الحيِّز: هو الناحية والمجْمع، يقال: انحاز عن القوم إذا اعتزلهم، وصار في ناحية أخرى. وانحاز إليهم إذا انضم إليهم. ذكر ابن فارس في مادة: (حيز) أن ياءه ليست أصلية، وإنما منقلبة عن واو، وأصل المادة: (حَوْز)، فقال: «الحاء والياء والزاء ليس أصلاً؛ لأن ياءه في الحقيقة واو. من ذلك: الحيِّز: الناحية. وانحاز القوم، وقد ذكر في بابه»[1].
وقال الأزهري: «قال أبو عبيد: التحوّز هي التنحي. وفيه لغتان: التحوُّز والتحيُّز. وقال الله جلَّ وعز: {أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال: 16] فالتَّحوّز تفَعُّل والتحيّز التَّفَيْعل، ونحو ذلك قال الفراء وحذاق النحويين»[2].
[1] مقاييس اللغة (2/123) [دار الجيل، ط2].
[2] تهذيب اللغة (5/115) [دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 2001م].
عرَّفه الجرجاني بقوله: «الحيِّز عند المتكلمين: هو الفراغ المتوهم، الذي يشغله شيء ممتد كالجسم، أو غير ممتد كالجوهر الفرد»[1].
وعرَّفه الحافظ السيوطي بقوله: «الحَيِّزُ: هو الفراغ المتوهم المشغول بالشيء»[2].
[1] التعريفات للجرجاني (127) [دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1405هـ].
[2] معجم مقاليد العلوم (72) [مكتبة الآداب، ط1].
لا يجوز إطلاق الألفاظ المجملة المبتدعة كالحيز والتحيز والمتحيز في حق الله، وإنما الواجب في ذلك التقيد بما ورد في الكتاب والسُّنَّة من صفات الله الكاملة؛ لأن هذا الباب توقيفي لا مجال للعقل في الخوض فيه.
فإذا أطلق لفظ المتحيز وأريد به أن الله منحاز عن المخلوقات ومنفصل عنها فهذا حق ولكن التعبير عنه بهذا اللفظ البدعي خطأ فيتوقف عن هذا اللفظ فلا يثبت ولا ينفى، وإن أريد به أن المخلوقات تحوزه، أو أنه ليس خارج العالم ولا داخله فهذا باطل معناه؛ لأن الله مستوٍ على عرشه بائن عن خلقه وأما اللفظ فيتوقف فيه فلا يثبت ولا ينفى[1].
[1] انظر: التدمرية (46) [جامعة الإمام، ط4، 1408هـ].
حقيقة المتحيز عند المتكلمين هو الموجود ولو كان خارج المخلوقات؛ لأنهم يعتقدون أن الحيز من لوازمه، فمن أثبت موجودًا قائمًا بنفسه مباينًا للمخلوقات، خارجًا عنها فقد جعله عندهم متحيزًا أو في حيز، وإن لم يكن في جهة موجودة[1].
[1] انظر: أساس التقديس للرازي (16)، والفتاوى الكبرى لابن تيمية (6/357)، والتدمرية (44)، والكليات لأبي البقاء الكفوي (316) [مؤسسة الرسالة، 1419هـ].
قال ابن تيمية: «لفظ التحيز: إن أراد به أن الله تحوزه المخلوقات فالله أعظم وأكبر؛ بل قد وسع كرسيه السماوات والأرض، وقد قال الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] . وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «يقبض الله الأرض ويطوي السماوات بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟» [1]. وإن أراد به أنه منحاز عن المخلوقات؛ أي: مباين لها منفصل عنها ليس حالًّا فيها، فهو سبحانه كما قال أئمة السُّنَّة: فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه»[2].
وقال صديق حسن خان: «وأما الألفاظ المبتدعة في النفي والإثبات مثل قول القائل في جهة وهو متحيز أو ليس بمتحيز ونحوها من الألفاظ التي تنازع فيها الناس فليس مع أحدهما نصٌّ لا عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم ولا عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا أئمة المسلمين... من قال: إن الله متحيز، أو قال: ليس بمتحيز، إن أراد بقوله متحيز: أن المخلوقات تحوزه وتحيط به فقد أخطأ، وإن أراد منحاز عن المخلوقات بائن عنها عال عليها فقد أصاب، ومن قال: ليس بمتحيز: إن أراد أن المخلوقات لا تحوزه فقد أصاب، وإن أراد أنه ليس مباينًا عنها؛ بل هو لا داخل فيها ولا خارج عنها فقد أخطأ»[3].
وقال ابن عثيمين: «فإذا قال قائل: هل نَصِفُ الله تعالى بأنه متحيز أو في حيز؟ قلنا: لفظ: (التحيز) أو (الحيز) ليس في الكتاب والسُّنَّة إثباته ولا نفيه عن الله تعالى، فليس فيهما أنه في حيز، أو متحيز، ولا أنه ليس كذلك، وفي النصوص ما يغني عنه مثل الكبير المتعال. وقد اضطرب المتأخرون في إثبات ذلك لله تعالى أو نفيه عنه، فإذا أجريناه على القاعدة قلنا: أما اللفظ فلا نثبته ولا ننفيه لعدم ورود السمع به، وأما المعنى فينظر ماذا يراد بالحيز أو المتحيز أيراد به أن الله تعالى تحوزه المخلوقات وتحيط به؟ فهذا معنى باطل منفي عن الله تعالى لا يليق به فإن الله أكبر، وأعظم، وأجل من أن تحيط به المخلوقات وتحوزه»[4].
[1] أخرجه البخاري (كتاب التفسير، رقم 4812)، ومسلم (كتاب صفة القيامة والجنة والنار، رقم 2787).
[2] التدمرية (46).
[3] قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر (42، و44) [ط1، 1404هـ].
[4] مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين (4/155) [دار الوطن ودار الثريا، 1413هـ].
سبق بيان ما يحتمله لفظ الحيز أو التحيز أو المتحيز من المعاني الباطلة والمعاني الصحيحة وقد جعله المتكلمون سلمًا لنفي الصفات الثابتة لله كالعلو والاستواء على العرش ونحوهما بحجة أن إثباتها يلزم منه أن يكون الله متحيزًا.
والمتحيز في المتعارف عليه عند النظّار وغيرهم: هو الجرم الشاغل قدرًا من المساحة[1]، والحيز هو المكان، أو تقدير المكان؛ أي: كونه في المكان[2]. ولا يقتصرون في نفي الحيز عن الله على الحيز المخلوق، بل يعنون ما هو أوسع من ذلك وهو ما كان قائمًا بنفسه مباينًا لغيره بالجهة وإن لم يكن في شيء موجود[3]. وعليه فهم يقصدون نفي علو الله على خلقه واستوائه على عرشه.
قال الرازي: «إن جمهور العقلاء المعتبرين، اتفقوا على أنه تعالى ليس بمتحيز ولا مختص بشيء من الجهات، وأنه تعالى غير حالٍّ في العالم، ولا مباين عنه في شيء من الجهات»[4].
[1] انظر: الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام (78) [دار التراث العربي، القاهرة، 1398هـ].
[2] الكليات للكفوي (486 ـ 487).
[3] انظر: الفتاوى الكبرى (6/357).
[4] أساس التقديس للرازي (16).
أولاً: أن هذه الألفاظ التي تذرَّع بها النفاة لنفي الصفات ليس لها أصل في شرع الله المطهر، ولا نطق بها الصحابة ولا التابعون لهم بإحسان، لا إثباتًا ولا نفيًا. وأول من نطق بها نفيًا وإثباتًا هم الجهمية والمعتزلة ومشبهة الرافضة، والمبتدعة[1].
ثانيًا: أن إطلاق التحيز على بعض الصفات الثابتة لله؛ كالعلو والاستواء والنزول فيه خروج عن المصطلحات الشرعية وهو لا يجوز.
ثالثًا: أن الموقف الصحيح من هذه الألفاظ الموهمة المبتدعة هو أن يتوقف في ألفاظها، ويستفسر عن معانيها، فيقال لهم: إن أردتم أن الله مختلط بخلقه لئلا يلزم أن يكون متحيزًا، فنحن نكفر بقولكم هذا، ونتيقن أنه باطل، وهو مردود شرعًا وعقلاً. وإن أردتم: أن الله لا حقيقة له تميزه عن خلقه، فكذلك هذا كفر وضلال.
وإن أردتم أن الله تعالى متميز من خلقه، وأنه بائن منه، فهذا حق، والنصوص فيه أكثر من أن تحصى، وهو ما يعتقده المسلمون ويؤمنون به، واتفق عليه سلف هذه الأمة وأئمتها قبل ظهور المعتزلة والفرق الضالة[2].
رابعًا: أن ما يذكره هؤلاء النفاة من أن الله غير حالٍّ في العالم ولا مباين عنه في شيء من الجهات، كما صرح به الرازي فيما تقدم فهو وإن كان شطره الأول صحيحًا، فإن شطره الثاني تعطيل محض ونفي صرف لوجود الله وهو باطل؛ لأن ما لا يكون داخل العالم ولا خارجه فهو المعدوم كما لا يخفى على كل ذي بصيرة. والله تعالى عليٌّ فوق خلقه مستو على عرشه بائن من برياته كما قال سبحانه: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه] .
[1] انظر: المنتقى من منهاج السُّنَّة للذهبي (110).
[2] انظر: شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري للغنيمان (2/180) [مكتبة الدار، المدينة المنورة، ط1].