حرف الألف / الاستثناء في الإيمان

           

الاستثناء في اللغة: بمعنى المنع والصرف، وأصل الاستثناء مأخوذ من الثني، وهو ردُّ الشيء بعضه على بعض. والثني العطف، وكل شيء عطفته فقد ثنيته؛ كما يطلق الثني على تكرير الشّيء مرّتين، أو جعلُه شيئين متوالييَن أو متباينين، ومن ذلك عدد الاثنين. والاستثناء يشمل أمرين:
1 ـ الاستثناء الوضعي، وهو الذي يكون بأداة الاستثناء، كقوله تعالى: {إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر]
2 ـ الاستثناء العرفي، وهو ما لم يكن بأداة الاستثناء، بل يكون الموجود كلمة الشرط، كما جاء في قوله تعالى: {...إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلاَ يَسْتَثْنُونَ *} [القلم] ؛ أي: لا يقولون: إن شاء الله[1]. ومنه قول القائل: لأفعلن كذا إن شاء الله، أو: أنا مؤمن إن شاء الله[2].


[1] انظر: تفسير البغوي (8/195) [دار طيبة، ط1، 1417هـ].
[2] انظر: مقاييس اللغة (1/391) [دار الجيل، ط2]، ولسان العرب (14/115 ـ 125) [دار صادر، ط1]، والكليات للكفوي (91)، وبدائع الصنائع للكاساني (3/153 ـ 154) [دار الكتاب العربي، ط2].


الاستثناء في الإيمان هو أن يُعَلِّق الشخص إيمانه على ما لا يدل على الجزم والقطع بكمال الإيمان؛ كأن يعلقه على مشيئة الله، فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أو: مؤمن أرجو، ونحو ذلك، فلا يقطع بكمال الإيمان لنفسه[1].
قال ابن تيمية رحمه الله: «الاستثناء أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أو مؤمن أرجو، أو آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله، أو إن كنت تريد الإيمان الذي يعصم دمي فنعم، وإن كنت تريد {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] فالله أعلم»[2].
وقال ابن أبي العز رحمه الله: «الاستثناء في الإيمان،... هو: أن يقول ـ أي: الرجل ـ: أنا مؤمن إن شاء الله»[3].
العلاقة بين المعنى اللغوي والشرعي:
المعنى الشرعي للاستثناء في الإيمان مندرج تحت عموم المعنى اللغوي للثني، وهو الرجوع والتكرار، فبعد أن أقر القائل لنفسه بالإيمان بقوله: «أنا مؤمن»، انثنى ورجع ليعلق ذلك الإقرار بأمر آخر، وهو مشيئة الله، فيقول: «إن شاء الله».
وهذا مندرج تحت المعنى الثاني من المعاني اللغوية، وهو الاستثناء العرفي الذي يعلق فيه الأمر على مشيئة الله بغير أداة الاستثناء.


[1] انظر: بيان اللجنة الدائمة للإفتاء، فتوى رقم (21436)، صادرة بتاريخ (8/4/1421هـ).
[2] مجموع الفتاوى (7/666).
[3] شرح الطحاوية (395)، وانظر: السُّنَّة لعبد الله بن أحمد (1/347) [دار ابن القيم، ط1، 1406هـ].


حكم الاستثناء في الإيمان عند أهل السُّنَّة:
الاستثناء في الإيمان له حالتان:
الحالة الأولى: إذا أريد كمال الإيمان: يكون الاستثناء مشروعًا.
وذلك لما يلي:
1 ـ أن الإيمان الكامل يشمل فعل كل ما أمر الله به، وترك كل ما نهى الله عنه، ولا يدعي أحد أنه جاء بذلك كله على التمام والكمال.
2 ـ أن الإيمان النافع هو المتقبل عند الله، والإنسان لا يدري؛ أتقبل الله منه أم لا، فلذلك صح له أن يستثني.
3 ـ البعد عن تزكية النفس.
4 ـ أن الإيمان الكامل يقتضي دخول الجنة، والإنسان لا يدري بما يختم له[1]، فيستثني لعدم العلم بالعاقبة[2].
الحالة الثانية: إن أريد أصل الإيمان، فلا يخلو ذلك من حالتين:
1 ـ إن كان الاستثناء على جهة الشك: فإنه لا يجوز. سئل الإمام أحمد رحمه الله: يستثنى في الإيمان؟ قال: «نعم، أقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أستثني على اليقين لا على الشك»[3].
2 ـ وأما إن كان الاستثناء من باب أنه يجوز في الأمور المتحققة المتيقنة ذكر مشيئة الرب، لا على جهة الشك في أصل الإيمان، بل لأن الأمور كلها إنما تكون بمشيئة الرب؛ فإن الاستثناء جائز.
قال ابن تيمية رحمه الله: «وأما جواز إطلاق القول بأني مؤمن، فيصح إذا عنى أصل الإيمان دون كماله، والدخول فيه دون تمامه»[4]. وقال: «ولهذا كان الصحيح أنه يجوز أن يقال: أنا مؤمن، بلا استثناء، إذا أراد ذلك ـ يعني: أصل الإيمان ـ، لكن ينبغي أن يقرن كلامه بما يبين أنه لم يرد الإيمان المطلق الكامل، ولهذا كان أحمد يكره أن يجيب على المطلق بلا استثناء يقدمه... فعلم أن أحمد وغيره من السلف كانوا يجزمون ولا يشكون في وجود ما في القلب من الإيمان في هذه الحال، ويجعلون الاستثناء عائدًا إلى الإيمان المطلق المتضمن فعل المأمور، ويحتجون أيضًا بجواز الاستثناء فيما لا يشك فيه، وهذا مأخذ ثان وإن كنا لا نشك فيما في قلوبنا من الإيمان»[5].


[1] انظر حول التعليل بعدم العلم بالخاتمة: مجموع الفتاوى لابن تيمية (13/42).
[2] انظر حول التعليل بعدم العلم بالعاقبة: مجموع الفتاوى لابن تيمية (3/289)، وحول هذا الوجه وبقية الوجوه انظر: الشرح والإبانة (المسمى بالإبانة الصغرى) لابن بطة (179 ـ 181) [مكتبة العلوم والحكم، ط1، 1423هـ]، والرسالة الواضحة في الرد على الأشاعرة لابن الحنبلي (2/814 ـ 815) [مجموعة التحف النفائس الدولية، ط1، 1420هـ]، والانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار (3/781 ـ 792) [دار أضواء السلف، ط1]، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (7/496)، وشرح الطحاوية لابن أبي العز (398) [المكتب الإسلامي، ط4].
[3] السُّنَّة للخلاّل (3/596) [دار الراية، ط1، 1410هـ].
[4] مجموع الفتاوى (7/669).
[5] المصدر نفسه (7/449 ـ 450).


أ ـ جزم المرء بالإيمان الكامل لنفسه هو من تزكية النفس، ومما يدل على مشروعية البعد عن تزكية النفس ما يلي:
1 ـ قوله تعالى: {فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى *} [النجم] .
2 ـ وقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النساء: 49] .
وليس هناك تزكية للنفس أعظم من الشهادة لها بالإيمان الكامل.
3 ـ ويشهد لهذا ما جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه عندما قال رجل عنده: «أنا مؤمن»، فقال له ابن مسعود: «أفأنت من أهل الجنة؟» قال: «أرجو»، قال ابن مسعود: «أفلا وكلت الأولى كما وكلت الأخرى»[1].
4 ـ الإجماع، فإن الاستثناء في الإيمان ـ إذا أريد به كماله ـ هو مذهب جماهير السلف، بل هم مجمعون على مشروعيته في هذه الحال[2].
يقول الإمام يحيى بن سعيد القطان رحمه الله: «ما أدركت أحدًا من أصحابنا إلا على الاستثناء»[3].
ب ـ ومما يدل على أن الإيمان إذا أريد به أصله فإن الإنسان لا يستثني باعتبار الشك في الأصل ما يلي:
1 ـ قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيْسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ *} [البقرة] .
فأمر المؤمنين بالإقرار بالإيمان، ولم يذكر الاستثناء؛ لأن ما ذكر في الآية هي أصول الإيمان، فهي مما يجب أن يجزم الإنسان به لنفسه من دون شك.
ج ـ ومما يدل على أن الاستثناء يجوز في الأمور المتحققة المتيقنة قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] ، فذكر الله الاستثناء، مع أن دخولهم للمسجد الحرام شيء مستيقن[4].


[1] أخرجه أبو عبيد في الإيمان (35) [مكتبة المعارف، ط1]، والآجري في الشريعة (2/665) [دار الوطن، ط2].
[2] انظر: السُّنَّة لعبد الله بن أحمد (1/347)، والإبانة لابن بطة (2/873) [دار ابن القيم، ط1، 1406هـ]، وشعب الإيمان للبيهقي (1/212)، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (7/438، 439، 505، 666). وقد عدد اللالكائي أسماء من روي عنهم الاستثناء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، كما في: شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة (5/1047).
[3] رواه الخلال في السُّنَّة (3/595).
[4] انظر: الإيمان لأبي عبيد (38 ـ 39)، والسُّنَّة للخلال (3/594)، مجموع الفتاوى (3/289) و(7/429 ـ 460)، وشرح العقيدة الطحاوية (2/494 ـ 496) [مؤسسة الرسالة، ط2، 1411هـ].


سأل رجل الحسن البصري رحمه الله، فقال: يا أبا سعيد، أمؤمن أنت؟ فقال له: « الإيمان إيمانان:
ـ فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والجنة والنار والبعث والحساب: فأنا به مؤمن.
ـ وإن كنت تسألني عن قول الله تبارك وتعالى : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ *الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ *أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ *} [الأنفال] فوالله ما أدري أنا منهم أم لا»[1].
وقال الآجري: «من صفة أهل الحق، ممن ذكرنا من أهل العلم الاستثناء في الإيمان، لا على جهة الشك ـ نعوذ بالله من الشك في الإيمان ـ ولكن خوف التزكية لأنفسهم من الاستكمال للإيمان، لا يدري أهو ممن يستحق حقيقة الإيمان أم لا؟ وذلك أن أهل العلم من أهل الحق إذا سئلوا: أمؤمن أنت؟ قال: آمنت بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والجنة والنار وأشباه هذا، فالناطق بهذا والمصدق بقلبه مؤمن، وإنما الاستثناء في الإيمان، لا يدرى أهو ممن يستوجب ما نعت الله به المؤمنين من حقيقة الإيمان أم لا؟ هذا طريق الصحابة والتابعين لهم بإحسان، عندهم أن الاستثناء في الأعمال لا يكون في القول والتصديق في القلب، وإنما الاستثناء في الأعمال الموجبة لحقيقة الإيمان»[2].


[1] تفسير القرطبي (7/367) [دار الشعب].
[2] الشريعة للآجري (2/656 ـ 657).


المسألة الأولى: حكم قول الرجل لغيره: أمؤمن أنت؟
لقد أنكر السلف سؤال الرجل لغيره: أمؤمن أنت، بل عدُّوا ذلك السؤال من البدع والتعمق والتكلف، والإيمان القائم بالإنسان علمه عند الله، فمن شهد لنفسه بالإيمان لم تكن شهادته موجبة له أن يدخل الجنة، كما أن من لم يشهد لنفسه بالإيمان الكامل لم يكن تركه لتلك الشهادة موجبًا له أن لا يدخلها[1].
قال إبراهيم النخعي رحمه الله: «سؤال الرجلِ الرجلَ: أمؤمن أنت؟ بدعة»[2].
وقيل للإمام أحمد رحمه الله: «إذا سألني الرجل: أمؤمن أنت؟ قال: سؤاله إياك بدعة، لا يشك في إيمانك، أو قال: لا نشك في إيماننا»[3].
وقال سفيان بن عيينة رحمه الله: «إذا سئل أمؤمن أنت؟ إن شاء لم يجبه، ويقول: سؤالك إياي بدعة، ولا أشك في إيماني»[4].
ووجه كراهة السلف لهذا السؤال: أنه قد جاء من قِبَل المرجئة؛ فقد سأل رجلٌ الإمامَ أحمد رحمه الله فقال له: «قيل لي: أمؤمن أنت؟» قلت: نعم، هل عليَّ في ذلك شيء؟ هل الناس إلا مؤمن وكافر؟ فغضب الإمام أحمد، وقال: هذا كلام الإرجاء، وقال الله عزّ وجل: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَِمْرِ اللَّهِ} [التوبة: 106] ، من هؤلاء؟ ثم قال أحمد: أليس الإيمان قولاً وعملاً؟ قال الرجل: بلى، قال: فجئنا بالقول؟ قال: نعم، قال: فجئنا بالعمل؟ قال: لا. قال: فكيف تعيب أن يقول: «إن شاء الله» ويستثني؟»[5].
المسألة الثانية: في حكم من قال: «أنا مؤمن إن شاء الله» على جهة الشك:
حسب ما تقدم من تفصيل، فإن من استثنى قاصدًا الشك ففيه تفصيل:
أ ـ إن قصد الشك في أصل الإيمان، فهذا محرم، وقد يخرج به صاحبه عن الديانة.
ب ـ وإن كان قاصدًا الشك في كمال الإيمان، فالاستثناء هنا مشروع، وتقدم تفصيل ذلك وبيان علته[6].
المسألة الثالثة: في حكم من قال: «أنا مؤمن كامل الإيمان» ولم يستثن:
من أثبت لنفسه كمال الإيمان بدون استثناء فقد وقع في المحظور، ويخشى عليه الإثم لوقوعه في تزكية النفس المنهي عنها في قوله تعالى: {فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى *} [النجم] [7].
قال الإمام أحمد رحمه الله: «لا نجد بدًّا من الاستثناء؛ لأنه إذا قال: «أنا مؤمن» فقد جاء بالقول، فإنما الاستثناء بالعمل لا بالقول»[8].
وقال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلاّم رحمه الله: «وكذلك نرى مذهب الفقهاء الذين كانوا يتسمون بهذا الاسم ـ يعني: الإيمان ـ بلا استثناء، فيقولون: نحن مؤمنون... إنما هو عندنا منهم على الدخول في الإيمان، لا على الاستكمال... فأما على مذهب من قال: «كإيمان الملائكة والنبيين» فمعاذ الله، ليس هذا طريق العلماء»[9].
وقال الإمام ابن بطة العكبري رحمه الله: «فهذه سبيل المؤمنين، وطريق العقلاء من العلماء، لزوم الاستثناء والخوف والرجاء، لا يدرون كيف أحوالهم عند الله، ولا كيف أعمالهم، أمقبولة هي أم مردودة... فهل يجوز لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يجزم أن أعماله الصالحة من أفعال الخير وأعمال البر كلها مرضيَّة، وعنده زكيَّة، ولديه مقبولة؟! هذا لا يقدر على حتمه وجزمه إلا جاهل مغتر بالله، نعوذ بالله من الغرة بالله، والإصرار على معصية الله»[10].
المسألة الرابعة: الاستثناء في الإسلام:
المشهور عند أهل السُّنَّة والجماعة؛ كالإمام أحمد بن حنبل وغيره هو عدم الاستثناء في الإسلام فيقول أحدهم: أنا مسلم ولا يستثني، هذا هو الأصل عندهم في هذه المسألة، بخلاف الإيمان، فالغالب عندهم فيه الاستثناء كما تقدم[11].
سئل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله عن الاستثناء في الإيمان، فقال: «نحن نذهب إلى الاستثناء»، فقيل له: فأما إذا قال: أنا مسلم فلا يستثني؟ فقال: «لا يستثني إذا قال: أنا مسلم، قال الزهري: نرى الإسلام الكلمة، والإيمان العمل»[12]. إلا أن الإمام أحمد قد تعددت عنه الروايات في ذلك:
فالرواية الأولى: منع الاستثناء في الإسلام، وهي الرواية المشهورة عنه[13].
ومما يستدل به على ذلك:
1 ـ أن نصوص الشريعة قد دلَّت على الشهادة للنفس بالإسلام بدون ذكر الاستثناء، ومن ذلك:
ـ قوله: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وهذه الآية ـ يعني: آية الحجرات السالفة ـ مما احتج بها أحمد بن حنبل وغيره على أنه يُستثنى في الإيمان دون الإسلام... قال الميموني: سألت أحمد بن حنبل عن رأيه في: أنا مؤمن إن شاء الله، فقال: أقول: مؤمن إن شاء الله، وأقول: مسلم ولا أستثني، قال: قلت لأحمد: تُفَرِّق بين الإسلام والايمان؟ فقال لي: نعم، فقلت له: بأيِّ شيء تحتج؟ قال لي: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] »[14].
2 ـ أن كل من نطق بالشهادتين صار مسلمًا، متميزًا عن سائر الكافرين، تجري عليه أحكام المسلمين، وهذا أمر لا شك في تحققه عند جميع المسلمين، فجُزم به بلا استثناء[15].
والرواية الثانية: تجويز الاستثناء في الإسلام[16].
وليس بين هاتين الروايتين تعارض، وبيان ذلك:
أن الإسلام له إطلاقان عند الإمام أحمد:
الإطلاق الأول: أن يراد بالإسلام: الكلمة. وهذا الإطلاق مشهور عن ابن شهاب الزهري رحمه الله. والمراد بالكلمة: الشهادتان[17].
وعليه؛ فـ«يكون مراد الزهري أن المرء يُحكم بإسلامه ويسمى مسلمًا إذا تلفظ بالكلمة؛ أي: كلمة الشهادة، وأنه لا يسمى مؤمنًا إلا بالعمل، والعمل يشمل عمل القلب والجوارح... وأما الإسلام المذكور في حديث جبريل فهو الشرعي الكامل المراد بقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ *} [آل عمران] »[18].
وعلى هذا الإطلاق تحمل رواية المنع من الاستثناء في الإسلام عند الإمام أحمد؛ لأن النطق بالشهادتين هو مما يجزم به كل مسلم ولا يجوز الشك فيه.
الإطلاق الثاني: أن يراد بالإسلام فعل الواجبات الظاهرة كلها كما أمر به الله.
فعلى هذا الإطلاق تحمل رواية جواز الاستثناء، فيُستَثنى في الإسلام كما يُستثنى في الإيمان[19].
فالحاصل: أنه إن أريد أصل الإسلام، وهو النطق بالشهادتين: مُنِع الاستثناء.
وإن أريد كمال الإسلام، المتضمن لفعل الواجبات وترك المحرمات على ما أمر به الله جاز الاستثناء.
المسألة الخامسة: الاستثناء في الماضي المعلوم المتيقن:
الاستثناء في الماضي المعلوم المتيقن، مثل قولهم: هذه شجرة إن شاء الله، أو محمد رسول الله إن شاء الله، وأنه قد صلى بالأمس إن شاء الله، فهذا بدعة مخالفة للعقل والدين، ولم يكن عليه أحد من أهل الإسلام السابقين، وأئمة الدين، ولم يأت في الكتاب ولا السُّنَّة استثناء في الماضي، بل كل ما ورد فهو في المستقبل؛ كقوله تعالى: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف] [20].
المسألة السادسة: الاستثناء في الأعمال الصالحة:
الاستثناء في الأعمال الصالحة بحيث يقال: صليت إن شاء الله، وصمت إن شاء الله، وحججت إن شاء الله، القول فيها كالقول في الاستثناء في الإيمان؛ إذ هي أفراد الإيمان؛ فإن كان المقصد خوف التزكية، أو الخوف من عدم الإتيان بالعمل الصالح على وجه الكمال شرع له الاستثناء، وإن كان المقصد مجرد الإخبار عن العمل كأن يقول: صليت وصمت وحججت فلا يستثني.
قال ابن تيمية: «وخوف من خاف من السلف أن لا يتقبل منه لخوفه أن لا يكون أتى بالعمل على الوجه المأمور، وهذا أظهر الوجوه في استثناء من استثنى منه في الإيمان، وفي أعمال الإيمان؛ كقول أحدهم: أنا مؤمن إن شاء الله، وصليت إن شاء الله؛ لخوف أن لا يكون أتى بالواجب على الوجه المأمور به، لا على جهة الشك فيما بقلبه من التصديق»[21].


[1] انظر: الشريعة للآجري (2/673 ـ 674).
[2] رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (11/38) [مكتبة الرشد، ط1، 1409هـ]، وعبد الله بن أحمد في السُّنَّة (1/141)، والآجري في الشريعة (2/671).
[3] انظر: السُّنَّة للخلال (3/601)، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (7/448).
[4] انظر: السُّنَّة للخلال (3/602)، مجموع الفتاوى (7/450).
[5] السُّنَّة للخلال (3/597)، وانظر: الشريعة للآجري (2/673 ـ 674)، الإبانة لابن بطة (2/883).
[6] انظر: السُّنَّة للخلال (3/596) [دار الراية، ط1، 1410هـ]، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (7/669).
[7] انظر: مجموع الفتاوى (7/669).
[8] رواه الخلال في السُّنَّة (3/601).
[9] الإيمان لأبي عبيد (40 ـ 41).
[10] الإبانة لابن بطة (2/872 ـ 873).
[11] انظر: الفرقان بين الحق والباطل ضمن مجموع الفتاوى لابن تيمية (13/43) [مكتبة ابن تيمية، ط2]، والتحبير شرح التحرير للمرداوي (2/531) [مكتبة الرشد، ط1، 1421هـ]، ولوامع الأنوار البهية للسفاريني (1/438) [مؤسسة الخافقين، ط2].
[12] الشرح والإبانة (المسمى بالإبانة الصغرى) لابن بطة (2/876).
[13] انظر: الإيمان لابن منده (1/311) [مؤسسة الرسالة، ط2، 1406هـ]، والسُّنَّة للخلال (3/604)، والإبانة الصغرى لابن بطة (2/876)، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (7/43) و(13/43).
[14] مجموع الفتاوى لابن تيمية (7/253).
[15] انظر: الإيمان الكبير ضمن مجموع الفتاوى لابن تيمية (7/415)، زيادة الإيمان ونقصانه لعبد الرزاق البدر (495 ـ 496) [دار القلم والكتاب، ط1، 1416هـ].
[16] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (7/415).
[17] انظر: عون المعبود للعظيم آبادي (12/287) [دار الكتب العلمية، ط2، 1995م]، ومرقاة المفاتيح لعلي قاري (7/542) [دار الكتب العلمية، ط1، 1422هـ].
[18] فتح الباري لابن حجر (1/81 ـ 82) [دار المعرفة].
[19] انظر حول هذا التفصيل: الإيمان الكبير ضمن مجموع الفتاوى لابن تيمية (7/259، 415)، والتحبير شرح التحرير للمرداوي (2/531 ـ 532).
[20] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (8/421، 425).
[21] مجموع الفتاوى (7/496).


للمخالفين عدة أقوال في حكم الاستثناء في الإيمان:
القول الأول: القول بوجوب الاستثناء في الإيمان. وهو قول الكلابية[1] وجمهور الأشاعرة[2].
وعلّلوا ذلك بأمرين:
1 ـ أن الإيمان هو ما مات عليه الإنسان، وكذلك الكفر هو ما مات عليه الإنسان، فالإنسان إنما يكون عند الله مؤمنًا أو كافرًا باعتبار الموافاة، وما سبق في علم الله أنه يكون عليه، وما قبل ذلك فلا عبرة به.
2 ـ البعد عن تزكية النفس بالشهادة لها بالإيمان[3].
وهم قد وافقوا السلف في الاعتبار الثاني دون الاعتبار الأول، فإن الاعتبار الأول مبني على قولهم بنفي الصفات الاختيارية عن الله، وهو ما يسمونه بمنع حلول الحوادث، ومن ثم قالوا: إن الحب والبغض والسخط والغضب صفات أزليه قديمة، فلا يكون الله مبغضًا لشخص ـ حال كفره ـ ثم يصير محبًّا له بعد إيمانه، بل لم يزل محبًّا له في الأزل إذا علم أنه يموت على الإيمان، ولم يزل مبغضًا له في الأزل إذا علم أنه يموت على الكفر.
ثم قرنوا مسألة الاستثناء في الإيمان بهذا القول، وأوجبوه، بناء على أن الإنسان لا يعلم على أي شيء يموت عليه، والإيمان هو ما يموت عليه المرء ويوافي به ربه[4].
وهذا تناقض منهم؛ لأنهم يقولون: إن الإيمان هو التصديق؛ لأنه في اللغة كذلك، ثم يقولون: الإيمان في الشرع هو ما يوافي به العبد ربه، وجعلوا الاستثناء واجبًا لأجل ذلك، فهذا عدول منهم عن معنى الإيمان في اللغة إلى معنى آخر، فأبطلوا استدلالهم اللغوي في بيان حد الإيمان[5].
القول الثاني: من يحرِّم الاستثناء في الإيمان. وهو قول المرجئة والجهمية[6] والماتريدية[7]، وبعض الأشاعرة[8]، ونحوهم ممن يجعل الإيمان شيئًا واحدًا، وهو التصديق والإقرار.
قال عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: «أول الإرجاء ترك الاستثناء»[9].
وعلّلوا التحريم بقولهم: إن الإيمان شيء واحد، والاستثناء يقتضي الشك، فإن من استثنى في إيمانه فهو شاك، ومن تردد في تحقيق الإيمان لم يكن مؤمنًا، بل ذهب بعضهم إلى تكفير من قال بالاستثناء[10].
وقولهم هذا في غاية البطلان، فإن الإيمان الشرعي يطلق على جميع الاعتقادات والأقوال والأعمال الشرعية، وليس شيئًا واحدًا (التصديق) كما زعمه هؤلاء، فالاستثناء راجع إلى تحقيق كمال الأقوال والأعمال، لا إلى أصل التصديق الذي لا شك فيه.


[1] انظر: مجموع الفتاوى (3/289) (7/430)، والاستقامة لابن تيمية (1/150) [طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط1، 1403هـ].
[2] انظر: أصول الدين للبغدادي (253) [دار زاهد القدسي]، وشرح المقاصد للتفتازاني (253) [دار المعارف النعمانية، ط1، 1401هـ].
[3] انظر: الإرشاد للجويني (336) [مكتبة الخانجي، ط3، 1422هـ].
[4] انظر: الإيمان لابن تيمية، ضمن مجموع الفتاوى (7/418).
[5] انظر: الإيمان لابن تيمية (137 ـ 138)، وموقف ابن تيمية من الأشاعرة (3/1371) [مكتبة الرشد، ط1].
[6] انظر: مجموع الفتاوى (7/429).
[7] انظر: التوحيد للماتريدي (388) [دار الجامعات المصرية]، وتأويلات أهل السُّنَّة (265) [مطبعة الإرشاد، 1404هـ]، وبحر الكلام لأبي المعين النسفي (40) [مطبعة الكردي، 1911هـ].
[8] انظر: أصول الدين للبغدادي (253).
[9] السُّنَّة للخلال (3/598).
[10] انظر: أصول الدين للبغدادي (253)، والبحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم المصري (2/46) [طبع سعيد كمبني، كراتشي]، وإتحاف السادة المتقين (2/278) [دار الفكر]، وكذلك: زيادة الإيمان ونقصانه لعبد الرزاق العباد (519)، وانظر في الرد على هذا القول: مجموع الفتاوى لابن تيمية (13/41).


1 ـ «الإيمان»، لأبي عبيد القاسم بن سلام.
2 ـ «السُّنَّة»، للخلال.
3 ـ «الشريعة»، للآجري.
4 ـ «الشرح والإبانة على أصول السُّنَّة والديانة» (المسمى بالإبانة الصغرى)، لابن بطة العكبري.
5 ـ «الإبانة الكبرى»، لابن بطة العكبري.
6 ـ «شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة»، للالكائي.
7 ـ «الحجة في بيان المحجة»، لإسماعيل بن محمد الأصبهاني.
8 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.
9 ـ «شرح العقيدة الطحاوية»، لابن أبي العز.
10 ـ «زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه»، لعبد الرزاق بن عبد المحسن البدر.