حرف الخاء / الخلافة الراشدة

           

الخلافة الراشدة: مركَّب إضافي من: الخلافة، والراشدة.
قال ابن فارس: «الخاء واللام والفاء أصول ثلاثة؛ أحدهما: أن يجيء شيء بعد شيء يقوم مقامه، والثاني: خلاف قدام، والثالث: التغيُّر»[1].
والخلافة من خَلَف، وهي من الأول: وسميت خلافة؛ لأن الثاني يجيء بعد الأول قائمًا مقامه، وورد في التنزيل قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلاَئِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ *} [الزخرف] ؛ أي: يكونون بدلكم في الأرض، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ} [الأنعام: 156] ؛ أي: يخلف بعضكم بعضًا، والخليفة إنما يقع على الرجال خاصة، ولهذا يقال خلفاء[2].
والراشدة من رشد: وهي أصل واحد يدل على استقامة الطريق؛ قال ابن فارس: «الراء والشين والدال أصل واحد يدل على استقامة الطريقة»[3].


[1] مقاييس اللغة (2/210) [دار الجيل، ط1420هـ].
[2] انظر: تهذيب اللغة (7/400، 408) [دار القومية، 1384هـ]، ومقاييس اللغة (2/210).
[3] مقاييس اللغة (2/398).


الخلافة الراشدة هي: الخلافة على منهاج النبوة وهم الخلفاء الراشدون الأربعة: أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وهي خلافة النبوة كما سماها بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم[1].


[1] هذا التعريف مستنبط من أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كحديث: «عليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين» ، ومن حديث حذيفة رضي الله عنه: «ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون..» وكلام أهل العلم في ذلك.


روى سفينة رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ أنه قال: «خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله الملك ـ أو ملكه ـ من يشاء» . ثم قال لي ـ يعني: الراوي سعيد بن جهمان ـ سفينةُ: أمسك خلافة أبي بكر، وخلافة عمر، وخلافة عثمان. ثم قال لي: أمسك خلافة علي. قال: فوجدناها ثلاثين سنة[1].
عن العرباض بن سارية رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ أنه قال: «عليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين عضّوا عليها بالنواجذ» الحديث[2].
وحديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج نبوة، ثم سكت»[3]


[1] أخرجه أبو داود (كتاب السُّنَّة، رقم 4646)، والترمذي (أبواب الفتن، رقم 2226) وحسَّنه، وأحمد (36/248) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وصحَّحه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/129 ـ 130) [دار المعارف، ط1]، وفي السلسلة الصحيحة (1/820 ـ 827، رقم 459) [مكتبة المعارف، ط. 1415هـ].
[2] أخرجه أبو داود (كتاب السُّنَّة، رقم 4607)، والترمذي (أبواب العلم، رقم 2676) وقال: «هذا حديث حسن صحيح»، وابن ماجه (المقدمة، رقم 42)، وأحمد (28/367) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والدارمي (كتاب العلم، رقم 96)، وصحَّحه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (رقم 37) [مكتبة المعارف، ط5].
[3] أخرجه أحمد في المسند (30/355) [مؤسسة الرسالة]، والبزار في مسنده (2/223) [مكتبة العلوم والحكم]، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/189): رجاله ثقات. وذكره الالباني في السلسلة الصحيحة (1/34) وقال: رواه الحافظ العراقي في: محجة القرب إلى محبة العرب (17/2) وقال: «هذا حديث صحيح».


قال الإمام أحمد رحمه الله: «والخلافة على ما روى سفينة عن النبي: «الخلافة في أمتي ثلاثون سنة» ، ونستعمل الخبرين جميعًا: ما قاله سفينة وما قاله ابن عمر[1]، ولا نعيب من ربَّع بعليٍّ لقرابته، وصهره، وإسلامه القديم، وعدله، وأن أصحاب رسول الله الذين كانوا معه سمَّوه أمير المؤمنين، وأقام الحدود، ورجم، وحج بالناس، ودعي أمير المؤمنين»[2].
وقال ابن بطة العكبري رحمه الله: «ثم الإيمان والمعرفة بأن خير الخلق وأفضلهم، وأعظمهم منزلة عند الله عزّ وجل بعد النبيين والمرسلين، وأحقهم بخلافة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أبو بكر الصديق عبد الله بن عثمان وهو عتيق بن أبي قحافة رضي الله عنه، وتعلم أنه يوم مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يكن على وجه الأرض أحد بالوصف الذي قدمنا ذكره غيره رحمة الله عليه، ثم من بعده على الترتيب والصفة: أبو حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو الفاروق، ثم من بعدهما على الترتيب والنعت: عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو أبو عبد الله وأبو عمرو ذو النورين، ثم على هذا النعت والصفة من بعدهم: أبو الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو الأنزع البطين، صهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وابن عم خاتم النبيين صلوات الله ورحمته وبركاته عليهم أجمعين»[3].
وقال ابن تيمية: «واتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة، فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة، وهو أول الملوك، كان ملكه ملكًا ورحمة، وأما من قبله فكانوا خلفاء نبوة، فإنه قد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «تكون خلافة النبوة ثلاثين سنة، ثم تصير ملكًا» [4]، وكان أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم هم الخلفاء الراشدون، والأئمة المهديون»[5].


[1] يشير إلى قول ابن عمر رضي الله عنهما: «كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ فنخير أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم». أخرجه البخاري (كتاب فضائل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، رقم 3655).
[2] السُّنَّة لعبد الله بن أحمد (2/573) [دار عالم الكتب، ط4، 1416هـ].
[3] الشرح والإبانة لابن بطة (165 ـ 167) [دار الأمر الأول، ط2، 1433هـ].
[4] تقدم تخريجه قريبًا.
[5] مجموع الفتاوى (4/478).


المسألة الأولى: خلافة الخلفاء الأربعة الراشدين ثابتة بالنص:
كما دلَّ على ذلك حديث سفينة رضي الله عنه المتقدم، والقرآن دلَّ على ذلك أيضًا:
قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ *} [النور] .
قال ابن قدامة المقدسي رحمه الله: «وهؤلاء الأربعة هم الخلفاء الراشدون الذين وعدهم الله بالاستخلاف، ووصَّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باتباع سُنَّتهم لا يجوز أن تحمل الآية على استخلاف غيرهم؛ لأن وعد الله حق لا يجوز الخلف عليه، وما وجد الاستخلاف بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم مع الشروط المذكورة، في الأخبار المأثورة في جماعة غيرهم؛ كوجودها فيهم، وقد بيَّن النبي مدة خلافتهم، وحث على سُنَّتهم، ووصفهم بصفته»[1].
وقال ابن حزم رحمه الله: «وفي نص القرآن دليل على صحة خلافة أبي بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم، وعلى وجوب الطاعة لهم؛ وهو أن الله تعالى قال مخاطبًا لنبيِّه صلّى الله عليه وسلّم في الأعراب: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ *} [التوبة] ، وكان نزول براءة التي فيها هذا الحكم بعد غزوة تبوك بلا شك، التي تخلَّف فيها الثلاثة المعذورون، الذين تاب الله عليهم في سورة براءة، ولم يغز عليه السلام بعد غزوة تبوك، إلى أن مات صلّى الله عليه وسلّم، وقال تعالى أيضًا: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً *} [الفتح] ، فبيَّن أن العرب لا يغزون مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد غزوة تبوك أبدًا، ثم عطف سبحانه وتعالى عليهم، إثر منعه إياهم مع الغزو مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وغلق لهم باب التوبة فقال: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا *} [الفتح] فأخبر تعالى أنه سيدعوهم غير النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى قوم يقاتلونهم أو يسلمون، ووعدهم على طاعة من دعاهم إلى ذلك بجزيل الأجر العظيم، وتوعدهم على عصيان الداعي لهم إلى ذلك العذاب الأليم، وما دعا أولئك الأعراب أحد بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى قوم يقاتلونهم أو يسلمون إلا أبو بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم؛ فإن أبا بكر رضي الله عنه دعاهم إلى قتال مرتدي العرب؛ بني حنيفة، وأصحاب الأسود، وسجاح، وطليحة، والروم والفرس، وغيرهم، ودعاهم عمر إلى قتال الروم والفرس، وعثمان دعاهم إلى قتال الروم والفرس، والترك، فوجبت طاعة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم بنص القرآن الذي لا يحتمل تأويلاً، وإذ قد وجبت طاعتهم فرضًا فقد صحت إمامتهم وخلافتهم رضي الله عنهم»[2].
وقال ابن تيمية في وصف خلافة علي رضي الله عنه: «ولكن اعتقاد خلافته، وإمامته ثابتة بالنص، وما ثبت بالنص وجب اتباعه»[3].
المسألة الثانية: خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
اختلف فيها أهل العلم: أكانت بالنص الجلي، أم بالنص الخفي والإشارة، أم أنها ثبتت بالاختيار، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يستخلف أصلاً، فهذه ثلاثة أقوال[4]:
القول الأول: وهو أن خلافة أبي بكر الصديق ثبتت بالنص الجلي، وهو قول لبعض أصحاب الحديث، وغيرهم، وكان ممن نصره ابن حزم الظاهري.
واستدل هؤلاء من السُّنَّة بأحاديث منها: ما رواه جبير بن مطعم عن أبيه قال: أتت امرأة النبي صلّى الله عليه وسلّم فأمرها أن ترجع إليه. قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك ـ كأنها تقول الموت ـ قال: «إن لم تجديني فأتي أبا بكر»[5].
وعن عائشة؛ أنها قالت: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مرضه: «ادعي لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتابًا فإني أخاف أن يتمنى متمنٍّ ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر»[6].
قال ابن حزم: «فهذا نصٌّ جلي على استخلافه عليه الصلاة والسلام أبا بكر على ولاية الأمة بعده»[7].
القول الثاني: وهو أنها ثبتت بالنص الخفي والإشارة، وإلى هذا القول ذهب جماعة من أهل الحديث، والمتكلمين، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، ويروى عن الحسن البصري، وغيرهم.
واستدلوا بما استدل به الأولون، وزادوا عليهم الأحاديث الواردة في تقديم أبي بكر للصلاة في آخر حياة النبي في مرضه الذي مات فيه[8]، وبأحاديث الرؤيا[9]، وغيرها.
القول الثالث: وهو أنها ثبتت بالاختيار، وهو قول جمهور العلماء، والفقهاء، وأهل الحديث، والمتكلمين، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد.
واستدلوا من السُّنَّة بحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ أنه قال: «قيل لعمر: ألا تستخلف؟ قال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني أبو بكر، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني رسول الله فأثنوا عليه. فقال: راغب راهب، وددت أني نجوت منها كفافًا لا ليَ ولا عليَّ لا أتحملها حيًّا ولا ميتًا». قال عبد الله رضي الله عنه: فعرفت أنه حين ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غير مستخلف[10].
وعن ابن أبي مليكة قال: «سمعت عائشة وسئلت: من كان رسول الله مستخلفًا لو استخلفه؟ قالت: أبو بكر. فقيل لها: ثم من بعد أبي بكر؟ قالت: عمر. ثم قيل لها: من بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة ابن الجراح. ثم انتهت إلى هذا»[11].
والصواب: هو كما قال ابن تيمية: «والتحقيق أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دلَّ المسلمين على خلافة أبي بكر، وأرشدهم إليه بأمور متعددة، من أقواله، وأفعاله، وأخبر بخلافته إخبار راض بذلك، حامد له، وعزم على أن يكتب بذلك عهدًا، ثم علم أن المسلمين يجتمعوا عليه، فترك الكتاب اكتفاء بذلك، ثم عزم على ذلك في مرضه يوم الخميس، ثم لما حصل لبعضهم شك: هل ذلك القول من جهة المرض، أو قول يجب اتباعه، ترك الكتابة اكتفاء بما علم أن الله يختاره، والمؤمنون من خلافة أبي بكر رضي الله عنه، فلو كان التعيين مما يشتبه على الأمة لبيَّنه النبي صلّى الله عليه وسلّم بيانًا قاطعًا للعذر، لكن لما دلتهم دلالات متعددة على أن أبا بكر هو المتعين، وفهموا ذلك، حصل المقصود»[12].
المسألة الثالثة: عدم النص الصريح على خلافة أبي بكر رضي الله عنه:
عدول النبي صلّى الله عليه وسلّم عن النصِّ الصريح في تعيين خلافة أبي بكر رضي الله عنه له مسوغات شرعية؛ منها:
1 ـ بيان منزلة أبي بكر الصديق حينما يختاره المسلمون من غير عهد، وقد دلَّت النصوص على صوابهم، ورضا الله ورسوله بذلك، ففي هذا دليل على أن الصديق كان فيه من الفضائل التي بان بها غيره ما علم المسلمون به أنه أحقهم بالخلافة، وأن ذلك لا يحتاج فيه إلى عهد خاص، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لما أراد أن يكتب لأبي بكر كتابًا فقال لعائشة: «ادعي لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتابًا فإني أخاف أن يتمنى متمنٍّ ويقول: أنا أولى ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر»[13].
وفي رواية أخرى قال صلّى الله عليه وسلّم: «لقد هممت ـ أو أردت ـ أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد: أن يقول القائلون، أو يتمنى المتمنون، ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون، أو يدفع الله ويأبى المؤمنون»[14].
فبيَّن صلّى الله عليه وسلّم أنه يريد أن يكتب كتابًا خوفًا، ثم علم أن الأمر واضح ظاهر ليس مما يقبل النزاع فيه، والأمة حديثة عهد بنبيّها، وهم خير أمة أخرجت للناس، وأفضل قرون هذه الأمة، فلا يتنازعون في هذا الأمر الواضح الجلي، فإن النزاع إنما يكون لخفاء العلم، أو لسوء القصد، وكلا الأمرين منتف؛ فإن العلم بفضيلة أبي بكر جلي، وسوء القصد لا يقع من جمهور الأمة الذين هم أفضل القرون، ولهذا قال: «يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر» ، فترك ذلك لعلمه بأن ظهور فضيلة أبي بكر الصديق واستحقاقه لهذا الأمر يغني عن العهد، فلا يحتاج إليه فتركه لعدم الحاجة وظهور فضيلة الصديق واستحقاقه وهذا أبلغ من العهد[15].
2 ـ علمه عليه الصلاة والسلام بوقوع خلافة أبي بكر، وأن المؤمنين يختارونها، فاكتفى به عن النص، وترك النص مع العلم بوقوع خلافة أبي بكر أفضل؛ لأن الأمة إذا ولَّته طوعًا منها بغير التزام وكان هو الذي يرضاه الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم كان أفضل للأمة، ودلَّ على علمها ودينها، فإنها لو ألزمت بذلك لربما قيل: إنها أكرهت على الحق، وهي لا تختاره، كما كان يجري مثل ذلك لبني إسرائيل، ويظن الظان أنه كان في الأمة بقايا جاهلية من التقديم بالأنساب.
وقد يقول القائل: إنهم كانوا في الباطن كارهين لمن يأمرهم بمثل ما أمرهم به الرسول صلّى الله عليه وسلّم، لكن لما ألزمهم بذلك احتاجوا إلى التزامه.
لو لم يقدح فيهم بذلك لم يمدحوا إلا بمجرد الطاعة للأمر، فإذا كانوا برضاهم واختيارهم؛ اختاروا ما يرضاه الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم من غير إلزام، كان ذلك أعظم لقدرهم، وأعلى لدرجتهم، وأعظم في مثوبتهم، وكان ما اختاره الله، ورسوله صلّى الله عليه وسلّم للمؤمنين به؛ هو أفضل الأمور له ولهم[16].
3 ـ قد يحتج بالنص على وجوب اتباعه في كل ما يقول ولا يمكن أحد بعد موت الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يراجع الرسول صلّى الله عليه وسلّم في أمره ليرده أو يعزله، فكان أن لا ينص على معين أولى من النص، وهذا بخلاف من يوليه في حياته، فإنه إذا أخطأ أو أذنب أمكن الرسول صلّى الله عليه وسلّم بيان خطئه، ورد ذنبه وبعد موته لا يمكنه ذلك، ولا يمكن الأمة عزله لتولية الرسول صلّى الله عليه وسلّم إياه فكان عدم النص على معين مع علم المسلمين بدينهم أصلح للأمة وكذلك وقع[17].
4 ـ لو نص على معين؛ لكان من يتولى بعده؛ إذا لم يكن منصوصًا عليه، يظن الظان أنه لا تجوز طاعته إذ طاعة الأول، إنما وجبت بالنص ولا نص معه.
وإن قيل: كل واحد ينص على الآخر فهذا إنما يكون إذا كان الثاني معصومًا، والعصمة منتفية عن غير الرسول صلّى الله عليه وسلّم[18].
وأما خلافة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكانت بالعهد من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، واتفاق الأمة عليه.
قال موفق الدين: «وعمر ثبتت إمامته بعهد أبي بكر»[19].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وأما عمر فإن أبا بكر عهد إليه، وبايعه المسلمون بعد موت أبي بكر، فصار إمامًا لما حصلت له القدرة والسلطان بمبايعتهم له»[20].
وقال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله: «ونثبت الخلافة بعد أبي بكر لعمر رضي الله عنهما، وذلك بتفويض أبي بكر الخلافة إليه، واتفاق الأمة بعده عليه»[21].
وأما خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه فكانت بمبايعة الناس له، ولم يتخلف عنها أحد.
قال الإمام أحمد: «ما كان في القوم أوكد بيعة من عثمان، كانت بإجماعهم»[22].
قال ابن تيمية: «عثمان لم يصر إمامًا باختيار بعضهم؛ بل بمبايعة الناس به، وجميع المسلمين بايعوا عثمان بن عفان، ولم يتخلف عنه أحد»[23].
وأما خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقد اختلف الناس فيها، واضطربوا على أقوال متعددة أظهرها ثلاثة أقوال[24]:
القول الأول: أن زمانه كان زمان فتنة، فلم يكن هناك خليفة عام، وهذا قول طائفة من أهل الحديث البصريين، وغيرهم.
القول الثاني: وهو أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان خليفة، ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه كان خليفة، وقالوا: يصح أن يولى خليفتان، وهذا يحكى عن الكرامية، وغيرهم.
القول الثالث: وهو أن علي بن أبي طالب كان هو الخليفة والإمام، وتنازع أصحاب هذا القول فيمن كان مصيبًا في قتاله؛ أهو علي بن أبي طالب وأصحابه، أم معاوية بن أبي سفيان وأصحابه، إلى أقوال متعددة.
والصحيح الذي عليه الأئمة أن عليًّا رضي الله عنه من الخلفاء الراشدين، فزمان علي كان يسمي نفسه أمير المؤمنين، والصحابة تسميه بذلك، قال الإمام أحمد: «من لم يربِّع بعلي رضي الله عنه في الخلافة فهو أضل من حمار أهله»[25].
وقال عبد الله بن أحمد: «سألت أبي رحمه الله عن التفضيل بين أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضوان الله عليهم؟ فقال: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي الرابع من الخلفاء. قلت لأبي: إن قومًا ما يقولون: إنه ليس بخليفة؟! قال: هذا قول سوء رديء. وقال: أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانوا يقولون له: يا أمير المؤمنين، أفنكذِّبهم، وقد حج، وقطع، ورجم، فيكون هذا إلا خليفة»[26].
المسألة الرابعة: هل يجوز أن يقال للسلطان والملك: خليفة الله؟
اختلف في ذلك على ثلاثة أقوال[27]:
القول الأول: وهو القول بالجواز؛ لقيام الخليفة بحقوق الله في خلقه، واستدلوا بقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] ، وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ} [الأنعام: 165] ، واستدلوا من السُّنَّة بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر ما تعملون»[28].
القول الثاني: وهو المنع مطلقًا، وهو قول جمهور العلماء، وقد نسبوا القائل بذلك إلى الفجور.
واستدلوا على المنع[29]: بأن الله تعالى لا يجوز أن يكون أحد خلفًا له، ولا يقوم مقامه؛ لأنه لا سمي له، ولا كفء له، فمن جعل له خليفة فهو مشرك.
وقالوا: إن الخليفة إنما يكون عند عدم المستخلف بموت، أو غيبة، ويكون لحاجة المستخلف إلى الاستخلاف، وهذه المعاني كلها منتفية عن الرب عزّ وجل، وهو منزه عنها؛ فإنه حي قيوم، شهيد، لا يموت ولا يغيب، وهو غني يرزق ولا يرزق.
ولهذا لما قالوا لأبي بكر الصديق رضي الله عنه: يا خليفة الله! قال: «أنا خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنا راض به»[30]؛ بل هو سبحانه يكون خليفة لغيره، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اللَّهُمَّ أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل» [31]؛ وذلك لأن الله عزّ وجل حي شهيد، مهيمن، قيوم، رقيب، حفيظ، غني عن العالمين، ليس له شريك، ولا ظهير، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه
وقالوا في توجيه الآيات القرآنية التي استدل بها أصحاب القول الأول[32]: أن المراد بالخليفة أنه خلف من كان قبله من الخلق، فآدم عليه السلام جعله الله خليفة في الأرض عمن كان قبله من الملائكة، أو الجن، والله جعل الناس يخلف بعضهم بعض، كلما هلك قرن خلفه قرن إلى أن تقوم الساعة، وكذلك تأويل الحديث الذي استدلوا به فالمراد به أن الله مستخلفكم عن الأمم التي هلكت، فتكونون خلفاء من بعدهم.
وقيل لأبي بكر الصديق خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه خلفه على أمته بعد موته، وكما كان النبي إذا سافر لحج، أو عمرة، أو غزوة يستخلف على المدينة من يكون خليفة له مدة معينة.
القول الثالث: وهو القول بالتفصيل الذي ذهب إليه ابن قيم الجوزية رحمه الله: وهو أنه إن أريد بالإضافة أنه خليفة عن الله تعالى، فالقول بالمنع هو الصواب، وأما إن أريد بالإضافة أنه استخلف عن غيره ممن كان قبله، فهذا لا يمتنع فيه الإضافة، وحقيقتها خليفة الله الذي جعله الله خلفًا عن غيره[33].
المسألة الخامسة: هل الخليفة من أسماء الله تعالى؟
الخليفة ليس من أسماء الله الحسنى لعدم ورود دليل صحيح صريح به على سبيل التسمية، ومن عدَّه فيها وهو القرطبي فقد احتج له بحديث ابن عمر رضي الله عنهما؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «كان إذا استوى على بعيره خارجًا إلى سفر كبَّر ثلاثًا، ثم قال: {...سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ *} [الزخرف] ! اللَّهُمَّ إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللَّهُمَّ هوّن علينا سفرنا هذا، واطوِ عنّا بُعده، اللَّهُمَّ أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل، وإذا رجع قالهن وزاد فيهن: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون»[34].
وهذا كما ترى أيها القارئ الكريم ورد مقيدًا فلا يتجاوز فيه النص، وعليه فإنه يُخبر به عن الله فيقال: هو الخليفة في الأهل، والصاحب في السفر، وهكذا، ولا يطلق عليه منهما اسم فلا يقال: من أسمائه تعالى الخليفة والصاحب.
وسُئلت اللجنة الدائمة: هل الخليفة والصاحب من أسماء الله تعالى؟ فأجابت: «ليس الخليفة ولا الصاحب من أسماء الله سبحانه، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «اللَّهُمَّ أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل» من باب الإخبار لا من باب التسمية»[35].


[1] مناهج القاصدين في فضل الخلفاء الراشدين (335) [دار غراس، ط1، 1427هـ].
[2] الفصل في الملل والأهواء (4/89) [دار الجيل، ط1405هـ].
[3] مجموع الفتاوى (4/440).
[4] انظر: المعتمد في أصول الدين لأبي يعلى (223) [دار الجيل، ط2، 1416هـ]، والفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم (4/176) [دار الجيل، ط2، 1416هـ]، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (1/396)، ومنهاج السُّنَّة (1/486)، ومجموع الفتاوى (35/47).
[5] أخرجه البخاري (كتاب فضائل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، رقم 3659)، ومسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2386).
[6] أخرجه البخاري (كتاب المرضى، رقم 5666)، ومسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2387) واللفظ له.
[7] الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/177).
[8] أخرجه البخاري (الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة، رقم 7303)، ومسلم (كتاب الصلاة، رقم 418).
[9] أخرجه البخاري (كتاب فضائل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، رقم 3664)، ومسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2392).
[10] أخرجه البخاري (كتاب الأحكام، رقم 7218)، ومسلم (كتاب الإمارة، رقم 1823).
[11] أخرجه مسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2385).
[12] منهاج السُّنَّة (1/516 ـ 517).
[13] تقدم تخريجه قريبًا.
[14] أخرجها البخاري (كتاب المرضى، رقم 5666).
[15] انظر: منهاج السُّنَّة (1/524).
[16] انظر: منهاج السُّنَّة (6/453 ـ 454).
[17] انظر: المصدر السابق (6/450).
[18] انظر: المصدر السابق (6/451).
[19] المغني (12/243).
[20] منهاج السُّنَّة (1/532).
[21] شرح العقيدة الطحاوية (2/710) [مؤسسة الرسالة، ط13، 1419هـ].
[22] نقلاً من: منهاج السُّنَّة (1/532).
[23] منهاج السُّنَّة (1/532).
[24] انظر: منهاج السُّنَّة (1/537 ـ 540)، ومجموع الفتاوى (4/479).
[25] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (4/479).
[26] السُّنَّة لعبد الله ابن الإمام أحمد (2/574).
[27] انظر: الأحكام السلطانية لأبي يعلى (27)، والأحكام السلطانية للماوردي (22)، ومنهاج السُّنَّة (1/509)، ومفتاح دار السعادة (1/471) [دار ابن عفان، ط1]، والمناهي اللفظية لبكر أبي زيد (252) [دار العاصمة].
[28] أخرجه مسلم (كتاب الرقاق، رقم 2742).
[29] انظر: الأحكام السلطانية لأبي يعلى (27)، والأحكام السلطانية للماوردي (22)، ومجموع الفتاوى (35/54)، ومنهاج السُّنَّة (1/510).
[30] أخرجه أحمد (1/225، 227، رقم 59، 64) [مؤسسة الرسالة، ط1، 1416هـ]، قال ابن حجر: وهو منقطع. إتحاف المهرة (8/245).
[31] أخرجه مسلم (كتاب الحج رقم 1342).
[32] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (35/54)، ومنهاج السُّنَّة (1/510)، ومفتاح دار السعادة (2/471).
[33] انظر: مفتاح دار السعادة (2/472).
[34] أخرجه مسلم (كتاب الحج، رقم 1342).
[35] مجموع فتاوى اللجنة الدائمة (2/340) (العقيدة، توحيد الأسماء والصفات).


1 ـ «السُّنَّة»، لأبي بكر الخلال.
2 ـ «السُّنَّة»، لعبد الله بن أحمد بن حنبل.
3 ـ «شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة»، للالكائي.
4 ـ «منهاج السُّنَّة النبوية»، لابن تيمية.
5 ـ «الأحكام السلطانية»، لأبي يعلى الفراء.
6 ـ «الأحكام السلطانية»، للماوردي.
7 ـ «مفتاح دار السعادة»، لابن القيِّم.
8 ـ «شرح العقيدة الطحاوية»، لابن أبي العز الحنفي.