حرف الخاء / خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها

           

خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشية الأسدية زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأمها فاطمة بنت زائدة قرشية من بني عامر بن لؤي[1].


[1] الطبقات الكبرى لابن سعد (8/14) [دار صادر]، والإصابة في تمييز الصحابة (7/600) [دار الجيل، بيروت، ط1، 1412هـ].


ذكر ابن سعد أن أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ولدت قبل الفيل بخمس عشرة سنة[1]، وتوفيت قبيل الهجرة بثلاث سنين، وهو نفس العام الذي توفي فيه أبو طالب[2].


[1] انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (8/15).
[2] انظر: سيرة ابن إسحاق (243، و254) [دار الفكر، بيروت، ط1]، ودلائل النبوة للبيهقي (2/352 ـ 353) [دار الكتب العلمية، ودار الريان للتراث، ط1]، والبداية والنهاية (4/315 ـ 316) [دار هجر، ط1، 1418هـ]، والسيرة النبوية الصحيحة لأكرم ضياء العمري (1/185) [مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط6، 1415هـ].


كانت خديجة بنت خويلد رضي الله عنها تدعى قبل البعثة بالطاهرة، ولما جاء الإسلام كانت أول من صدقت ببعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم مطلقًا واتبعته[1].
قال ابن إسحاق: «كانت خديجة أول من آمن بالله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم وصدق ما جاء به»[2].
وقال ابن الصلاح بعد أن أشار إلى اختلاف أهل العلم فيمن أول الناس إسلامًا: «والأورع أن يقال: أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر، ومن الصبيان أو الأحداث علي، ومن النساء خديجة، ومن الموالي زيد بن حارثة، ومن العبيد بلال، والله أعلم»[3].


[1] انظر: سيرة ابن إسحاق (139)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (3/179) [دار الفكر، 1995م]، والإصابة في تمييز الصحابة (7/600)، والبداية والنهاية (4/42)، وصحيح السيرة للألباني (99) [المكتبة الإسلامية، عمّان، ط1، 1421هـ].
[2] سيرة ابن إسحاق (132).
[3] معرفة أنواع علوم الحديث لابن الصلاح (403) [دار الكتب العلمية، ط1، 1423هـ].


ـ أن الله أمر نبيّه صلّى الله عليه وسلّم أن يبشّرها ببيت من قصب في الجنة، لا صخب فيه ولا نصب.
ـ أن الله أرسل جبريل ليقرئها السلام من الله، يدل لهذا وذاك ما رواه البخاري بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أتى جبريل النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله: هذه خديجة قد أتت، معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب»[1].
ـ أنها خير نساء أهل الجنة، لما ثبت من حديث علي رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «خير نسائها مريم، وخير نسائها خديجة»[2].
ـ ثناء النبي صلّى الله عليه وسلّم عليها بخير باستمرار، فقد روى البخاري بإسناده عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما غرت على امرأة للنبي صلّى الله عليه وسلّم ما غرت على خديجة، هلكت قبل أن يتزوجني لما كنت أسمعه يذكرها، وأمره الله أن يبشرها ببيت من قصب، وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في خلائلها منها ما يسعهن»[3].
ـ أنها من النساء الكمّل، فعن قرة بن إياس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا ثلاث؛ مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»[4].


[1] أخرجه البخاري (كتاب مناقب الأنصار، رقم 3820)، ومسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2432).
[2] أخرجه البخاري (كتاب مناقب الأنصار، رقم 3815)، ومسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2430).
[3] أخرجه البخاري (كتاب مناقب الأنصار، رقم 3816).
[4] ساقه ابن كثير في البداية والنهاية (4/323) [دار هجر، ط1] بقوله: «وروى شعبة، عن معاوية بن قرة، عن أبيه قرة بن إياس رضي الله عنه قال: قال...»، ثم قال: «رواه ابن مردويه في تفسيره. وهذا إسناد صحيح إلى شعبة، وبعده». وهذا الحديث أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3411، 3433)، و(كتاب الأطعمة، رقم 5418)، ومسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2431)، من طرق عن آدم بن أبي إياس، وعن شعبة، بغير ذكر خديجة رضي الله عنها. والمثنى بن إبراهيم ـ شيخ الطبري ـ لم نظفر له بترجمة، وقد خالف الثقات من أصحاب آدم وشعبة في لفظ الحديث، فالظاهر أن ذكر خديجة في حديث أبي موسى غير محفوظ. والله أعلم.


لها مكانة عظمى ودرجة سامية، فقد كانت قبل الإسلام معروفة بالطاهرة العفيفة، وأما في الإسلام فيكفي لبيان عظم مكانتها التذكير بأنها كانت «وزيرة صدق على الإسلام، كان يسكن إليها»[1]، وأنها أم المؤمنين، وزوجة سيد المرسلين، لم يتزوج عليها النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى ماتت، وكان يكثر من ذكرها بخير طيلة حياته صلّى الله عليه وسلّم، ويكرم صديقاتها، وأنها أم أولاده أجمعين، حاشا إبراهيم[2] فإنه من مارية القبطية[3]. فقد روى مسلم بسنده عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؛ أنها قالت: «لم يتزوج النبي صلّى الله عليه وسلّم على خديجة حتى ماتت»[4].
وروى الإمام مسلم أيضًا بسنده عن عائشة رضي الله عنها؛ أنها قالت: «ما غرت على نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا على خديجة وإني لم أدركها». قالت: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا ذبح الشاة فيقول: «أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة» ، قالت: فأغضبته يومًا فقلت: خديجة؟» فقال: «إني رزقت حبها»[5].
وحق لخديجة أن تحظى بهذه المكانة العلية من خير البرية محمد صلّى الله عليه وسلّم؛ فهي «خدمت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قبل البعثة خمسة عشر سنة، وبعدها أزيد من عشر سنين، وكانت له وزير صدق بنفسها ومالها، رضي الله عنها وأرضاها»[6].


[1] سيرة ابن إسحاق (243).
[2] انظر: سيرة ابن إسحاق (243 ـ 245، و254)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (3/130)، والبداية والنهاية لابن كثير (3/463)، والسيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية لمهدي رزق الله أحمد (136).
[3] انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (3/126)، والبداية والنهاية (4/321)، وفتح الباري لابن حجر (1/331) [دار المعرفة].
[4] أخرجه مسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2437).
[5] أخرجه مسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2435).
[6] البداية والنهاية (2/431)، وانظر: سيرة ابن إسحاق (243).


المسألة الأولى: اشتغال النبي صلّى الله عليه وسلّم في تجارة خديجة ثم زواجه منها:
كانت خديجة بنت خويلد امرأة عاقلة لبيبة، وكانت ثيبًا قبل زواجها من النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ حيث تزوجها أولاً أبو هالة هند بن النباش بن زرارة، ثم عتيق بن عائذ المخزومي، على الأصح كما يقول ابن عبد البر[1].
وذكر ابن إسحاق أن أول من تزوج خديجة ـ وهي بكر ـ هو عتيق بن عائذ المخزومي، فولدت له بنتًا ومات، ثم تزوجها بعده أبو هالة هند بن النباش بن زرارة فأنجب منها ولدًا وبنتًا ثم هلك[2]، زاد ابن سعد: وتزوجت بعده صيفي بن أمية بن عابد[3].
وكانت خديجة رضي الله عنها تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال على مالها مضاربة، فلما وصلها أوصاف النبي صلّى الله عليه وسلّم من صدق حديثه وعظم أمانته وكريم أخلاقه، بعثت إليه وعرضت عليه أن يعمل في تجارتها، ويخرج لها إلى الشام تاجرًا مع غلام لها يقال له: ميسرة، مقابل أن تعطيه أفضل ما كانت تعطيه من التجار غيره، فوافق النبي صلّى الله عليه وسلّم على ذلك، وبدأ يعمل في تجارتها، هنا وهناك فذهب هو والغلام إلى الشام، ولما قدم بمالها إلى مكة، باعت خديجة ما جاء به فأضعفت أو قريبًا، وحدَّثها غلامها بما رآه في النبي صلّى الله عليه وسلّم من الآيات والمعجزات، فرغبت في الزواج منه، وعرضت عليه نفسها، وكانت يومئذ أوسط نساء قريش نسبًا، وأعظمهن شرفًا، وأكثرهن مالاً، كل قومها كان حريصًا على ذلك منها لو يقدر عليه[4]. فقبل النبي صلّى الله عليه وسلّم وأخبر أعمامه بذلك، فانطلق معه عمه حمزة، حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه، فتزوجها صلّى الله عليه وسلّم وكان عمره خمسة وعشرين سنة[5]، وهو قول الجمهور[6]، وأما عمرها فقد اختلف فيه، فقيل: كان خمسًا وثلاثين سنة، وقيل: خمسًا وعشرين[7] وقيل: ثمانية وعشرين، وقيل: أربعين، وقيل غير ذلك، وفي كيفية زواجه منها روايات ضعيفة تذكر تفاصيل ذلك؛ بل معظمها واهٍ[8].
المسألة الثانية: دور خديجة العظيم في نصرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم أول الإسلام وأثر ذلك:
خديجة بنت خويلد رضي الله عنها زوج النبي الكريم صلّى الله عليه وسلّم كانت خير معين له ـ بعد الله تعالى ـ في دعوته، حيث آزرته من أول يوم من مبعثه، حتى كان لها الأثر الطيب والمردود الحسن في تهدئة النبي صلّى الله عليه وسلّم ورفع معنوياته، فقد روى البخاري بسنده عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: «أول ما بدئ به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ *اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكَرَمُ *} [العلق] ، فرجع بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة، وكان امرأً قد تنصَّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعًا ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أومخرجيَّ هم؟» قال: نعم؟ لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزّرًا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي»[9].
قال النووي: «قال العلماء: معنى كلام خديجة رضي الله عنها: إنك لا يصيبك مكروه؛ لما جعل الله فيك من مكارم الأخلاق، وكرم الشمائل، وذكرت ضروبًا من ذلك، وفي هذا دلالة على أن مكارم الأخلاق وخصال الخير سبب السلامة من مصارع السوء، وفيه: مدح الإنسان في وجهه في بعض الأحوال؛ نظرًا لمصلحة، وفيه تأنيس من حصلت له مخافة من أمر وتبشيره، وذكر أسباب السلامة له، وفيه أعظم دليل وأبلغ حجة على كمال خديجة رضي الله عنها وجزالة رأيها وقوة نفسها وثبات قلبها وعظم فقهها»[10].
المسألة الثالثة: في المفاضلة بين خديجة وعائشة رضي الله عنهما:
اختلف أهل العلم في أيتهما أفضل، إلى ثلاثة أقوال:
القول الأول: تفضيل عائشة على خديجة، واحتجوا ببعض الأحاديث؛ كحديث أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»[11].
وحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فعرف استئذان خديجة فارتاع لذلك، فقال: اللَّهُمَّ هالة، قالت: فغرت، فقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر، قد أبدلك الله خيرًا منها»[12]. ووجه استدلالهم بهذا هو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أقرَّها في قولها: إن الله أبدله خيرًا منها. قال ابن التين: «في سكوت النبي صلّى الله عليه وسلّم على هذه المقالة دليل على أفضلية عائشة على خديجة، إلا أن يكون المراد بالخيرية هنا حسن الصورة وصغر السن»[13].
وكذلك «كانت أحب أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه، ولم يتزوج بكرًا غيرها، ولا يعرف في سائر النساء في هذه الأمة؛ بل ولا في غيرها، أعلم منها ولا أفهم، وقد غار الله لها حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فأنزل براءتها من فوق سبع سماوات، وقد عمرت بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قريبًا من خمسين سنة، تبلغ عنه القرآن والسُّنَّة، وتفتي المسلمين وتصلح بين المختلفين، وهي أشرف أمهات المؤمنين، حتى خديجة بنت خويلد أم البنات والبنين، في قول طائفة من العلماء السابقين واللاحقين»[14].
القول الثاني: تفضيل خديجة على عائشة رضي الله عنهما، ومما احتجوا به لذلك: حديث علي رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «خير نسائها مريم، وخير نسائها خديجة»[15].
قال الحافظ ابن حجر في هذا الحديث: «وجاء ما يفسر المراد صريحًا، فروى البزار والطبراني من حديث عمار بن ياسر رفعه: «لقد فضلت خديجة على نساء أمتي، كما فضلت مريم على نساء العالمين» [16]، وهو من حديث حسن الإسناد، واستدل بهذا الحديث على أن خديجة أفضل من عائشة»[17].
وكذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أفضل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون» [18]. قال الحافظ ابن حجر فيه: «وهذا نص صريح لا يحتمل التأويل»[19].
وأجابوا عن قول من قال: بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أقر عائشة في قولها: إن الله أبدله خيرًا من خديجة، بأن الحديث جاء صحيحًا في خارج الصحيح، وفيه التصريح بعدم إقراره إياها على قولها، فقد روى الإمام أحمد بسنده عن عائشة قالت: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا ذكر خديجة أثنى عليها فأحسن الثناء، قالت: فغرت يومًا فقلت: ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدق قد أبدلك الله عزّ وجل بها خيرًا منها، قال: ما أبدلني الله عزّ وجل خيرًا منها، قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله عزّ وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء»[20].
قال الحافظ ابن حجر في رده على كلام ابن التين: «ولا يلزم من كونه لم ينقل في هذه الطريق أنه صلّى الله عليه وسلّم ردَّ عليها عدم ذلك؛ بل الواقع أنه صدر منه ردَّ لهذه المقالة، ففي رواية أبي نجيح عن عائشة عند أحمد والطبراني في هذه القصة، قالت عائشة: فقلت: أبدلك الله بكبيرة السن حديثة السن، فغضب حتى قلت: والذي بعثك بالحق لا أذكرها بعد هذا إلا بخير، وهذا يؤيد ما تأوله ابن التين في الخيرية المذكورة والحديث يفسر بعضه بعضًا»[21].
ولذا؛ لمّا احتج الإمام ابن كثير على تفضيل عائشة على خديجة بذاك الإقرار استدرك وذكر الروايات التي صرحت بردِّ النبي صلّى الله عليه وسلّم على عائشة، وساق بعضها، منها الحديث السابق عن عائشة، ومنها حديث عائشة أيضًا أنها قالت: «ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومًا خديجة فأطنب في الثناء عليها، فأدركني ما يدرك النساء من الغيرة، فقلت: لقد أعقبك الله يا رسول الله من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين. قالت: فتغير وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تغيرًا لم أره تغير عند شيء قط، إلا عند نزول الوحي، أو عند المخيلة حتى يعلم، رحمة أو عذاب»[22].
القول الثالث: التوقف عن المفاضلة بينهما؛ لأن لكلٍّ منهما مزايا وفضائل ليست للأخرى، وأن كل واحدة منهما أفضل من الأخرى في بعض الجوانب.
قال ابن كثير: «وأما أهل السُّنَّة؛ فمنهم من يغلو أيضًا، ويثبت لكل واحدة منهما من الفضائل ما هو معروف، ولكن تحملهم قوة التسنن على تفضيل عائشة؛ لكونها ابنة الصديق، ولكونها أعلم من خديجة، فإنه لم يكن في الأمم مثل عائشة في حفظها وعلمها وفصاحتها وعقلها، ولم يكن الرسول صلّى الله عليه وسلّم يحب أحدًا من نسائه كمحبته إياها، ونزلت براءتها من فوق سبع سماوات، وروت بعده عنه عليه السلام علمًا جمًّا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، حتى قد ذكر كثير من الناس الحديث المشهور: «خذوا شطر دينكم عن الحميراء» [23]. والحق أن كلًّا منهما لها من الفضائل ما لو نظر الناظر فيه لبهره وحيره، والأحسن التوقف في ذلك، ورد علم ذلك إلى الله عزّ وجل، ومن ظهر له دليل يقطع به، أو يغلب على ظنه في هذا الباب، فذاك الذي يجب عليه أن يقول بما عنده من العلم، ومن حصل له توقف في هذه المسألة، أو في غيرها، فالطريق الأقوم والمسلك الأسلم أن يقول: الله أعلم»[24].
وممن أيَّد هذا القول العلامة ابن عثيمين، حيث عرض الخلاف في المسألة ثم رجح هذا بقوله: «والعلماء اختلفوا في هذه المسألة؛ فقال بعض العلماء: خديجة أفضل؛ لأن لها مزايا لم تلحقها عائشة فيها. وقال بعض العلماء: بل عائشة أفضل، لهذا الحديث[25]، ولأن لها مزايا لم تلحقها خديجة فيها. وفصل بعض أهل العلم، فقال: إن لكلٍّ منهما مزية لم تلحقها الأخرى فيها، ففي أول الرسالة لا شك أن المزايا التي حصلت عليها خديجة لم تلحقها فيها عائشة، ولا يمكن أن تساويها، وبعد ذلك، وبعد موت الرسول صلّى الله عليه وسلّم حصل من عائشة من نشر العلم ونشر السُّنَّة وهداية الأمة ما لم يحصل لخديجة، فلا يصح أن تفضل إحداهما على الأخرى تفضيلاً مطلقًا؛ بل نقول: هذه أفضل من وجه، وهذه أفضل من وجه، ونكون قد سلكنا مسلك العدل، فلم نهدر ما لهذه من المزية، ولا ما لهذه من المزية، وعند التفصيل يحصل التحصيل. وهما وبقية أزواج الرسول في الجنة معًا»[26].


[1] انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب (4/1817) [دار الجيل، بيروت، ط1، 1412هـ].
[2] انظر: سيرة ابن إسحاق (245)، والطبقات الكبرى لابن سعد (8/14 ـ 15)، وتاريخ دمشق (3/179).
[3] الطبقات الكبرى لابن سعد (8/15).
[4] انظر: سيرة ابن هشام (1/188 ـ 189) [مطبعة مصطفى البابي الحلبي، ط2، 1375هـ]، والبداية والنهاية لابن كثير (3/462 ـ 463)، والسيرة النبوية الصحيحة لكرم ضياء العمري (1/112 ـ 113).
[5] انظر: دلائل النبوة للبيهقي (2/72)، والبداية والنهاية (3/463 ـ 466).
[6] انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية (134).
[7] انظر: البداية والنهاية (3/466).
[8] حسبما ذكر العمري في السيرة النبوية (1/112).
[9] أخرجه البخاري (باب بدء الوحي، رقم 3)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 160).
[10] شرح النووي على مسلم (2/202) [دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط2، 1392هـ].
[11] أخرجه البخاري (كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، رقم 3769)، ومسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2431).
[12] أخرجه البخاري (كتاب مناقب الأنصار، رقم 3821) معلَّقًا مجزومًا، ومسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2437).
[13] فتح الباري لابن حجر (7/140).
[14] البداية والنهاية (2/431 ـ 432).
[15] أخرجه البخاري (كتاب مناقب الأنصار، رقم 3815)، ومسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2430).
[16] أخرجه البزار في مسنده (4/255) [مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط1، 1414هـ]، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/223) [مكتبة القدسي]: «فيه أبو يزيد الحميري، ولم أعرفه، وبقية رجاله وثقوا»، وفي سنده ابن لهيعة أيضًا، وهو ضعيف.
[17] فتح الباري لابن حجر (7/135).
[18] أخرجه أحمد (4/409) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والنسائي في السنن الكبرى (كتاب المناقب، رقم 8297)، وابن حبان (كتاب التاريخ، رقم 7010)، وصحح إسناده الحافظ ابن حجر في فتح الباري (7/135) [دار المعرفة]، والألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 1508).
[19] فتح الباري لابن حجر (7/135).
[20] أخرجه الإمام أحمد (41/356) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وقال ابن كثير في البداية والنهاية (4/320): «تفرد به أحمد أيضًا، وإسناده لا بأس به».
[21] فتح الباري ابن حجر (7/140).
[22] أخرجه أحمد (42/89) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وابن حبان (كتاب التاريخ، رقم 7008)، وقال ابن كثير في البداية والنهاية (4/320) [دار هجر، ط1]: «وهذا إسناد جيد».
[23] وهو حديث موضوع. انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (11/664) [مكتبة المعارف، ط1، 1422هـ].
[24] البداية والنهاية (4/322).
[25] يعني الحديث المتقدم، وهو: «وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام».
[26] مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (8/615) [دار الوطن ودار الثريا، 1413هـ].


1 ـ «البداية والنهاية» (ج4)، لابن كثير.
2 ـ «تاريخ دمشق» (ج3، و4)، لابن عساكر.
3 ـ «دلائل النبوة» (ج2)، للبيهقي.
4 ـ «سيرة ابن إسحاق».
5 ـ «سيرة ابن هشام» (ج1).
6 ـ «السيرة النبوية الصحيحة» (ج1)، لأكرم العمري.
7 ـ «السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية»، لمهدي رزق الله أحمد.
8 ـ «صحيح السيرة»، للألباني.
9 ـ «الطبقات الكبرى» (ج8)، لابن سعد.
10 ـ «مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين» (ج8).