الخاتِم: بكسر التاء: اسم فاعل من الفِعل الثلاثي (ختم)؛ بمعنى: آخر الشيء، وبفتحها: ما يُختَم به، ويُقال له: الخاتِم والخاتام والخَيتام والخِيتام والخَتَم والخاتيام، والجمع: خواتِم وخواتيم. والخاء والتاء والميم أصلٌ واحدٌ؛ وهو: بلوغ آخر الشيء، يُقال: ختمت العملَ، وختم القارئ السورةَ، والخَتْم: الطبع على الشيء، وهو لا يكون إلا بعد بلوغ آخره في الأحراز[1].
النبيِّين: جمع نبيّ ونبيء؛ وهو: المُخبِر عن الله عزّ وجل؛ مأخوذ من (النَّبأ)؛ أي: الخبر؛ لأنه أنبأ عن الله سبحانه وتعالى؛ فهو فعيل بمعنى مفعول. وقيل: بل مأخوذ من (النَّبْوة)؛ أي: الارتفاع؛ كأنه مُفضَّل على الناس برَفع منزلته. والاسم: النُّبُوَّة[2].
[1] انظر: الصحاح (5/1908) [دار العلم للملايين، ط4، 1990م]، ومقاييس اللغة (2/245) [دار الفكر، ط2، 1418هـ]، والقاموس المحيط (1420) [مؤسسة الرسالة، ط5، 1416هـ].
[2] انظر: الصحاح (1/74، 6/2500)، ومقاييس اللغة (5/384)، والقاموس المحيط (67).
المراد بمسألة خاتم النبيين (ختم النبوة): «انقطاع حدوث وصف النبوة في أحد من الثقلين بعد تحليه صلّى الله عليه وسلّم بها في هذه النشأة»[1]؛ «فلا تبتدأ نبوة ولا تشرع شريعة بعد نبوته وشريعته صلّى الله عليه وسلّم»[2].
وبعبارة مختصرة: «انتهاء إنباء الله للناس، وانقطاع وحي السماء»[3].
[1] روح المعاني للآلوسي (22/34) [إدارة الطباعة المنيرية بمصر].
[2] لوامع الأنوار البهية للسفاريني (2/277) [المكتب الإسلامي، بيروت].
[3] عقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمدية لأحمد بن سعد الغامدي (16) [دار طيبة، الرياض، ط1، 1405هـ].
سُمي نبيُّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم بخاتم النبيين؛ لأنه ختمهم وختموا به؛ أي: جاء آخرهم؛ فقد ختم الله تعالى به النبوة؛ فلا نبي بعده.
أو: تشبيهًا له صلّى الله عليه وسلّم بالخاتم الذي يختم به المكتوب؛ فهو كالخاتم والطابع لهم، فكأنه طبع على النبوة فلا تفتح لأحد بعده، أو كأن ظهوره صلّى الله عليه وسلّم كان غلقًا لها[1].
[1] انظر: الهداية إلى بلوغ النهاية (9/5844) [طبعة جامعة الشارقة، ط1، 1429هـ]، وتفسير البغوي (6/358) [دار طيبة، ط4، 1417هـ]، وتفسير القرطبي (14/195) [دار إحياء التراث العربي، 1405هـ]، وفتح القدير للشوكاني (4/376) [دار الوفاء، المنصورة، 1412هـ]، وروح المعاني (22/34)، وتحفة الأحوذي (9/51) [دار الكتب العلمية، 1422هـ]، والتحرير والتنوير (22/47) [دار سحنون، تونس، 1997م].
حقيقة الإيمان بختم النبوة بنبيِّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم أنه يجب على المسلم أن يعتقد أن من خصائص نبيِّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم التي انفرد بها عمن قبله من الأنبياء ـ مما هو معلوم بالنقل المتواتر من دين الإسلام بالضروة ـ: أنه خاتم النبيين والمرسلين، ورسول ربِّ العالمين إلى جميع الثقلين: إنسهم وجنهم، عربهم وعجمهم، دانيهم وقاصيهم، ملوكهم ورعيتهم، زهادهم وغير زهادهم، الأولياء منهم وغيرهم؛ فبه أكمل الله الدين، وأتم علينا به النعمة، ونسخ به جميع الشرائع السابقة؛ فرسالته صلّى الله عليه وسلّم كافية شافية عامة، لا تحوج إلى سواها، وهو صلّى الله عليه وسلّم ـ بفضل ربه تعالى ـ لم يحوج أمته إلى أحد من بعده؛ وإنما حاجتهم إلى من يبلغهم عنه ما جاء به.
فلا نبي ولا رسول معه ولا بعده، وكل دعوى للنبوة بعده، أو ادعاء نزول الوحي على غيره بعده ـ وإن لم يدع النبوة ـ؛ فهي كذب وإفك وضلال وافتراء، يكفر صاحبها، ويقتل إن أصرّ عليها. وكذا من جحد ختمه صلّى الله عليه وسلّم للنبوة، ولو كان مقرًّا بأنه صلّى الله عليه وسلّم رسول الله لجميع الثقلين.
ويعتقد المسلم أيضًا: أنه لا يسع أحدًا من الناس إلا الإيمان به ومتابعة ما جاء به من الكتاب والسُّنَّة، باطنًا وظاهرًا، في دقيق الأمور وجليلها، في العلوم والمعارف والأعمال، ولا يجوز متابعة غيره من الرسل السابقين بعد بعثته صلّى الله عليه وسلّم ونزول الوحي عليه، فلو أدركه الأنبياء عليهم السلام ما وسعهم إلا اتباعه؛ فلا شرع إلا شرعه، ولا يُتعبد الله تعالى بغير ما جاء به صلّى الله عليه وسلّم، فمن ابتغى غير دينه وشرعه دينًا وشرعًا فلن يقبل منه، ومن سمع به صلّى الله عليه وسلّم ومات ولم يؤمن به ـ بحجة اتباع غيره من الأنبياء عليهم السلام ـ فهو من أصحاب النار، وكذا من سوَّغ اتباع شريعة غير شريعته صلّى الله عليه وسلّم فهو كافر بالإجماع.
فشرعه صلّى الله عليه وسلّم باق بقاء الليل والنهار إلى يوم القيامة؛ ولذا فهو صلّى الله عليه وسلّم أكثر الأنبياء تابعًا يوم القيامة[1].
[1] انظر: المحرر الوجيز لابن عطية (7/125) [وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بقطر، ط2، 1428هـ]، والشفا للقاضي عياض (2/1070) [طبعة عيسى البابي الحلبي]، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (2/234، 4/204، 12/496، 27/59، 28/524، 34/207)، والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (5/445) [دار العاصمة، ط1، 1414هـ]، والفتاوى الكبرى لابن تيمية (3/274) [دار الكتب العلمية، ط1، 1408هـ]، وإعلام الموقعين عن رب العالمين (4/375) [دار الجيل، 1973م]، وتفسير ابن كثير (1/5، 2/26، 3/489، 6/428) [دار طيبة، ط2، 1420هـ]، وشرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي (1/156، 167) [مؤسسة الرسالة، ط9]، ولوامع الأنوار البهية (2/269، 277) [المكتب الإسلامي]، والخصائص الكبرى للسيوطي (2/279) [دار الكتب العلمية، 1405هـ]، والمواهب اللدنية للقسطلاني (2/645) [المكتب الإسلامي، ط2]، وروح المعاني (22/34، 41)، ومعارج القبول (3/1115) [دار ابن القيم، ط1، 1410هـ]، والتحرير والتنوير للطاهر بن عاشور (22/45)، وعقيدة ختم النبوة للغامدي (17) وما بعدها، والإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للفوزان (2/186) [طبعة الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء بالرياض، ط2، 1412هـ]، والإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان لبكر أبو زيد (83) [دار العاصمة، ط1، 1417هـ].
دلَّ على هذا المعتقد: الكتاب، والسُّنَّة المتواترة، وإجماع الأمة:
فمن الكتاب: قول الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا *} [الأحزاب] ؛ وهي نص صريح في الدلالة على ختم النبوة بنبيِّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، والرسالة بطريق الأولى والأحرى؛ فلا نبي بعده ولا رسول، سواء على قراءة الفتح أو الكسر للتاء في قوله تعالى: {وَخَاتَمَ}. وقوله عزّ وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة: 3] ، ووجه الدلالة من الآية: أن الله تعالى امتن على هذه الأمة وأتم عليها النعمة بإكمال الدين؛ «فهذه أكبر نِعَم الله عزّ وجل على هذه الأمة؛ حيث أكمل تعالى لهم دينهم؛ فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيِّهم صلوات الله وسلامه عليه؛ ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن؛ فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق، لا كذب فيه ولا خلف»[1].
وأما من السُّنَّة: فقد ثبت في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي: كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية؛ فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين» [2]، وفي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: «فأنا موضع اللبنة؛ جئت فختمت الأنبياء»[3].
وفي «صحيح مسلم»، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «فُضِّلت على الأنبياء بست» ، فذكر منها: «وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيُّون»[4].
وثبت في «الصحيحين» عن جبير بن مطعم رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحى بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على عقبي، وأنا العاقب، والعاقب: الذي ليس بعده نبي»، وفي رواية لمسلم: «وأنا العاقب الذي ليس بعده أحد»[5].
وفيهما أيضًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء؛ كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي...» الحديث[6].
وثبت في حديث ثوبان رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «... وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين؛ لا نبي بعدي» [7]. والأحاديث في هذا الباب أكثر من أن تحصر.
وأما الإجماع : فقد أجمعت الأمة[8] على أنه صلّى الله عليه وسلّم خاتم الأنبياء والمرسلين، ورسول ربِّ العالمين إلى جميع الثقلين، وعرف ذلك بين الصحابة معرفة ضرورية يقينية، وتواتر بينهم، وفي الأجيال من بعدهم؛ ولذلك أجمعوا على قتال المتنبئين بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم يترددوا في تكفير مسيلمة والأسود العنسي. فصارت هذه العقيدة معلومة من الدين بالضرورة، فمن أنكر ختم النبوة به صلّى الله عليه وسلّم فهو كافر خارج عن الإسلام بالإجماع، ولو كان مقرًّا بأن محمدًا صلّى الله عليه وسلّم رسول الله للناس كلهم. وهذا مبثوث متكاثر في كلام الأئمة وكتب العقائد قديمًا وحديثًا، والحمد لله.
وأيضًا من الأدلة على ختم النبوة به صلّى الله عليه وسلّم: أدلة عموم رسالته إلى جميع الثقلين؛ فهذا العموم مستلزم لكونه خاتم النبيين، وكونه خاتم النبيين مستلزم لعموم رسالته.
[1] تفسير ابن كثير (3/26)، بتصرف يسير.
[2] أخرجه البخاري (كتاب المناقب، رقم 3535)، ومسلم (كتاب الفضائل، رقم 2286).
[3] أخرجه مسلم (كتاب الفضائل، رقم 2287). وأخرجه البخاري أيضًا (كتاب المناقب، رقم 3534)، دون هذه الزيادة.
[4] أخرجه مسلم (كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم 523).
[5] أخرجه البخاري (كتاب المناقب، رقم 3532)، ومسلم (كتاب الفضائل، رقم 2354) واللفظ له.
[6] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3455)، ومسلم (كتاب الإمارة، رقم 1842).
[7] أخرجه أبو داود (كتاب الفتن، رقم 4252)، والترمذي (أبواب الفتن عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، رقم 2219) وصحَّحه، وابن ماجه (كتاب الفتن، رقم 3952)، وأحمد في مسنده (37/117) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وصحَّحه الألباني في السلسلة الصحيحة (4/252) [مكتبة المعارف، الرياض، ط1، 1415هـ].
[8] انظر: مراتب الإجماع لابن حزم (167 و173) [دار الكتب العلمية]، والمحرر الوجيز لابن عطية (7/125)، والشفا للقاضي عياض (2/1071)، وروح المعاني للآلوسي (22/41)، والتحرير والتنوير (22/45).
قال أبو جعفر الطحاوي: «وإن محمدًا عبده المصطفى، ونبيِّه المجتبى، ورسوله المرتضى، وإنه خاتم الأنبياء، وإمام الأتقياء، وسيد المرسلين، وحبيب رب العالمين، وكل دعوى النبوة بعده فغي وهوى، وهو المبعوث إلى عامة الجن وكافة الورى، بالحق والهدى، وبالنور والضياء»[1].
وقال ابن تيمية: «محمد بن عبد الله بن عبد المطلب هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى جميع الثقلين؛ الجن والإنس، عربهم وعجمهم، دانيهم وقاصيهم، ملوكهم ورعيتهم، زهادهم وغير زهادهم... وهو خاتم الرسل؛ ليس بعده نبي ينتظر ولا كتاب يرتقب؛ بل هو آخر الأنبياء، والكتاب الذي أنزل عليه مصدق لما بين يديه من الكتاب ومهيمن عليه. فمن اعتقد أن لأحد من جميع الخلق ـ علمائهم وعبادهم وملوكهم ـ خروجًا عن اتباعه وطاعته وأخذ ما بعث به من الكتاب والحكمة؛ فهو كافر»[2].
وقال ابن كثير: «وقوله: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا *} [الأحزاب] ؛ كقوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] ؛ فهذه الآية نصٌّ في أنه لا نبي بعده، وإذا كان لا نبي بعده فلا رسول بعده بطريق الأولى والأحرى؛ لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة؛ فإن كل رسول نبي، ولا ينعكس. وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حديث جماعة من الصحابة... فمن رحمة الله تعالى بالعباد إرسال محمد صلوات الله وسلامه عليه إليهم، ثم من تشريفه لهم ختم الأنبياء والمرسلين به، وإكمال الدين الحنيف له. وقد أخبر تعالى في كتابه، ورسوله في السُّنَّة المتواترة عنه: أنه لا نبي بعده؛ ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفاك، دجال ضال مضل، ولو تخرق وشعبذ[3]، وأتى بأنواع السحر والطلاسم والنيرجيات[4]! فكلها محال وضلال عند أولي الألباب»[5].
[1] العقيدة الطحاوية (12) [دار ابن حزم، بيروت، ط1، 1416هـ].
[2] مجموع الفتاوى (27/59).
[3] تخرق الكذب: اختلقه وابتدعه. وشعبذ ـ مثل: شعوذ ـ: ما يريه لغيره مما ليس له حقيقة كالسحر.
[4] النيرجيات: ما يلبسه المشعوذ ونحوه على غيره مما يشبه السحر.
[5] تفسير ابن كثير (6/428 ـ 430).
المسألة الأولى: استشكال بعضهم اختصاصه صلّى الله عليه وسلّم بختم النبوة والرسالة به دون غيره من الأنبياء عليهم السلام ، بما تواتر من نزول المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام إلى الأرض آخر الزمان؛ فهذا يوهم أنه هو آخر الأنبياء وخاتمهم لا نبيُّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم:
وأجيب عن ذلك[1]: بأنه لا إشكال في ذلك؛ فعيسى عليه السلام إنما كان نبيًّا قبل تحلي نبيِّنا صلّى الله عليه وسلّم بالنبوة في هذه النشأة، وهو حين ينزل يكون باقيًا على نبوته السابقة لا يعزل عنها، لا أنه يوحى إليه بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وختم النبوة معناه ـ كما سبق ـ: أنه لا تبتدأ نبوة ولا تشرع شريعة بعد نبوته وشريعته صلّى الله عليه وسلّم، ولا يتصف بذلك أحد بعده، وعيسى عليه السلام إنما نبئ وأرسل قبله صلّى الله عليه وسلّم لا بعده؛ فظهر أنه لا منافاة ولا إشكال، والحمد لله.
ثم إن عيسى عليه السلام إذا نزل إنما يتعبد الله بشريعة نبيِّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم ـ أصولاً وفروعًا ـ لا بشريعته المتقدمة المنسوخة، ويكون خليفة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحاكمًا من حكام ملته بين أمته بما علمه الله تعالى في السماء قبل نزوله؛ فيحكم بالقرآن، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية ولا يقبل من أهل الكتاب إلا الإسلام؛ وكل هذا إقرار وتأييد منه بختم النبوة بنبيِّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، والحمد لله.
المسألة الثانية: ما ذكره بعض أهل السير من احتمال اختصاص نبيِّنا صلّى الله عليه وسلّم بخاتم النبوة بين كتفيه دون إخوانه من الأنبياء عليهم السلام:
وذكر أهل العلم في الحكمة من ذلك ذلك عدة معان؛ منها: الإشارة إلى أنه خاتم النبيين، وليس هذا لأحد غيره، ولأن باب النبوة ختم به فلا يفتح بعده أبدًا، وقيل غير ذلك[2]. والله أعلم.
المسألة الثالثة: هل شرع من قبلنا شرع لنا؟
الصحيح: أنه شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه؛ وفي هذا استدلال أيضًا لختم النبوة بنبيِّنا صلّى الله عليه وسلّم؛ فشرعه هو المهيمن والناسخ لشرع من قبله؛ فما نسخه شرعنا أو جاء بخلافه فلا يعمل به ولا يصح أن يكون معارضًا لشرعنا، وما وافقه كان صحيحًا معمولاً به، وما كان مسكوتًا عنه في شريعتنا فالصحيح: أنه شرع لنا؛ لقول الله تعالى ـ بعد أن ذكر مجموعة من أنبيائه ورسله عليهم السلام ـ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] ، وقوله عزّ وجل: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُِوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف: 111] ، وغير ذلك من الأدلة المبسوطة في مظانها من كتب أصول الفقه.
[1] انظر: لوامع الأنوار البهية للسفاريني (2/277)، وروح المعاني للآلوسي (22/34).
[2] انظر: الروض الأنف للسهيلي (2/178) [دار النصر للطباعة، مصر، 1387هـ]، وسبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي (2/49،50) [دار الكتب العلمية، ط1، 1414هـ]، ولوامع الأنوار البهية للسفاريني (2/270).
من أبرز الثمرات المترتبة على الإيمان بختمه صلّى الله عليه وسلّم للنبوة: استقرار التشريع وكمال الدين لدى الأمة، وهذا له أكبر الأثر في قوة إيمانها، وصدق اليقين بوعد ربها تعالى، ورسوخ القدم في الثبات على الدين وأحكام الشرع؛ كما امتن الله تعالى علينا بهذا في قوله عزّ وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة: 3] .
ومن الثمرات أيضًا: القطع بتكذيب كل دعوى للنبوة بعده صلّى الله عليه وسلّم دون نظر أو تأمل، وفي هذا عصمة للأمة المحمدية من اتباع الدجالين الكذابين المتنبئين.
ومن الثمرات أيضًا: إبراز فضل هذه الأمة المحمدية على غيرها من الأمم السابقة، وفضل علمائها وأمرائها وخلفائها ـ الذين يسوسون الناس بالشرع ـ في حفظ أمر الدين والدنيا؛ فبهم حفظ الله الدين، وجدد معالمه، ونفى عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين. بخلاف بني إسرائيل؛ فإنهم كانت تسوسهم الأنبياء عليهم السلام[1].
ومن الثمرات أيضًا: اعتقاد فضل النبي صلّى الله عليه وسلّم على سائر إخوانه من الأنبياء والرسل عليهم السلام، والتنويه بفضله وشرفه وكرامته على ربه عزّ وجل، وكمال رسالته وشرعه ودعوته.
[1] انظر: أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسُّنَّة لنخبة من العلماء (183) [مجمع الملك فهد، ط1، 1421هـ].
تقدم تقرير أن عموم الرسالة المحمدية إلى جميع الثقلين هو من خصائص نبيِّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم التي انفرد بها عمن قبله من الأنبياء عليهم السلام، وأنه صلّى الله عليه وسلّم أتى بشريعة ورسالة كافية شافية عامة، لا تحوج إلى سواها، وهو صلّى الله عليه وسلّم ـ بفضل ربه تعالى ـ لم يحوج أمته إلى أحد من بعده؛ وإنما حاجتهم إلى من يبلغهم عنه ما جاء به؛ فكان من لوازم هذا العموم (عمومه بالنسبة إلى المرسل إليهم، وعمومه بالنسبة إلى كل ما يحتاج العباد إليه في أصول الدين وفروعه) أن يكون صلّى الله عليه وسلّم خاتم أنبياء الله ورسله، وأن يكون كتابه ـ القرآن الكريم ـ هو خاتم كتب الله المنزلة، ومهيمنًا عليها وناسخًا لها، وجامعًا لأصولها ومحاسنها، وباقيًا وخالدًا إلى قيام الساعة؛ ومن هنا ظهرت المناسبة في كونه صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبيين دون غيره من الرسل، الذين كانت رسالتهم مؤقتة لأقوام معينين في أزمنة خاصة، ولم تكن عامة لمن بعدهم. والله أعلم.
ادعى النبوة من زعماء الفرق الحديثة الباطنية كل من: الباب (واسمه: السيد علي محمد) زعيم البابية، وبهاء الله (واسمه: ميرزا حسين علي) زعيم البهائية، و(غلام أحمد بن غلام مرتضي القادياني) زعيم القاديانية (الأحمدية)[1]!
وزعم الغرابية ـ من غلاة الشيعة ـ أن القرآن والوحي حق لعليٍّ، وأخطأ جبريل عليه السلام وأعطاه لمحمد صلّى الله عليه وسلّم؛ لشدة شبه علي به كما يشبه الغراب الغراب! ومثلهم الباطنية؛ الذين يزعمون أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخذ القرآن عن سلمان الفارسي![2].
وأثبت الشيعة الإمامية الاثنا عشرية نزول الوحي بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على فاطمة وأئمتهم، وكلام الملائكة لهم بهذا الوحي، وقيام الأئمة مقام النبي صلّى الله عليه وسلّم في النبوة والحجة[3]؛ بل تجرأ غلاتهم على ما هو أعظم من هذا؛ فنصَّ بعض علمائهم على أن أئمتهم أفضل وأعلم من جميع الأنبياء والمرسلين، بما فيهم أولو العزم من الرسل[4]! وهذا في حقيته قدح وخدش في عقيدة ختم النبوة واختصاص نبيِّنا صلّى الله عليه وسلّم بها، فضلاً عن كونه كفرًا بالإجماع لا يمتري فيه أحد[5].
وجوَّز الفلاسفة وغلاة الصوفية إمكان تحقق النبوة لأنفسهم، واكتسابهم لها بصفاء القلب ونقاء السريرة؛ فادعى ابن عربي ـ بعد ادعائه إثبات النبوة العامة ـ نزول الوحي عليه خاصة، وأنه خاتم الأولياء، وأن الرسل لا يقتبسون علمهم إلا من مشكاته[6]!
وقد تجرأ الزنادقة والملاحدة من جهلة المتفلسفة والمتصوفة والباطنية على ما هو أعظم من هذا؛ فذهبوا إلى أن الولي قد يكون أفضل وأعلم من النبي، وأنه يسعه الخروج عن شريعة نبي زمانه، وأنه يعلم الغيب، وأن أتباعه وأشياخهم لهم طرق باطنة توافق الحق ولو كانت مخالفة لظاهر الشرع؛ كمخالفة ما فعله الخضر لظاهر العلم الذي عند موسى[7]! وهذا القول ذريعة إلى الانحلال بالكلية من دين الإسلام؛ بل هو زندقة وكفر؛ لأنه إنكار لما علم من الشرائع؛ فأحكام الله تعالى لا تعلم إلا بوساطة الرسل، فمن قال هذا القول فقد أثبت لنفسه خاصية النبوة؛ فهو في حقيقته قول بإثبات أنبياء بعد نبيِّنا صلّى الله عليه وسلّم ـ الذي جعله الله خاتم أنبيائه ورسله؛ فلا نبي بعده ولا رسول ـ؛ فهذا القول خروج عن عقيدة ختم النبوة المعلومة من الدين بالضرورة.
والأولياء عند بعض غلاة الصوفية يتفاضلون؛ فأفضلهم خاتم الأولياء، وهو عندهم أفضل من خاتم الأنبياء! وقدم هؤلاء بعض أوليائهم في المنزلة على منزلة الأنبياء والمرسلين، بما فيهم أولو العزم منهم[8]! فذهبوا إلى تقسيم مقامات الأولياء إلى أربعة مقامات: فمنهم من يقوم مقام خلافة النبوة (وهم العلماء)، ومنهم من يقوم مقام خلافة الرسالة (وهم الأبدال)، ومنهم من يقوم مقام خلافة أولي العزم (وهم الأوتاد)، ومنهم من يقوم مقام خلافة أولي الاصطفاء (وهم الأقطاب)[9]! فمقام بعض الأولياء عند هؤلاء الغلاة يكون فوق مقام أولي العزم من الرسل، فضلاً عن مقام النبوة والرسالة! فالله المستعان، وتعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.
ومن الحركات المعاصرة المناقضة لعقيدة ختم النبوة: الحركات الداعية إلى وحدة الأديان الثلاثة (الإسلام، واليهودية، والنصرانية)، ووحدة الكتب السماوية، وفكرة طبع (القرآن الكريم، والتوراة، والإنجيل) في غلاف واحد[10]! زيادة على أن هذه الحركات والدعاوى مناقضة لاعتقاد تحريف الكتب السماوية.
وكل ما سبق خروج عن عقيدة ختم النبوة، المتواترة تواترًا قطعيًّا، والمعلومة من دين الإسلام بالضرورة، وفساد هذه الأقوال والمعتقدات، وظهور كفر أصحابها يغني عن تكلف الرد عليها، وفيما تقدم كفاية في الرد عليهم.
[1] انظر: التحرير والتنوير (22/45)، وعقيدة ختم النبوة للغامدي (201 ـ 270).
[2] انظر: المعارف لابن قتيبة (340) [دار الكتب العلمية، ط1، 1407هـ]، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي (59) [مكتبة الكليات الأزهرية، مصر، 1398هـ]، والحركات الباطنية في العالم الإسلامي لمحمد أحمد الخطيب (303) [عالم الكتب، الرياض، ط2، 1406هـ].
[3] انظر: أصول الكافي للكليني (1/176، 271، 240) [دار الكتب الإسلامية، طهران، ط3، 1388هـ]، وبحار الأنوار للمجلسي (17/155، 26/44، 68، 73، 54/237) [دار إحياء التراث، ط3، 1403هـ]، وبصائر الدرجات الكبرى لمحمد الصفار (43، 93) [طبعة النجف، 1370هـ]، والشفا للقاضي عياض (2/1070). ولمزيد من التفصيل راجع: أصول مذهب الشيعة للقفاري (1/310، 2/586، 612، 623)، وعقيدة ختم النبوة للغامدي (143).
[4] انظر: بصائر الدرجات الكبرى (5/247) [طبعة إيران، 1285هـ]، والفصول المهمة في أصول الأئمة للحر العاملي (151) [مكتبة بصيرتي، قم]، وعيون أخبار الرضا لابن بابويه القمي (1/262) [طبعة إيران، 1318هـ]، والحكومة الإسلامية للخميني (52) [الحركة الإسلامية بإيران، ومطبعة الخليج بالكويت]. وانظر: أصول مذهب الشيعة للقفاري (2/613).
[5] راجع: الشفا للقاضي عياض (2/1078)، ورسالة في الرد على الرافضة لمحمد بن عبد الوهاب (29) [تحقيق: ناصر بن سعد الرشيد، مطابع الصفا، مكة، 1402هـ].
[6] انظر: فصوص الحكم لابن عربي (48، 62، 63) [دار الكتاب العربي]، والشفا للقاضي عياض (2/1070). ولمزيد من التفصيل راجع: عقيدة ختم النبوة للغامدي (156).
[7] انظر: الرسالة القشيرية (161) [دار الكتب الحديث، مصر]، والفتوحات المكية لابن عربي (3/180) [الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1972م]، والجواهر والدرر للشعراني (175، 260) [المطبعة الأزهرية، 1306هـ]، ودرر الغواص له (81) [المطبعة الأزهرية، 1306هـ]، والطبقات الكبرى له (2/122، 125، 130) [دار الفكر، بيروت]، وجواهر المعاني لعلي حرازم برادة (1/246) [طبعة مصطفى البابي الحلبي، 1963م].
[8] انظر للتفصيل: تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي لمحمد أحمد لوح (1/79) [دار ابن القيم ودار ابن عفان، ط1، 1422هـ]، ومباحث المفاضلة في العقيدة لمحمد الشظيفي (189) [دار ابن عفان، القاهرة، ط1، 1423هـ].
[9] انظر: جامع الأصول في الأولياء للكمشخاوي (5) [المطبعة الوهيبية، طرابلس، 1398هـ]، والفتوحات الإلهية لابن عجيبة (264) [عالم الفكر، القاهرة، 1983م].
[10] انظر تفصيل هذه المؤامرات والرد العلمي عليها في كتاب: الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان، لبكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله.
1 ـ «المحرر الوجيز» (ج7)، لابن عطية.
2 ـ «الشفا» (ج2)، للقاضي عياض.
3 ـ «مجموع الفتاوى» (ج2، 4، 12، 27، 28، 34)، لابن تيمية.
4 ـ «الجواب الصحيح» (ج5)، لابن تيمية.
5 ـ «الفتاوى الكبرى» (ج3)، لابن تيمية.
6 ـ «إعلام الموقعين» (ج4)، لابن القيِّم.
7 ـ «تفسير ابن كثير» (ج1، 2، 3، 6).
8 ـ «شرح العقيدة الطحاوية» (ج1)، لابن أبي العز.
9 ـ «الخصائص الكبرى»، للسيوطي.
10 ـ «المواهب اللدنية» (ج2)، للقسطلاني.
11 ـ «لوامع الأنوار البهية» (ج2)، للسفاريني.
12 ـ «روح المعاني» (ج22)، للألوسي.
13 ـ «معارج القبول» (ج3)، لحافظ الحكمي.
14 ـ «التحرير والتنوير» (ج22)، للطاهر بن عاشور.
15 ـ «عقيدة ختم النبوة»، لأحمد الغامدي.
16 ـ «الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد» (ج2)، للفوزان.
17 ـ «الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان»، لبكر أبو زيد.