الخشوع في اللغة: مصدر خشع كمنع، يقال: خَشَع يَخْشَعُ خُشوعًا واخْتَشَع وتَخَشَّعَ، ويطلق على الخضوع والسكون والذل، قال الجوهري: «الخُشوعُ: الخضوعُ، يقال: خَشَعَ واخْتَشَعَ»[1].
والخشوع يكون في الصوت؛ كقوله تعالى: {وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَانِ} [طه: 108] ؛ أي: سكنت وذلت وخضعت[2].
كما يكون في البدن والبصر؛ كقوله تعالى: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} [القلم: 43] .
قال ابن القيِّم: «والخشوع في أصل اللغة: الانخفاض والذل والسكون»[3].
[1] الصحاح (3/1204) [دار العلم للملايين، ط3].
[2] انظر: لسان العرب (08/71) [دار الفكر، ط1]، والقاموس المحيط (921) [مؤسسة الرسالة ط2].
[3] مدارج السالكين (1/558) [دار الكتب العلمية، ط1، 1403هـ].
الخشوع في حقيقته: يجمع عدة معان عظيمة، من تعظيم الله تعالى، ومحبته، والذل له، والخشية منه سبحانه، قال ابن القيِّم: «والحقّ أنّ الخشوع معنى يلتئم من التّعظيم والمحبّة والذّلّ والانكسار»[1].
وإذا نظرنا إلى إطلاق لفظ الخشوع في القرآن الكريم، نجد أنه يطلق ـ كما ذكر المفسرون ـ على معان أربعة:
أحدها: إطلاقه بمعنى الذّلّ، ومنه قوله تعالى: {وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَانِ} [طه: 108] .
والثّاني: سكون الجوارح، ومنه قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ *} [المؤمنون] .
والثّالث: بمعنى الخوف، ومنه قوله تعالى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ *} [الأنبياء] .
والرّابع: بمعنى التّواضع، ومنه قوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ *} [البقرة] .
[1] مدارج السالكين (1/558).
الخشوع: من أعلى مقامات الذل والانكسار لله تعالى، وهو من أعمال الإيمان، ويورث القلوب تعظيمًا وإجلالاً ووقارًا ومهابة وحياءً لله عزّ وجل.
وإنما يزيد الإيمان بحياة القلب، وذلك بالاشتغال بالعلم النافع والعمل الصالح، كما أنه ينقص بمرض القلب، وذلك بالانصراف إلى الشبهات والشهوات، فعلى المسلم أن يتعاهد قلبه في جميع أحواله ليدفع عنه القسوة؛ فإنها إذا استبدت به منعته الخشوع. والله عزّ وجل يريد من عباده الترقي في سُلم الإيمان، ودرجات اليقين، ولذا عاتب المؤمنين الذين لم يبلغوا قمة الخشوع؛ فقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ *} [الحديد] ، فدعاهم إلى خشوع القلب لذكره وما نزل من كتابه، ونهاهم أن يكونوا كالذين طال عليهم الأمد فقست قلوبهم، والذين يخشون ربهم، هم الذين إذا ذكر الله تعالى وجلت قلوبهم[1].
[1] انظر: مدارج السالكين (1/516)، والروح (232) [دار الكتب العلمية]، والإيمان لابن تيمية (27 ـ 28) [المكتب الإسلامي، ط5، 1416هـ].
قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ *الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ *} [المؤمنون] ، وقال: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21] ، وقال: {وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَانِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا *} [طه] ، وقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ *} [الحديد] . وغيرها من الآيات.
ومن السُّنَّة المطهرة: حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها، إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة وذلك الدهر كله»[1].
وحديث أبي هريرة؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «هل ترون قبلتي ها هنا، والله ما يخفى علي ركوعكم ولا خشوعكم، وإني لأراكم وراء ظهري»[2].
[1] أخرجه مسلم (كتاب الطهارة، رقم 228).
[2] أخرجه البخاري (كتاب الأذان، رقم 741).
قال ابن تيمية: «فخشوع القلب لذكر الله وما نزل من الحقِّ واجبٌ. وقد ذمَّ الله قسوة القلوب المنافية للخشوع في غير موضع»[1].
ـ وقال ابن القيِّم: «خشوع الإيمان هو خشوع القلب لله بالتعظيم والإجلال والوقار والمهابة والحياء، فينكسر القلب لله كسرة ملتئمة من الوجل والخجل والحب والحياء وشهود نِعَم الله وجناياته هو، فيخشع القلب لا محالة فيتبعه خشوع الجوارح وأما خشوع النفاق فالخاشع لله عبد قد خمدت نيران شهوته وسكن دخانها عن صدره، فانجلى الصدر وأشرق فيه نور العظمة، فماتت شهوات النفس للخوف والوقار الذي حشي به وخمدت الجوارح وتوقر القلب واطمأن إلى الله وذكره بالسكينة التي نزلت عليه من ربه فصار مخبتًا له»[2].
قال ابن رجب: «أصل الخشوع: هوَ خشوع القلب، وهو انكساره لله، وخضوعه وسكونه عن التفاته إلى غير من هوَ بين يديه، فإذا خشع القلب خشعت الجوارح كلها تبعًا لخشوعه؛ ولهذا كانَ النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول في ركوعه: «خشع لك سمعي، وبصري، ومخي، وعظامي»[3]»[4].
[1] مجموع الفتاوى (7/30) [مجمع الملك فهد بن عبد العزيز لطباعة المصحف].
[2] الروح (232).
[3] أخرجه مسلم (كتاب صلاة المسافرين، رقم 771).
[4] فتح الباري لابن رجب (6/367).
درجات الخشوع:
الأولى: التّذلّل للأمر، والاستسلام للحكم، والاتّضاع لنظر الحقّ، أمّا التّذلّل للأمر فهو تلقّيه بذلّة القبول والانقياد والامتثال مع مواطأة الظّاهر الباطن، وإظهار الضّعف، والافتقار للهداية، وأمّا الاستسلام للحكم فيشمل الحكم الشّرعيّ بعدم معارضته برأي أو شهوة، كما يشمل الحكم القدريّ بعدم تلقّيه بالتّسخّط والكراهة والاعتراض، وأمّا الاتّضاع لنظر الحقّ فهو اتّضاع القلب والجوارح، وانكسارها لنظر الرّبّ إليها واطّلاعه على تفاصيل ما فيها.
الثّانية: ترقّب آفات النّفس والعمل، ورؤية فضل كلّ ذي فضل، ويتحقّق ذلك بانتظار ظهور نقائص نفسك وعملك وعيوبها لك، وذلك يجعل القلب خاشعًا ـ لا محالة ـ لمطالعة عيوب نفسه وأعماله ونقائصهما من الكبر والعجب، وضعف الصّدق، وقلّة اليقين، وتشتّت النّيّة.
الثّالثة: تصفية القلب من مراءاة الخلق، وذلك بضبط النّفس بالذّلّ والانكسار عن البسط والإذلال الّذي تقتضيه المكاشفة؛ لأنّها توجب بسطًا يُخاف منه إن لم يصحبه خشوع يحفظ الحرمة، مع إخفاء أحواله عن الخلق جهده[1].
[1] انظر: مدارج السالكين (1/559 ـ 561).
المسألة الأولى: الخشوع لغير الله تعالى:
هو الخشوع الممنوع: وهو ما كان مخالفًا لأمر الله؛ كالخشوع والخوف الذي يكون عند قبور الأولياء ونحوهم، أو عند قراءة القصائد والأوراد البدعية ونحو ذلك.
قال ابن تيمية: «فإذا أتى إلى قبر من يعظمه، ورجا أن يدعوه، أو يدعو به، أو يدعو عنده، فيحصل له من الخشوع والدموع ما لا يحصل في عبادة الله ودعائه في بيت الله، أو في بيت الداعي العابد، وتجد أحدهم يغضب إذا ذكر ما اتخذه ندًّا بعيب أو نقص، ويذكر الله بالعيوب والنقوص فلا يغضب له، ومثل هذا كثير في المشركين شركًا محضًا، وفي من فيه شعبة من الشرك»[1].
وقال أيضًا: «ومثل هذا أنه إذا سمع أحدهم الأبيات يحصل له من الخضوع والخشوع والبكاء ما لا يحصل له مثله عند سماع آيات الله تعالى؛ فيخشع عند سماع المبتدعين المشركين، ولا يخشع عند سماع المخلصين المتقين؛ بل إذا سمعوا آيات الله تعالى اشتغلوا عنها وكرهوها، واستهزؤوا بها وبمن يقرؤها»[2].
المسألة الثانية: بعض الصور المحرمة للخشوع:
1 ـ الخشوع الذي يكون عند قبور الأولياء وأضرحتهم، ونحو ذلك.
2 ـ الخشوع الذي يكون عند قراءة القصائد والأوراد البدعية، ونحو ذلك.
3 ـ خشوع النفاق: وهو أن ترى الجسد خاشعًا والقلب خاليًا لاهيًا.
4 ـ خشوع الرياء والسمعة.
المسألة الثالثة: الأسباب الجالبة للخشوع:
1 ـ معرفة الله تعالى وخشيته.
2 ـ العلم واليقين بلا إله إلا الله.
3 ـ الذل والانكسار لله تعالى.
4 ـ استحضار عظمة الله تعالى.
5 ـ مطالعة عيوب النفس والأعمال.
6 ـ تعويد النفس مراقبة الله في جميع الأحوال.
المسألة الرابعة: الخضوع:
وهو الذل والانكسار بين يدي الله عزّ وجل، محبة له سبحانه واستسلامًا لأوامره[3].
ويمكن تقسيم الخضوع إلى نوعين:
1 ـ خضوع مشروع:
والخضوع المشروع: هو خضوع العبد المخلوق لخالقه ومولاه سبحانه وتعالى، وهو واجب على كل مكلف[4].
2 ـ خضوع ممنوع:
الخضوع الممنوع: هو الخضوع لسماع أمر محرم؛ كالخضوع لسماع الأوراد المبتدعة، أو الأبيات الشركية، ونحو ذلك مما لم يأذن به الشرع[5].
[1] منهاج السُّنَّة (2/396) [مكتبة ابن تيمية، ط2، 1409هـ].
[2] الرد على البكري (2/584) [دار الوطن ط1، 1417هـ].
[3] انظر: الفروق اللغوية للعسكري (248) [دار العلم والثقافة، مصر]، ومدارج السالكين (461 ـ 463) [دار الكتب العلمية، ط1، 1403هـ].
[4] انظر: مجموع الفتاوى (23/152).
[5] انظر: الرد على البكري (2/584) [دار الوطن، الرياض، ط1، 1417هـ].
الفرق بين الخشوع والخضوع:
اختلف العلماء في الفرق بين الخشوع والخضوع على قولين:
أ ـ أن الخشوع والخضوع بمعنى واحد، فهما مترادفان لا فرق بينهما عند الإطلاق، وقد قال بذلك بعض أئمة اللغة كما تقدم.
ب ـ وقيل: بل بينهما بعض الفروق، وهي كما يلي:
1 ـ أن الخشوع يكون في القلب، وقد يظهر على الصوت والبصر، والخضوع لا يكون في القلب وإنما يكون في البدن، قال ابن القيِّم: «أجمع العارفون على أن الخشوع محله القلب»[1].
2 ـ أن الخشوع لا يكون إلا مع خوف المخشوع ولا يقع تكلفًا، بخلاف الخضوع فقد لا يكون معه خوف[2].
[1] مدارج السالكين (1/558).
[2] انظر: الفروق اللغوية (1/216)، والقاموس المحيط (921).
1 ـ أنه يورث الخوف والرّهبة من الله تعالى.
2 ـ يربط المسلم بعبوديّة الله وترك ما سواه.
3 ـ الخشوع يؤدّي إلى غضّ البصر وخفض الجناح.
4 ـ الخشوع يذيب قسوة القلب.
5 ـ الخشوع في الصّلاة يؤدّي إلى الفلاح.
6 ـ أنه يطرد الشيطان فلا يقربه.
7 ـ أنه سبب لتكفير الذّنوب وتعظيم الأجر.
8 ـ أنه سبب أيضًا للفوز بالجنّة، والنجاة من النار.
1 ـ «إصلاح القلوب»، لعبد الهادي حسين وهبي.
2 ـ «أعمال القلوب حقيقتها وأحكامها عند أهل السُّنَّة والجماعة ومخالفيهم»، لسهل العتيبي.
3 ـ «الرد على البكري»، لابن تيمية.
4 ـ «الروح»، لابن القيِّم.
5 ـ «عبودية القلب لربِّ العالمين في القرآن الكريم»، لعبد الرحمن البرادعي.
6 ـ «فتح الباري»، لابن رجب.
7 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.
8 ـ «المجموع شرح المهذب»، للنووي.
9 ـ «مدارج السالكين»، لابن القيِّم.
10 ـ «منهاج السُّنَّة»، لابن تيمية.