الحياء: مصدر قولهم: حيِيَ، ويدل على الاستحياء الذي هو ضد الوقاحة. وبالنسبة للعبد: انقباض النفس عن القبائح وتركه لذلك[1].
والحياء والاستحياء بمعنى واحد. قال الأزهري: «قال الليث: الحياء من الاستحياء؛ ممدود قلت: وللعرب في هذا الحرف لغتان: يقال: استحى فلان يستحي، بياء واحدة، واستحيا فلان يستحيي بياءين، والقرآن نزل باللغة التامة»[2].
[1] انظر: مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني (1/282) [ط. دار القلم].
[2] تهذيب اللغة (5/187) [دار إحياء التراث العربي، ط1، 2001م].
حياؤه تعالى وصف يليق به ليس كحياء المخلوقين الذي هو تغير وانكسار يعتري الشخص عند خوف ما يعاب أو يذم؛ بل هو ترك ما ليس يتناسب مع سعة رحمته وكمال جوده وكرمه وعظيم عفوه وحلمه. فالعبد يجاهره بالمعصية مع أنه أفقر شيء إليه، وأضعفه لديه ويستعين بنعمه على معصيته، ولكن الربُّ سبحانه مع كمال غناه وتمام قدرته عليه يستحي من هتك ستره وفضيحته، فيستره بما يهيؤه له من أسباب الستر، ثم بعد ذلك يعفو عنه ويغفر. وكذلك يستحيي سبحانه ممن يدعوه ويمد إليه يديه أن يردهما خاليتين، وهو من أجل أنه حيي ستِّير يحب أهل الحياء والستر من عباده، فمن ستر مسلمًا ستر الله عليه في الدنيا والآخرة[1].
[1] شرح النونية «الكافية الشافية» (2/86 ـ 87) [دار الكتب العلمية، ط2، 1415هـ].
قال تعالى: {وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب: 53] ، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26] .
ومن السُّنَّة: حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذهب واحد، قال: فوقفا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأما أحدهما: فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر: فجلس خلفهم، وأما الثالث: فأدبر ذاهبًا، فلما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه»[1].
وحديث سلمان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم، يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه، أن يردهما صفرًا»[2]. فقد أثبت صفة الحياء لله عزّ وجل، وهو قطعًا حياء واستحياء لا يشبه حياء، واستحياء البشر بحال من الأحوال.
ـ وحديث يعلى بن أمية رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى رجلاً يغتسل بالبراز بلا إزار، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله عزّ وجل حيي ستِّير يحب الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر»[3].
[1] أخرجه البخاري (كتاب العلم، رقم 66)، ومسلم (كتاب السلام، رقم 2176).
[2] أخرجه أبو داود (كتاب الصلاة، رقم 1488)، والترمذي (أبواب الدعوات، رقم 3556) وحسَّنه، وابن ماجه (كتاب الدعاء، رقم 3865)، وابن حبان (كتاب الرقائق، رقم 876)، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (رقم 1757) [المكتب الإسلامي].
[3] أخرجه أبو داود (كتاب الحمام، رقم 4012)، والنسائي (كتاب الغسل والتيمم، رقم 406)، والإمام أحمد في المسند (29/484، رقم 17970) [مؤسسة الرسالة، ط1، 1421هـ]، وصحَّحه الألباني في إرواء الغليل (7/367).
قال ابن القيِّم: «وأما حياء الربِّ تعالى من عبده: فذاك نوع آخر لا تدركه الأفهام ولا تكيفه العقول، فإنه حياء كرم وبر وجود وجلال، فإنه تبارك وتعالى حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرًا. ويستحيي أن يعذب ذا شيبة شابت في الإسلام. وكان يحيى بن معاذ يقول: سبحان من يذنب عبده ويستحيي هو. وفي أثر: «من استحيا من الله استحيا الله منه»»[1].
وقال المباركفوري: «قوله: «إن الله حيي» : فعيل من الحياء؛ أي: كثير الحياء. ووصفه تعالى بالحياء يحمل على ما يليق له، كسائر صفاته، نؤمن بها ولا نكيفها»[2].
وقال ابن باز: «فإن الله يوصف بالحياء الذي يليق به، ولا يشابه فيه خلقه، كسائر صفاته، وقد ورد وصفه بذلك في نصوص كثيرة، فوجب إثباته له على الوجه الذي يليق به. وهذا قول أهل السُّنَّة في جميع الصفات الواردة في الكتاب والسُّنَّة الصحيحة، وهو طريق النجاة، فتنبه واحذر، والله أعلم»[3]
[1] انظر: مدارج السالكين (2/250) [دار الكتاب العربي، ط3، 1416هـ].
[2] تحفة الأحوذي (9/381 ـ 382) [ط. دار الكتب العلمية].
[3] تعليقات الشيخ ابن باز على فتح الباري، انظر: فتح الباري (1/389) [المكتبة السلفية].
من آثار الإيمان بهذه الصفة:
أولاً: محبة الله عزّ وجل وإجلاله وتعظيمه وحمده وشكره والثناء عليه وذلك بما تقتضيه هذه الصفة الكريمة من الحلم والكرم والعفو والستر منه سبحانه على عباده، وحق لمن هذه صفاته أن يجرد له الحب كله والإخلاص والتعظيم، والحمد والثناء، واللهج بشكره والتقرب إليه بطاعته.
ثانيًا: حياء العبد من ربِّه سبحانه وانكساره بين يديه ومقت النفس، والاعتراف بتقصيرها، حيث ينعم سبحانه على عباده ويحلم عنهم ويسترهم وهم متمادون في معاصيه.
إن التعبد لله سبحانه بهذه الصفة يثمر عند المؤمن الحياءَ منه سبحانه من أن يكون على حالة مشينة يكرهها الله سبحانه ويسخطها فشعور العبد بجنايته يثمر له حياء من ربه سبحانه وإجلالاً، وعلى حسب معرفة العبد بربه وأسمائه وصفاته يكون حياؤه منه، وهذا هو حياء العبودية الذي عرفه ابن القيِّم بقوله: «هو حياء ممتزج من محبة وخوف، ومشاهدة عدم صلاح عبوديته لمعبوده وأن قدره أعلى وأجلّ منها فعبوديته له توجب استحياء منه لا محالة»[1].
[1] مدارج السالكين (2/252).
ذهب أهل الكلام إلى نفي صفة الحياء عن الله تعالى بدعوى نفي التشبيه، وبأن الصفات أعراض، والأعراض لا تحل بالله إنما هي للأجسام، والله ليس بجسم. وقالوا: الحياء انكسار وتغير، وهذا لا يليق بالله تعالى. وأوّلوا الأحاديث الواردة في إثبات هذه الصفة، فقالوا: المراد بها: الترك، وقيل: الكراهية، وقيل: الرحمة، وقيل: عدم العقاب[1].
[1] انظر: الأسماء والصفات للبيهقي (1/223) (2/434) [مكتبة السوادي، ط1، 1413هـ]، وشرح مسلم للنووي (14/159) [دار إحياء التراث، ط2]، والأسنى في شرح أسماء الله الحسنى (1/535) [دار الصحابة للتراث بطنطا، ط1، 1416هـ]، وحاشية السندي على سنن النسائي (1/200) [مكتب المطبوعات الإسلامية، ط2، 1406هـ].
ما ذهب إليه أهل الكلام مخالف لظاهر النصوص الصريحة الدالة على إثبات هذه الصفة لله على الوجه اللائق به سبحانه، ومضاد لمنهج السلف الصالح القائم على إثبات ما أثبته الله لنفسه من الصفات التي أخبر عنها سبحانه أو أخبر عنها رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فكما أن ذات الله تعالى لا تماثل الذوات المخلوقة فكذلك صفاته سبحانه وتعالى لا تماثل صفات المخلوقين، مع وجوب تنزيهه سبحانه أن يلحقه نقصٌ أو عيب في كل صفة اتصف الله عزّ وجل بها، فالله تعالى موصوف بالحياء على ما يليق به سبحانه وتعالى، حياءً لا يماثله ولا يشابهه فيه أحد.
1 ـ «الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى»، للقرطبي.
2 ـ «تفسير أسماء الله الحسنى»، للسعدي.
3 ـ «تفسير أسماء الله الحسنى»، للزجاج.
4 ـ «تفسير الطبري» (ج5).
5 ـ «شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسُّنَّة»، لسعيد بن وهف القحطاني.
6 ـ «صفات الله عزّ وجل الواردة في الكتاب والسُّنَّة»، للسقاق.
7 ـ «فقه الأسماء الحسنى»، لعبد الرزاق البدر.
8 ـ «مدارج السالكين» (ج2)، لابن القيِّم.
9 ـ «النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى»، لمحمد الحمود النجدي.
10 ـ «ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها»، لعبد العزيز الجليل.