العليل (1/188) [دار المعرفة].


قال ابن الجوزي رحمه الله : «إن التوكل والثقة بالله سبحانه لا ينافيان العمل بالأسباب، بدليل قوله: «اعقلها وتوكل» ، وهذا لأن التوكل عمل يختص بالقلب، والتعرض بالأسباب أفعال تختص البدن ولا تناقض التوكل»[1].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «بل كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جامعًا كاملاً، له من كل مقام ذروة سنامه ووسيلته، فيعلم أن الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا قدح في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، ويعلم أن عليه أن يجاهد المشركين ويقيم الدين بكل ما يقدر عليه من جهاده بنفسه وماله وتحريضه للمؤمنين، ويعلم أن الاستنصار بالله والاستغاثة به والدعاء له فيه أعظم الجهاد وأعظم الأسباب في تحصيل المأمور ودفع المحذور»[2].
وقال ابن القيم رحمه الله: « الأصل الرابع: أنه سبحانه ربط الأسباب بمسبباتها شرعًا وقدرًا، وجعل الأسباب محل حكمته في أمره الديني والشرعي، وأمره الكوني القدري، ومحل ملكه وتصرفه... والشرع كله أسباب ومسببات، والمقادير أسباب ومسببات، والقدر جار عليها، متصرف فيها؛ فالأسباب محل الشرع والقدر، والقرآن مملوء من إثبات الأسباب»[3].
ا


[1] كشف المشكل من حديث الصحيحين (4/355).
[2] منهاج السُّنَّة النبوية (8/80) [جامعة الإمام، ط1، 1406هـ].
[3] شفاء العليل (315) [دار الكتب العلمية].


المسبَّبات أربعة أنواع، ترجع إلى أربعة أسباب:
الأول: مسبَّبات ليس للمخلوق فيها سوى أنه محل لها، وسببها فعل الخالق وحده جلّ جلاله، وذلك مثل الأفعال الخارقة للعادة، وهي المعجزات والكرامات وكذلك الهداية وخلق التوفيق في قلب العبد أو الضلال والخذلان في قلب العبد.
الثاني: مسبَّبات طبيعية قد جعلها الله عزّ وجل في أصل خلقتها تحدث مسبَّباتها إذا لقيت مواضعها المناسبة لذلك ولم يكن هناك موانع، وذلك كالنار في الإحراق، والماء في الإغراق، والشمس في النور والحرارة والدفء، والقمر في الضياء. فسبب الإحراق النار، وسبب الإغراق الماء، وسبب النور الشمس، وسبب الضياء في الليل القمر. والبعض يسمي هذه المسبَّبات بالمتولّدات.
الثالث: مسبَّبات من المخلوقات ذات الإرادة والفعل؛ كالجن والإنس وسائر الحيوان، فهي أسباب في وجود المسبَّبات؛ فأفعالها لها مسبَّبَات وهي تنسب إليهم فعلاً وكسبًا، وتنسب إلى الله عزّ وجل خلقًا وإيجادًا.
الرابع: المتولدات، وهي سبب ناتج عن سبب؛ كالحجر إذا تدحرج فضرب حجرًا تدحرج فأصاب شخصًا، فهذا ينسب كل سبب إلى مسبِّبه، فمن دحرج الحجر الأول ينسب إليه فعله، والحجر الأول ينسب إليه دحرجة الحجر الثاني، والحجر الثاني ينسب إليه إصابة الشخص، والكل خلق الله وإيجاده، وهو في نفس الوقت فعل لمن قام بالفعل.
ويجب على المسلم أن يعلم أنه لا بد في الأسباب من ثلاثة أمور؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «لكن ينبغي أن يعرف في الأسباب ثلاثة أمور:
أحدها: أن السبب المعين لا يستقل بالمطلوب بل لا بُدّ معه من أسباب أُخَرَ، ومع هذا فلها موانع، فإن لم يكمل الله الأسباب ويدفع الموانع لم يحصل المقصود، وهو سبحانه وتعالى ما شاء كان، وإن لم يشأ الناس، وما شاء الناس لا يكون إلا أن يشاء الله.
الثاني: لا يجوز أن يعتقد أن الشيء سبب إلا بعلم، فمن أثبت شيئًا سببًا بلا علم أو يخالف الشرع كان مبطلاً، مثل: من يظن أن النذر سبب في دفع البلاء وحصول النعماء، وقد ثبت في «الصحيحين» عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه نهى عن النذر، وقال: «إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل»[1].
الثالث: أن الأعمال الدينية لا يجوز أن يتخذ منها شيء سببًا إلا أن تكون مشروعة؛ فإن العبادات مبناها على التوقيف؛ فلا يجوز للإنسان أن يشرك بالله فيدعو غيره، وإن ظن أن ذلك سبب في حصول بعض أغراضه، وكذلك لا يعبد الله بالبدع المخالفة للشريعة، وإن ظن ذلك؛ فإن الشياطين قد تعين الإنسان على بعض مقاصده إذا أشرك، وقد يحصل بالكفر والفسوق والعصيان بعض أغراض الإنسان فلا يحل له ذلك؛ إذ المفسدة الحاصلة بذلك أعظم من المصلحة الحاصلة به، إذ الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعث بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، فما أمر الله به فمصلحته راجحة، وما نهى عنه فمفسدته راجحة»[2].


[1] أخرجه البخاري (كتاب القدر، رقم 6608)، ومسلم (كتاب النذر، رقم 1639)، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[2] مجموع الفتاوى (1/137).


المسألة الأولى: المتولدات:
وهي من: تولَّد الشيءُ من الشيء؛ أي: حدث، يقال: تولَّدت البغضاء بينهم. والتولُّد: وقوع الفعل لأجل فعل غيره قبله[1]، فيقال: هذا الأمر يتولَّد عنه كذا، وهذا يُولِّد كذا، وقد تولَّد عن ذلك الأمر كيت وكيت لكل سبب اقتضى مسبَّبًا من الأقوال والأعمال[2]؛ فالمتولدات المقصودة هنا آثار الأفعال؛ كإبانة الغصن بالضرب، فالضرب هو الفعل، والإبانة هي أثر الضرب، وقد اختلف في محدثها على ثلاثة أقوال:
القول الأول: قالوا: إن الإنسان لا يكون فاعلاً في غير محل قدرته، فلهذا قالوا: إن الأمور التي تقع بأثر الفعل هي من خلق الله وإرادته وليس للعبد فيها فعل، وهو قول الأشاعرة ومن وافقهم.
القول الثاني: قول المعتزلة، ولهم في ذلك رأيانِ:
1 ـ أنها تحصل بالطبع في المحل؛ أي: المحل الواقع عليه الفعل، وهو قول النظّام ومعمر.
2 ـ أنها تحصل بالطبع في أفعال الجوارح، وهو قول الجاحظ.
والناظر في هذه الأقوال يتبين له خطأ بعضها وقصور بعضها عن الحق، فإن المعتزلة وإن أجاز بعضهم نسبتها إلى العبد فإنهم ينفون خلق الله عزّ وجل للفعل وأثره. أما الأشعرية فإنّهم يمنعون أن ينسب الأثر الواقع بفعل الإنسان إليه.
القول الثالث وهو الصحيح ـ وهو قول أهل السُّنَّة والمنسجم مع أصولهم في القدر ـ وهو: أن الفعل وأثره ينسبان إلى الله خلقًا وإيجادًا، وينسبان إلى العبد فعلاً وكسبًا، فقد اشترك في وقوعه الإنسان والسبب المتصل به، ولم يستقل كل واحد منهما بالفعل، وقد نسبه الله عزّ وجل إلى الإنسان فقال عزَّ من قائل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93] ، وقال: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر: 5] ، وقال: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ *} [الصافات] ، وقال: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ *} [الشعراء] ، والقتل لا يكون إلا بواسطة في الغالب إلا أن يكون خنقًا ونحوه، وكذلك القطع والنحت، وقد نسبه الله عزّ وجل إلى الإنسان باعتبار أنه من فعله وكسبه لهذا، فإن الإنسان يجازى على فعله وعلى أثر فعله، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ *} [يس] ، وقال صلّى الله عليه وسلّم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا»[3].
والله عزّ وجل خالق فعل العبد وخالق السبب والمسبب، ولو شاء لجعل من الموانع ما يمنع من أثر الفعل مع وجود سببه، كما هو الحال في النار التي ألقي فيها إبراهيم عليه السلام، وفي الذي مر على قرية وهي خاوية فأماته الله مائة عام، فقد حفظه الله من أن تأكله الأرض ونحو ذلك[4].
المسألة الثانية: التأثير:
لفظ التأثير لفظ مجمل يحتمل حقًّا وباطلاً؛ فإن أريد به الانفراد والاختراع والإبداع، فهذا باطل، يتبرأ منه أهل السُّنَّة، وإنما هو المعزو إلى أهل الضلال من المعتزلة ومن وافقهم. وإن أريد به نوع معاونة؛ إما في صفة من صفات الفعل، وإما في وجه من وجوهه، كما قاله كثير من المتكلمين، فهو أيضًا باطل، بما بطل به التأثير في ذات الفعل.
وإن أريد به خروج الفعل من العدم إلى الوجود، بتوسط القدرة المحدثة؛ بمعنى: أن القدرة المخلوقة هي سبب وواسطة في خلق الله سبحانه وتعالى الفعل، كما خلق النبات بالماء، وخلق جميع المسببات بوسائط وأسباب فهذا حق، وليست إضافة التأثير بهذا التفسير إلى قدرة العبد شركًا[5].


[1] شمس العلوم للحميري (11/7296).
[2] مجموع الفتاوى (4/133).
[3] أخرجه مسلم (كتاب العلم، رقم 2674).
[4] انظر الأقوال في: الإرشاد للجويني (206)، وأصول الدين للبغدادي (137 ـ 138)، وتمهيد الأوائل للباقلاني (335)، وشرح الأصول الخمسة (387 ـ 390)، ودرء التعارض (9/341)، ومجموع الفتاوى (8/137).
[5] انظر: مجموع الفتاوى (8/389 ـ 390).


المشهور من أقوال المخالفين ثلاثة أقوال:
القول الأول: هو قول الفلاسفة الذين يجعلون السببية هي أساس الوجود كله، فهو بين علة ومعلول وسبب ومسبب، ولكنهم ينكرون أن الله عزّ وجل له صفة أو فعل، فليس لله عزّ وجل فعل مباشر في خلقه ولا أثر حقيقي يقوم به أو يؤثر في خلقه ـ تعالى الله عن قولهم ـ؛ فالأسباب والسببية تعود عندهم إلى طبائع الأشياء؛ فالشمس طبيعتها الضوء والحرارة، وطبيعة الماء الري، وطبيعة الطعام الشبع، وطبيعة النار الإحراق، وطبيعة الحجر إذا دحرج السقوط إلى أسفل، وطبيعة النار الصعود إلى أعلى[1].
والرد عليهم:
أن مقالتهم كلها مبنية على أصل فاسد: وهو إنكار وجود الله عزّ وجل الوجود الذاتي، وكذلك إنكار صفاته وأفعاله، وهذا معلوم البطلان بضرورة الشرع والعقل، وما كان مبنيًّا على فاسد هو فاسد.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فلما كان أصل قولهم أن صانع العالم لا يمكنه تغيير العالم ولا له قدرة ولا اختيار في تصريفه من حال إلى حال جعلوا يريدون أن ينسبوا جميع الحوادث إلى أمور طبيعية ليطرد قولهم ويسلم عن التناقض، وهو قول فاسد متناقض في نفسه»[2].
القول الثاني: قول المعتزلة، وهم ينكرون أن الله خالق أفعال العباد، ويقولون: إن العباد هم الخالقون لأفعالهم[3]؛ فالأسباب ومسبباتها عندهم هي من فعل العباد ولا فاعل لها سواهم، ولا ينسب إلى الله عزّ وجل شيء من ذلك سوى خلق ذواتهم[4].
والرد عليهم:
إن هؤلاء مبطلون للحقائق غائبون عن موجبات العقول؛ وذلك أن كل ما في العالم من جسم أو عرض في جسم أو أثر من جسم فهو خلق الله عزّ وجل، فكل ذلك فعل الله عزّ وجل؛ بمعنى: أنه خلقه وكل ذلك مضاف بنص القرآن وبحكم اللغة إلى ما ظهرت منه من حي أو جماد، قال تعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ *} [الحج] ، فنسب عزّ وجل الاهتزاز والإنبات والربو إلى الأرض. وقال تعالى: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [المؤمنون: 104] ، فأخبر تعالى أن النار تلفح. وقال تعالى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف: 29] ، فأخبر عزّ وجل أن الماء يشوي الوجوه. وقال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] ، فسمى تعالى المخطئ قاتلاً وأوجب عليه حكمًا، وهو لم يقصد قتله قط، لكنه تولد عن فعله، ونحو ذلك.
ولم تختلف أمة ولا لغة في صحة قول القائل: مات فلان، وسقط الحائط، فنسبَ اللهُ تعالى وجميع خلقه الموتَ إلى الميت والسقوطَ إلى الحائط والانهيارَ إلى الجرف؛ لظهور كل ذلك منها، ليس في القرآن ولا في السنن ولا في العقول شيء غير هذا الحكم، ومن خالف هذا فقد اعترض على الله تعالى وعلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى جميع الأمم وعلى جميع عقولهم[5].
القول الثالث: قول الأشاعرة ومن وافقهم، الذين ينكرون أن تكون الأسباب أسبابًا، وهؤلاء يقولون: إن الله عزّ وجل يفعل عند التقاء السبب بالمسبب الأثر المطلوب، فالنار ليست محرقة بنفسها ولكن الله عزّ وجل أجرى العادة بأن يقع الإحراق عند التقائها بما هو قابل للاحتراق، فهم ينكرون أن يكون للعباد أثر في وقوع الفعل، ويقولون: إن قدرة العبد غير مؤثرة في وقوع الفعل وأن الفعل في حقيقته منسوب إلى الله عزّ وجل، فعليه يقولون: إن الله يخلق المسبب عند وقوع السبب، لهذا عرّفوا السبب بذلك[6].
الرد عليهم:
إن الآيات الدالة على أن الله يخلق الأشياء بالأسباب ـ لا كما يقوله هؤلاء: إنه يفعل عندها لا بها ـ أكثر من أن تحصر، منها قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 99] ، وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ *وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} [ق] ، وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *} [الأعراف] ، وأمثال ذلك.
يقول ابن تيمية: «ومثل هذا كثير في الكتاب والسُّنَّة؛ يخبر الله تعالى أنه يحدث الحوادث بأسباب»[7].
وأما الآيات الدالة على ثبوت القوى والقدرة والطبائع التي جعلها الله في الإنسان، وأنها مؤثرة في حصول المقدورات فكثيرة هي كذلك.
منها قوله تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ *} [فصلت] ، وقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ *} [الروم] .
فالله سبحانه ربط الأسباب بمسبباتها شرعًا وقدرًا، وجعل الأسباب محل حكمته في أمره الديني والشرعي، وأمره الكوني القدري، ومحل ملكه وتصرفه، فإنكار الأسباب والقوى والطبائع جحد للضروريات، وقدح في العقول والفطر، ومكابرة للحس، وجحد للشرع والجزاء والثواب والعقاب.
قال ابن تيمية رحمه الله: «وأن هؤلاء الذين اتبعوا جهمًا في الجبر، ونفوا حكمة الله ورحمته، والأسباب التي بها يفعل، وما خلقه من القوى وغيرها هم مبتدعة مخالفون للكتاب والسُّنَّة وإجماع السلف، مع مخالفتهم لصريح المعقول»[8].
وقد تفرع عن قول الأشاعرة في إنكار الأسباب قول آخر باطل، وهو: إلغاء الأسباب اعتمادًا على القدر، وقال بهذا بعض الصوفيه الذين أبطلوا الأسباب وعطّلوها وزعموا أن لا أثر لها في وجود الأشياء، وسموا فعلهم ذاك توكلاً.
وهذا من الأصول الفاسدة التي تسلموها من الجهمية الجبرية، مع قلة العلم الذي أوجب لهم هَذَا التخليط، ولو عرفوا ماهية التوكل لعلموا أنه ليس بينه وبين الأسباب تضاد؛ وذلك أن التوكل اعتماد القلب على الوكيل وحده، وذلك لا يناقض حركة البدن فِي التعلق بالأسباب ولا ادخار المال؛ فقد قَالَ تعالى: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] ؛ أي: قوّامًا لأبدانكم، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «نعم المال الصالح مع الرجل الصالح» [9]، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس»[10].
واعلم أن الذي أمر بالتوكل أمر بأخذ الحذر فقالَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71] ، وقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] ، وقال: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً} [الدخان: 23] .
قال ابن تيمية: «ولا ريب أن هذا الأصل الفاسد مخالف للكتاب والسُّنَّة، وإجماع السلف وأئمة الدين، ومخالف لصريح المعقول، ومخالف للحس والمشاهدة.
وقد سئل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن إسقاط الأسباب نظرًا إلى القدر، فرد ذلك؛ كما ثبت في «الصحيحين» عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما منكم من أحد إلا وقد علم مقعده من الجنة ومقعده من النار» قالوا: يا رسول الله، أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ فقال: «لا؛ اعملوا فكل ميسر لما خلق له» [11]... فكيف يمكن أن يشهد أن الله لم ينصب على توحيده دليلاً، ولا جعل للنجاة من عذابه وسيلة، ولا جعل لما يفعله المتوكل من عباده سببًا، وهو مسبب الأسباب، وخالق كل شيء بسبب منه، لكن الأسباب كما قال فيها أبو حامد وأبو الفرج ابن الجوزي وغيرهما: «الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا تغيير في وجه العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع».
والتوكل معنى يلتئم من معنى التوحيد والعقل والشرع؛ فالموحد المتوكل لا يلتفت إلى الأسباب، بمعنى: أنه لا يطمئن إليها، ولا يثق بها، ولا يرجوها، ولا يخافها؛ فإنه ليس في الوجود سبب يستقل بحكم، بل كل سبب فهو مفتقر إلى أمور أخرى تضم إليه، وله موانع وعوائق تمنع موجبه، وما ثَمَّ سبب مستقل بالإحداث إلا مشيئة الله وحده، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وما شاء خلقه بالأسباب التي يحدثها ويصرف عنه الموانع، فلا يجوز التوكل إلا عليه»[12].


[1] انظر: تاريخ الفلسفة اليونانية لماجد فخري (131)، وتلخيص منطق أرسطو لابن رشد (5/471)، وآراء أهل المدينة الفاضلة (61)، وانظر رسالة: السببية عند أهل السُّنَّة ومخالفيهم من خلال مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية لتوفيق المحيش (613 ـ 628) [منشورة إلكترونيًّا].
[2] الصفدية لابن تيمية (9)، [مكتبة ابن تيمية، مصر، ط2].
[3] انظر: شرح الأصول الخمسة (323)، والمختصر في أصول الدين للقاضي عبد الجبار (328) [ضمن رسائل العدل والتوحيد]، ومنهاج السُّنَّة (2/295 ـ 297).
[4] انظر: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين للأشعري (2/299) [المكتبة العصرية، ط1، 1426هـ].
[5] الفصـل فـي الـملـل والأهـواء والـنـحل لابن حزم (5/38).
[6] انظر: المستصفى للغزالي (1/75) [دار الكتب العلمية، ط1، 1413هـ]، وتهافت الفلاسفة للغزالي (237) [دار المعارف، القاهرة، ط6]، وتخريج الفروع على الأصول لمحمود الزَّنجاني (352) [مؤسسة الرسالة، ط2]، وقواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام (1/18) [مكتبة الكليات الأزهرية، 1414هـ].
[7] منهاج السُّنَّة (3/113)، وانظر: شرح الأصبهانية (176 ـ 179)، فقد أفاض بذكر الأدلة القرآنية على ثبوت الأسباب وأنها لها تأثير في مسبباتها.
[8] مجموع الفتاوى (14/271).
[9] أخرجه أحمد (29/298) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وابن حبان في صحيحه (كتاب الزكاة، رقم 3210)، والحاكم في المستدرك (كتاب البيوع، رقم 2130) وصححه، وصححه الألباني أيضًا في غاية المرام (رقم 454) [المكتب الإسلامي، ط3].
[10] أخرجه البخاري (كتاب النفقات، رقم 5354)، ومسلم (كتاب الهبات، رقم 1628)، من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
[11] أخرجه البخاري (كتاب تفسير القرآن، رقم 4949)، ومسلم (كتاب القدر، رقم 2647).
[12] منهاج السُّنَّة النبوية لابن تيمية (5/362 ـ 368).


1 ـ «منهاج السُّنَّة النبوية»، لابن تيمية.
2 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.
3 ـ «درء تعارض العقل والنقل»، لابن تيمية.
4 ـ «شفاء العليل»، لابن القيم.
5 ـ «التدمرية»، لابن تيمية.
6 ـ «القضاء والقدر في الإسلام»، لفاروق أحمد الدسوقي.
7 ـ «الفصل في الملل والأهواء والنحل»، لابن حزم.
8 ـ «السببية عند أهل السُّنَّة ومخالفيهم من خلال مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية»، لتوفيق المحيش.
9 ـ «مبدأ السببية عند الأشاعرة: دراسة نقدية»، لجمعان بن محمد الشهري [رسالة ماجستير].
10 ـ «شرح العقيدة الطحاوية»، لابن أبي العز الحنفي.