يجب الإيمان بهذه الصفة لله عزّ وجل وإثباتها له تعالى على الوجه الذي يليق بجلاله وعظمته سبحانه، على سبيل المقابلة، من غير إطلاق كما ورد في القرآن الكريم.
يقول ابن القيِّم رحمه الله في معرض ردِّه على دعواهم أنها مجاز: «والحق خلاف هذا الظن وأنها منقسمة إلى محمود ومذموم، فما كان منها متضمنًا للكذب والظلم فهو مذموم، وما كان منها بحق وعدل ومجازاة على القبيح فهو حسن محمود، فإن المخادع إذا خدع بباطل وظلم حسن من المجازي له أن يخدعه بحق وعدل»[1].
[1] مختصر الصواعق (2/740) [أضواء السلف، ط1].
خدع الله للمخادعين هو أن يظهر لهم من النعم والأمن في الدنيا ثم يفسدها عليهم في الآخرة بما أعده لهم من العذاب الأليم، وهو من صفاته الفعلية الصادرة منه سبحانه وتعالى، وهي تضاف إليه مقيدة من دون إطلاق فتقول: «إن الله تعالى يخدع المنافقين، أو خادع المنافقين، أو خادع من يخادعه؛ لأنها في هذه الحال تكون صفة كمال، ولا يجوز أن تصفه بها على سبيل الإطلاق؛ لأنها تحتمل معنى صحيحًا ومعنى فاسدًا»[1].
وقيل: خديعة الله للمنافقين استدراجهم من حيث لا يعلمون، وإيهامهم بأن ما هم عليه خير لهم، في حين أنها في الحقيقة شر لهم وطريق لهم إلى جهنم وبئس المصير.
[1] شرح العقيدة السفارينية لابن عثيمين (160).
قال ابن جرير رحمه الله: «فالمنافقون لم يخدعوا غير أنفسهم؛ لأن ما كان لهم من مال وأهل، فلم يكن المسلمون ملكوه عليهم ـ في حال خداعهم إياهم عنه بنفاقهم ولا قبلها ـ فيستنقذوه بخداعهم منهم، وإنما دافعوا عنه بكذبهم وإظهارهم بألسنتهم غير الذي في ضمائرهم، ويحكم الله لهم في أموالهم وأنفسهم وذراريهم في ظاهر أمورهم بحكم ما انتسبوا إليه من الملة، والله بما يخفون من أمورهم عالم. وإنما الخادع من ختل غيره عن شيئه، والمخدوع غير عالم بموضع خديعة خادعه. فأما والمخادع عارف بخداع صاحبه إياه غير لاحقه من خداعه إياه مكروه؛ بل إنما يتجافى للظان به أنه له مخادع، استدراجًا، ليبلغ غاية يتكامل له عليه الحجة للعقوبة التي هو بها موقع عند بلوغه إياها، والمستدرج غير عالم بحال نفسه عند مستدرجه، ولا عارف باطلاعه على ضميره، وأن إمهال مستدرجه إياه، تركه معاقبته على جرمه ليبلغ المخاتل المخادع من استحقاقه عقوبة مستدرجه بكثرة إساءته، وطول عصيانه إياه، وكثرة صفح المستدرج، وطول عفوه عنه أقصى غاية؛ فإنما هو خادع نفسه لا شك، دون من حدثته نفسه أنه له مخادع. ولذلك نفى الله جلَّ ثناؤه عن المنافق أن يكون خدع غير نفسه، إذ كانت الصفة التي وصفنا صفته»[1].
وقال ابن كثير: «لأن المكر والخداع والسخرية على وجه اللعب والعبث منتف عن الله عزّ وجل بالإجماع، وأما على وجه الانتقام والمقابلة بالعدل والمجازاة فلا يمتنع ذلك»[2].
قال ابن القيِّم: «إن الله تعالى لم يصف نفسه بالكيد والمكر والخداع والاستهزاء مطلقًا، ولا ذلك داخل في أسمائه الحسنى فإن هذه الأفعال ليست ممدوحة مطلقًا، بل تمدح في موضع وتذم في موضع. والمقصود: أن الله سبحانه لم يصف نفسه بالكيد والمكر والخداع إلا على وجه الجزاء لمن فعل ذلك بغير حق، وقد علم أن المجازاة على ذلك حسنة من المخلوق، فكيف من الخالق سبحانه»[3].
وأجاب ابن عثيمين عن سؤال: هل يوصف الله بالخيانة والخداع؟ فقال: «أما الخيانة؛ فلا يوصف الله بها أبدًا؛ لأنها ذمّ بكل حال؛ إذ إنها مكر في موضع الإئتمان، وهو مذموم؛ قال الله تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} [الأنفال: 71] ، ولم يقل: فخانهم. وأما الخداع؛ فهو كالمكر، يوصف الله تعالى به حين يكون مدحًا، ولا يوصف به على سبيل الإطلاق؛ قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] »[4].
[1] جامع البيان (1/276 ـ 277).
[2] تفسير القرآن العظيم (1/184).
[3] مختصر الصواعق (1/307).
[4] مجموع فتاوى ابن عثيمين (1/171).
ـ هل من أسماء الله المخادع؟
إن الأفعال التي تخبر عن الله عزّ وجل مقيدة لا يلزم أن يشتق له منها اسم مطلق، فلا يقال أن من أسمائه الحسنى: المضل، والفاتن، والماكر، تعالى الله وتقدس فإن هذه الأسماء لم يطلق عليه سبحانه منها إلا أفعال مخصوصة معينة[1].
[1] بدائع الفوائد لابن القيم (1/162) [دار الكتاب العربي].
مخادعة الله للمنافقين صفة من الصفات الفعلية الاختيارية الصادرة منه سبحانه وتعالى أنكرها منكرو الصفات بالكلية من الفلاسفة والجهمية والمعتزلة المعطلة. كما أنكرها الأشاعرة ومن وافقهم فأوَّلوا نصوصها وصرفوا معناها عن الحقيقة إلى المجاز، أو دعوى أنها على سبيل المشاكلة اللفظية فقط[1]، وقيل: معناها أن الله تعالى يعاملهم معاملة المخادع[2].
وقيل: إنها على الجواب؛ كقول الرجل لمن كان يخدعه إذا ظفر به: أنا الذي خدعتك، ولم تكن منه خديعة، ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه[3].
[1] انظر مثلاً: تأويلات أهل السُّنَّة للماتريدي (1/386 ـ 387) و(3/394 ـ 395) و(5/102)، تفسير الرازي (1/308) و(4/73) و(31/130)، وتفسير ابن عطية (2/127)، وتفسير البحر المحيط (3/392)، والتحرير والتنوير (3/159 ـ 160) و(5/239).
[2] انظر: جامع البيان للإيجي (1/422).
[3] انظر: جامع البيان للطبري (1/301).
1ـ قرَّر أهل العلم أن صفات الله تعالى لا يدخلها المجاز، وأن الله سبحانه وتعالى خاطب العرب بما تعهد من كلامها، فوجب حملها على حقيقتها المعهودة عندهم.
2 ـ أنها إذا كانت على وجه الظلم والعدوان كانت مذمومة، وأما إذا كانت على وجه الحق فهي عدل بمن يستحق ذلك، فكيف بصدورها من الله تعالى على سبيل الجزاء بمن يستحقها[1].
3 ـ أما قولهم: إنه سبحانه وتعالى يعاملهم معاملة المخادع، فهذا لا يتصور أن يعاملهم هذا المعاملة من غير أن تقوم به هذه الصفة.
4 ـ وأما قولهم: إنما هي على وجه الجواب، فهم نافون على الله عزّ وجل ما قد أثبته الله عزّ وجل لنفسه، وأوجبه لها. وهذا نظير ما أخبر به أنه خسف من خسف به من الأمم، وأغرق من أخبر أنه أغرقه منهم. فصدقنا الله تعالى ذكره فيما أخبرنا به من ذلك، ولم نفرق بين شيء منه. فما برهانكم على تفريقكم ما فرقتم بينه، بزعمكم: أنه قد أغرق وخسف بمن أخبر أنه أغرق وخسف به، ولم يخادع من أخبر أنه قد خدعه؟[2].
[1] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (7/111).
[2] جامع البيان للطبري (1/304).
1 ـ «إعلام الموقعين»، لابن القيِّم.
2 ـ «تأويلات أهل السُّنَّة»، لأبي منصور الماتريدي.
3 ـ «تفسير القرآن العظيم»، لابن كثير الدمشقي.
4 ـ «جامع البيان»، لابن جرير الطبري.
5 ـ «شرح أسماء الله الحسنى»، لسعيد القحطاني.
6 ـ «شرح العقيدة السفارينية»، لابن عثيمين.
7 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.
8 ـ «مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ ابن عثيمين».
9 ـ «مختصر الصواعق»، للموصلي.
10 ـ «مفاتيح الغيب»، للرازي.