حرف الحاء / الحياء

           

الحياء من (حَيِيَ)، والحاء والياء والحرف المعتل أصلان؛ أحدهما: البقاء الذي هو خلاف الموت. والآخر: الاستحياء الذي هو ضد الوقاحة[1].
قال ابن سيده: «واستَحياه: أبقاه حيًّا، والحياء: التوبة والحشمة. وقد حَيِيَ منه حياءً واستحيا واستَحىَ، حذفوا الياء الأخيرة كراهية التقاء الياءين، والأخيرتان تتعديان بحرف وبغير حرف، يقولون: استحيا منك واستحياك، واستحى منك واستحاك»[2].


[1] انظر: مقاييس اللغة (2/122) [دار الجيل]، وتهذيب اللغة (5/289) [الدار المصرية، ط1، 1384هـ]، والصحاح (6/2323) [دار العلم للملايين، ط4]، والقاموس المحيط (1278) [مؤسسة الرسالة، ط7].
[2] المحكم والمحيط الأعظم (2/396 ـ 399) [دار الكتب العلمية، ط1، 1421هـ].


الحياء: خلق يبعث على فعل الحسن وترك القبيح.
وحياء العبد من الله سبحانه: خلق يبعث على مراقبة الله وفعل أوامره وترك مناهيه[1].


[1] انظر: المفردات في غريب القرآن للراغب (1/140) [دار المعرفة]، ورياض الصالحين (208 ـ 209) [دار الأرقم]، والآداب الشرعية (2/227) [مكتبة ابن تيمية]، ومدارج السالكين (2/327)، وبصائر ذوي التمييز (2/515) [المكتبة العلمية]، والتعريفات (126) [دار الكتاب العربي، ط4، 1418هـ]، وفتح الباري لابن حجر (1/73)، والتوقيف على مهمات التعاريف (200) [دار الكتب العلمية، ط1، 2011م].


خُلُق الحياء: من الحياة التي لا ينعم بها إلا بترك ما يخجل منه لاستقباحه. وهذا المعنى الشرعي للحياء شامل للمعنيين اللغويين المذكورين سابقًا.



الحياء مشتق من الحياة؛ فإن القلب الحي يكون صاحبه حيًّا فيه حياء يمنعه عن القبائح، فإن حياة القلب هي المانعة من القبائح التي تفسد القلب.
وهذا بخلاف الميت الذي لا حياة فيه؛ فإنه يسمى وقحًا، والوقاحة الصلابة وهو اليبس المخالف لرطوبة الحياة، فإذا كان وقحًا يابسًا صليب الوجه لم يكن في قلبه حياة توجب حياءه، وامتناعه من القبح كالأرض اليابسة لا يؤثر فيها وطء الأقدام بخلاف الأرض الخضرة. ولهذا كان الحي يظهر عليه التأثر بالقبح وله إرادة تمنعه عن فعل القبح بخلاف الوقح الذي ليس بحَيِيّ فلا حياء معه ولا إيمان يزجره عن ذلك[1].


[1] انظر: مجموع الفتاوى (10/109 ـ 110) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1415هـ].


الحياء خلق إيماني عظيم على العبد التحلي به لأنه من الإيمان كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «والحياء شعبة من الإيمان»[1].
وهذا الحياء منه ما هو واجب وهو: ما يبعث على ترك المحرمات وفعل الواجبات. ومنه ما هو مستحب وهو: ما يبعث على ترك المكروهات وفضول المباحات وفعل المستحبات والمسارعة فيها[2].


[1] أخرجه البخاري (كتاب الإيمان، رقم 9)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 35).
[2] انظر: شعب الإيمان (10/168) [مكتبة الرشد، ط1، 1423هـ]، وفتح الباري (1/102) [دار السلام، ط1].


حقيقة الحياء خلق يبعث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق[1].
ومن ذلك الحياء من الله، وحقيقته: حسن مراقبة الله عزّ وجل في السر والعلانية، وتعظيمه سبحانه أن لا يراك حيث نهاك، وأن لا يفتقدك حيث أمرك[2].
ولن نجد أجمع ولا أجمل ولا أكمل في كلام الناس من قول سيدهم صلّى الله عليه وسلّم في حقيقة الحياء: «الاستحياء من الله حق الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء»[3].
والمؤمنون متفاوتون في تحقيق الحياء من الله وهم في ذلك على مراتب، فحياء المقربين السابقين يحمل أصحابه على فعل الواجبات والمستحبات وترك المحرمات والمكروهات، وحياء المقتصدين أصحاب اليمين يحمل أصحابه على فعل الواجبات وترك المحرمات، وحياء الظالمين لأنفسهم حياء فيه ضعف لكنه يحملهم على الحفاظ على أصل الإسلام بفعل بعض الواجبات وترك بعض المحرمات.


[1] انظر: رياض الصالحين (208).
[2] من وصية سلمة بن دينار لسليمان بن عبد الملك كما رواها الدارمي في سننه (1/502) [دار المغني، ط1]، وانظر: البصائر والذخائر للتوحيدي (2/157) [دار صادر، ط1]، وشعب الإيمان (10/168).
[3] سيأتي تخريجه في الأدلة.


«الحياء خير كله» ، و «الحياء لا يأت إلا بخير» ، و «الحياء شعبة من الإيمان» ، و «الحياء من الإيمان» : هذه كلها كلمات من جوامع كلم حبيبنا محمد صلّى الله عليه وسلّم تُبيِّن بجلاء منزلة خُلُق الحياء وعظيم مكانته وكبير أهميته. ومن أعظم الدلائل على ذلك إفراده بالذكر من بين أعمال القلوب الأخرى في حديث شعب الإيمان: «الإيمان بضع وسبعون شعبة أو بضع وستون شعبة فأفضلها: قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» [1]، فأفرد هنا لكونه باعثًا على فعل الطاعة وحاجزًا عن فعل المعصية، فهو كالداعي إلى باقي شعب الإيمان، إذ الحيي يخاف فضيحة الدنيا والآخرة فيأتمر وينزجر[2].
و«سمة الخير الدعة والحياء، وسمة الشر القحة والبذاء، وكفى بالحياء خيرًا أن يكون على الخير دليلاً، وكفى بالقحة والبذاء شرًّا أن يكونا إلى الشر سبيلاً»[3].
هذا الحياء من أفضل الأخلاق وأجلها وأعظمها قدرًا وأكثرها نفعًا؛ بل هو خاصة الإنسانية، فمن لا حياء فيه ليس معه من الإنسانية إلا اللحم والدم وصورتهما الظاهرة، كما أنه ليس معه من الخير شيء، وكثير من الناس لولا الحياء الذي فيه لم يؤد شيئًا من الأمور المفترضة عليه، ولا انتهى عن شيء حرم عليه، ولم يرع لمخلوق حقًّا، فإن الباعث على هذه الأفعال إما ديني وهو رجاء عاقبتها الحميدة، وإما دنيوي علوي وهو حياء فاعلها من الخلق[4].


[1] تقدم تخريجه قريبًا.
[2] انظر: فتح الباري لابن حجر (1/73).
[3] أدب الدنيا والدين للماوردي (257) [دار اقرأ، ط4].
[4] انظر: مفتاح دار السعادة (1/277 ـ 278) [دار الكتب العلمية].


من أدلة القرآن على الحياء وفضله: قوله تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص: 25] ، وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53] .
ومن السُّنَّة: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «استحيوا من الله حق الحياء. قال: قلنا: يا رسول الله إنا نستحيي والحمد لله. قال: ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء»[1].
عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «دعه فإن الحياء من الإيمان»[2].
عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الحياء لا يأتي إلا بخير»[3].
وفي رواية لمسلم: «الحياء خير كله» . قال: أو قال: «الحياء كله خير»[4].


[1] أخرجه الترمذي (أبواب صفة القيامة والرقائق والورع، رقم 2458)، وأحمد (6/187) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والحاكم (كتاب الرقاق، رقم 7915)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وحسَّنه الألباني بشواهده في صحيح الترغيب والترهيب (رقم 1724) [مكتبة المعارف، ط5].
[2] أخرجه البخاري (كتاب الإيمان، رقم 24)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 36).
[3] أخرجه البخاري (كتاب الأدب، رقم 6117)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 37).
[4] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 37).


قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «من قلَّ حياؤه قلَّ ورعه، ومن قلَّ ورعه مات قلبه»[1].
قال إياس بن معاوية بن قرة رحمه الله قال: «كنت عند عمر بن عبد العزيز فذكر عنده الحياء فقالوا: الحياء من الدين. فقال عمر: بل هو الدين كله»[2].
وعن الفضيل بن عياض رحمه الله قال: «خمس من علامات الشقوة: القسوة في القلب، وجمود العين، وقلة الحياء، والرغبة في الدنيا، وطول الأمل»[3].


[1] أخرجه ابن أبي الدنيا في الحلم (77) [مؤسسة الكتب الثقافية، ط1]، والطبراني في الأوسط (2/370) [دار الحرمين]، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/302) [مكتبة القدسي]: «وفيه دويد بن مجاشع، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات».
[2] رواه ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق (38).
[3] مدارج السالكين (2/328).


ينقسم الحياء باعتبارات عدة؛ منها:
باعتبار من يُستحيى منه ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: الحياء من الله تعالى، ويكون بامتثال أوامره والكف عن زواجره.
والثاني: الحياء من الناس، ويكون بكف الأذى وترك المجاهرة بالقبيح.
والثالث: الحياء من النفس، ويكون بالعفة وصيانة الخلوات[1].
وباعتبار مصدره ينقسم إلى نوعين:
أحدهما: (نفساني): ما كان خَلْقًا وجِبِلَّةً غيرَ مكتسب.
والثاني: (إيماني): ما كان مكتسبًا من معرفة الله، ومعرفة عظمته وقربه من عباده[2].
وباعتبار سببه عشرة أقسام:
«حياء جناية، وحياء تقصير، وحياء إجلال، وحياء كرم، وحياء حشمة، وحياء استصغار للنفس واحتقار لها، وحياء محبة، وحياء عبودية، وحياء شرف وعزة، وحياء المستحيي من نفسه»[3].


[1] انظر: أدب الدنيا والدين (258 ـ 259).
[2] انظر: جامع العلوم والحكم (242) [ط4، 1424هـ]، والتعريفات (126).
[3] مدارج السالكين (2/329 ـ 332)، وفيه شرح هذه الأنواع.


الحياء من صفات الله سبحانه:
الحياء صفة ثابتة لله سبحانه وتعالى بالكتاب والسُّنَّة، ومن أسمائه الحسنى: (الحيي).
قال ابن القيِّم رحمه الله بعد حديثه عن حياء العباد: «وأما حياء الربِّ تعالى من عبده: فذاك نوع آخر، لا تدركه الأفهام، ولا تكيفه العقول، فإنه حياء كرم وبر وجود وجلال؛ فإنه تبارك وتعالى حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرًا، ويستحيي أن يعذب ذا شيبة شابت في الإسلام. وكان يحيى بن معاذ يقول: «سبحان من يذنب عبده ويستحيى هو». وفي أثر: «من استحيا من الله استحيا الله منه»»[1].


[1] مدارج السالكين (2/329).


الفرق بين الحياء والخجل:
الحياء خير كله ولا يأتي إلا بخير، وأما الخجل فليس بحياء وإن سماه بعض الناس حياء؛ لأن الخجل ضعف وعجز مانع من فعل الحق وأدائه، بخلاف الحياء فإنه يحمل على ترك القبيح وعدم التقصير في القيام بالحق الذي عليه. ولذلك جاء في صحيح مسلم[1]: أن أبا قتادة حدث قال: «كنا عند عمران بن حصين في رهط منا وفينا بُشير بن كعب، فحدثنا عمران يومئذ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الحياء خير كله» . قال: أو قال: «الحياء كله خير» . فقال بشير بن كعب: إنا لنجد في بعض الكتب أو الحكمة أن منه سكينة ووقارًا لله، ومنه ضعف. قال: فغضب عمران حتى احمرتا عيناه وقال: ألا أرى أحدثك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتعارض فيه؟! قال: فأعاد عمران الحديث، قال: فأعاد بشير، فغضب عمران. قال: فما زلنا نقول فيه إنه منا يا أبا نجيد إنه لا بأس به».


[1] تقدم تخريجه في الأدلة.


إذا حقق العبد هذا الخلق العظيم (الحياء) فإنه سيحمله على: ترك كل مستقبح عند الله وعند خلقه، وأداء كل حق إلى أهله وعدم التقصير فيه.
ومن ثمرات هذا الخلق على وجه التفصيل:
1 ـ تحقيق مراقبة الله وتقواه المتمثلة في: حفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، وإرادة الآخرة وترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء.
2 ـ محبة الله والقرب منه وتقديم محابه على كل من سواه.
3 ـ صلاح القلب وسعادته وذوقه لحلاوة الإيمان.
4 ـ أداء حقوق الله كما أمر سبحانه ومجاهدة النفس على عدم التقصير فيها، وعند حصول التقصير المبادرة للتوبة.
5 ـ أداء حقوق الخلق وإعطاء كل ذي حق حقه.
6 ـ اكتساب الأخلاق الحسنة والمروءة الجامعة لفعل ما يجمله ويزينه وترك ما يقبحه ويشينه.
7 ـ محبة الله عزّ وجل للمستحي منه من عباده، واستحياؤه تعالى منه، وبالتالي إجابة دعائه، وحفظه وتوليه ونصرته، وإلقاء محبته في قلوب أهل السماء وأهل الأرض ووضع القبول له.
8 ـ الحكمة ووزن الكلام قبل التفوه به، ووزن التصرفات قبل فعلها، ومجانبة ما يحتاج إلى الاعتذار منه، وترك إجابة السفيه حلمًا عنه[1].
9 ـ الفوز برضا الله وجنته والنجاة من سخطه وناره.


[1] انظر: شعب الإيمان (10/169) [مكتبة الرشد ـ ط1 ـ 1423هـ].


1 ـ «أدب الدنيا والدين»، للماوردي.
2 ـ «الآداب الشرعية» (ج2)، لابن مفلح.
3 ـ «بصائر ذوى التمييز» (ج1)، للفيروزآبادي.
4 ـ «جامع العلوم والحكم»، لابن رجب.
5 ـ «الحياء في حياة المسلم»، للجار الله.
6 ـ «شعب الإيمان» (ج6)، للبيهقي.
7 ـ «فتح الباري» (ج1)، لابن حجر.
8 ـ «مدارج السالكين» (ج2)، لابن القيِّم.
9 ـ «المفردات في غريب القرآن» (ج1)، للراغب.
10 ـ «مجموع الفتاوى» (ج10)، لابن تيمية.
11 ـ «مفتاح دار السعادة» (ج1)، لابن القيِّم.