حرف الخاء / الخَلْق

           

قال ابن فارس: «الخاء واللام والقاف أصلان: أحدهما: تقدير الشيء، والآخر: مَلاسَة الشيء.
فأمّا الأوّل: فقولهم: خَلَقْت الأديم للسِّقاء، إذا قَدَّرْتَه وقال زهير:
ولأَنْت تَفْرِي[1] ما خلَقْت وبَعــضُ القَوم يخلُق ثمَّ لا يَفْرِي
والخلق: خلق الكذب وهو اختلاقه واختراعه وتقديره في النفس {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت: 17] . وأمّا الأصل الثاني: فصخرة خَلْقَاء؛ أي: مَلْساء»[2].
«والْخَلْقُ في كلام العرب: ابتداعُ الشيء على مثالٍ لم يُسْبَقُ إليْه. وقال أَبُو بَكْرِ بْنُ الأنْبَارِيِّ: الْخَلْقُ في كلام العرب على ضربين، أحدهما: الإنشاء على مثالٍ أبدعه، والآخر: التقدير»[3].
فالخلق في اللغة يطلق على المصدر بمعنى: التقدير، والإنشاء، والإيجاد، والإبداع، وقد يراد به المخلوق.


[1] يقول الأزهري في تفسير هذا البيت: «يمدح رجلاً فيقول له: أنت إذا قدرت أمرًا قطعته وأمضيته، وغيرك يقدر ما لا يقطعه؛ لأنه غير ماضي العزم، وأنت مضاء على ما عزمت عليه». تهذيب اللغة (7/16) [دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 2001م].
[2] مقاييس اللغة (2/213 ـ 214) [دار الجيل، ط2].
[3] تهذيب اللغة (7/16) [دار إحياء التراث العربي، ط1، 2001م]، وينظر: الصحاح (314) [دار المعرفة، بيروت، ط1، 1426هـ].


الخلق: وصف لله ذاتي فعلي و«هو إبداع الكائنات من العدم»[1].
العلاقة بين المعنى اللغوي والشرعي:
الخلق في اللغة يأتي بمعنى الإيجاد والإبداع تارة، ويأتي بمعنى التقدير تارة أخرى، والمعنى الشرعي موافق لهذا غير أن الشارع قيده فجعل الإيجاد خاصًّا بالله تعالى؛ لأنه لا يمكن للخلق جميعًا أن يوجدوا مخلوقًا مهما كان ضعيفًا ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا، قال الله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر: 3] ، وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ *} [الحج] وأما التقدير فيوصف به المخلوق كما في قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ *} [المؤمنون] ؛ أي: أحسن المقدرين[2]. وقوله تعالى: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت: 17] .
كما أن الخلق يطلق لغة وشرعًا بمعنى المخلوق.


[1] مجموع الفتاوى (6/357) [مكتبة النهضة الحديثة، 1404هـ].
[2] انظر: تفسير الآية في أضواء البيان (5/325، و6/8) [دار الفكر، 1415هـ].


الفطر، والإيجاد.



الخلق: صفة لله ذاتية فعلية فيجب الإيمان بها لدلالة نصوص الكتاب والسُّنَّة عليها.



إن صفة الخلق تتضمن إبداع الكائنات وإخراجها من العدم إلى الوجود، واختراعها، وأن ذلك إليه وحده سبحانه بلا شريك ولا معين.
كما يتضمن الخلق معنى التقدير[1].


[1] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (6/357)، وبغية المرتاد لابن تيمية (240)، وبدائع الفوائد (4/943).


دلَّت النصوص على إثبات صفة الخَلْق لله سبحانه؛ منها: قول الله تعالى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف: 54] ، وقال الله سبحانه: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىءُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الحشر: 24] ، وقوله عزّ وجل: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ *} [يونس] .
ومن السُّنَّة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: قال الله عزّ وجل ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة أو شعيرة»[1].
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: « لما خلق الله الخلق كتب في كتابه ـ وهو يكتب على نفسه، وهو وضع عنده على العرش ـ إن رحمتي تغلب غضبي»[2].


[1] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، رقم 7559)، ومسلم (كتاب اللباس والزينة، رقم 2111).
[2] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، رقم 7404)، ومسلم (كتاب التوبة، رقم 2751).


من عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة الإيمان بأن الله خالق الموجودات، وأنه متصف بصفات الكمال المطلق أزلاً وأبدًا، ومنها اتصافه بصفة الخلق؛ لأنه تعالى فعّال لما يريد فالخلْق صفته والمخلوق مفعوله فهو سبحانه يتصف بفعله وخلقه لا بمفعولاته ومخلوقاته.
قال البخاري: «وقال أهل العلم: التخليق فعل الله وأفاعيلنا مخلوقة؛ لقوله تعالى: {وأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك] ؛ يعني: السر والجهر من القول، ففعل الله، صفة الله، والمفعول غيره من الخلق»[1].
وقال ابن منده: «ولم يزل موصوفًا بالخالق البارئ المصور قبل الخلق، بمعنى: أنه يخلق ويصور»[2].
وقال ابن تيمية: «ومذهب الجمهور أن الخلْق غير المخلوق، فالخلق فعل الله القائم به، والمخلوق هو المخلوقات المنفصلة عنه»[3].
وقال أيضًا: «فإنه لا يتصف بمخلوقاته ومفعولاته وإنما يتصف بخلقه وفعله كما يتصف بسائر ما يقوم بذاته»[4].


[1] خلق أفعال العباد للبخاري (2/299 ـ 30) [دار أطلس الخضراء، ط1، 1425هـ].
[2] التوحيد لابن منده (2/76) [مطابع الجامعة الإسلامية، ط1، 1409هـ]. وانظر: قطف الجنى الداني شرح رسالة أبي زيد القيرواني ضمن كتب ورسائل عبد المحسن العباد (4/93) [دار التوحيد، ط1، 1428هـ].
[3] مجموع الفتاوى (12/436) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف، 1425هـ].
[4] المصدر السابق (2/118 ـ 119).


المسألة الأولى: من أسماء الله الحسنى (الخالق):
فهو اسم من أسماء الله الحسنى دلَّ عليه الكتاب والسُّنَّة.
فمن الكتاب: قول الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىءُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الحشر: 24] .
ومن السُّنَّة: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه؛ أنه قال: «غلا السعر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله لو سعَّرْت فقال: إن الله هو الخالق القابض الباسط الرّزّاق المسعِّر، وإني لأرجو أن ألقى الله ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال»[1].
المسألة الثانية: من أسماء الله الحسنى (الخلاّق):
فهو اسم من أسماء الله الثابتة له تبارك وتعالى في كتابه العزيز، قال الله سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ *} [الحجر] . والخلاق صيغة مبالغة في الخلق[2].
المسألة الثالثة: اختلف العلماء في عدِّ {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ *} وغيره من الأسماء المضافة وأسماء أفعل التفضيل اسمًا لله تعالى على قولين:
فذهب جمع من أهل العلم إلى اعتبار الأسماء المضافة وأسماء أفعل التفضيل وعدِّها من ضمن الأسماء الحسنى[3]، وممَّن عدَّه ابن الوزير[4]، قال شيخ الإسلام: «ترتيب أسماء الله سبحانه وتعالى الظاهرة نحو مائة وخمسين موجودة في كتاب الله: مفردة، ومفرقة، ومضافة، ومشبهة بالمضافة»[5]، وقال: «ومن أسمائه التي ليست في التسعة والتسعين: اسمه السبوح وكذلك أسماؤه المضافه مثل: أرحم الراحمين، وخير الغافرين، ورب العالمين، ومالك يوم الدين، وأحسن الخالقين، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، ومقلب القلوب، وغير ذلك مما ثبت في الكتاب والسُّنَّة، وثبت الدعاء بها بإجماع المسلمين»[6].
وأغلب من عدَّ أسماء الله تعالى لم يذكر هذه الأسماء ضمن أسماء الله تعالى بل عدُّوها صفات لله تعالى، فقالوا: أحسن الخالقين صفة وليس اسمًا[7].
وقد استدل من أثبت هذا الاسم بوروده في الكتاب والسُّنَّة؛ قال تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ *} [المؤمنون] ، وقال تعالى: {أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ *} [الصافات] .
ومن السُّنَّة: حديث علي رضي الله عنه؛ أنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قام إلى الصلاة كبَّر وإذا سجد قال: «اللَّهُمَّ لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه، وصوره، وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين»[8].
وجاء اسم {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ *} مدعوًّا به فيما أخرجه اللالكائي بإسناده عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: «إذا مكثت النطفة في رحم المرأة أربعين ليلة جاءها الملك فاختلجها، ثم عرج بها إلى الرحمن تبارك وتعالى ، فيقول: اخلقها يا أحسن الخالقين»[9].
المسألة الرابعة: الخلق غير المخلوق:
قال ابن تيمية رحمه الله: «ومذهب الجمهور أن الخلْق غير المخلوق فالخلْق فعل الله القائم به، والمخلوق هو المخلوقات المنفصلة عنه»[10].
وقال أيضًا: «والذي عليه جماهير المسلمين من السلف والخلف أن الخلْق غير المخلوق؛ فالخلق فعل الخالق، والمخلوق مفعوله؛ ولهذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يستعيذ بأفعال الرب وصفاته كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» [11]، فاستعاذ بمعافاته كما استعاذ برضاه»[12].
وقال أيضًا: «والله تعالى لا يوصف بشيء من مخلوقاته؛ بل صفاته قائمة بذاته، وهذا مطرد على أصول السلف وجمهور المسلمين من أهل السُّنَّة وغيرهم ويقولون: إن خلق الله للسماوات والأرض ليس هو نفس السماوات والأرض؛ بل الخلق غير المخلوق لا سيما مذهب السلف والأئمة وأهل السُّنَّة الذين وافقوهم على إثبات صفات الله وأفعاله»[13].
وقال أيضًا: «فإنه لا يتصف بمخلوقاته ومفعولاته وإنما يتصف بخلقه وفعله كما يتصف بسائر ما يقوم بذاته»[14].
المسألة الخامسة: إطلاق الخلق على غير الله:
ورد في «صحيح البخاري»: «ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا حبة» [15] الحديث.
وقد ذكر بعض أهل العلم جواز إطلاق الخلق على غير الله تعالى، ولكن معناه مما يناسب المخلوق، ولله تعالى ما يختص به من الأسماء والصفات ومعانيها[16].


[1] أخرجه بهذا اللفظ: أحمد (20/46) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والدارمي (كتاب البيوع، رقم 2587)، وابن حبان (كتاب البيوع، رقم 4935)، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع (رقم 1846). وأصل الحديث عند أبي داود (كتاب البيوع، رقم 3451) وغيره، دون ذكر لفظة: (الخالق) في متنه.
[2] انظر: تعليق الشيخ علي فقيهي على كتاب التوحيد لابن منده (2/116) [مطابع الجامعة الإسلامية، ط1].
[3] انظر ترجيح هذا القول في: مجموع الفتاوى (22/485)، والمواقف (3/313) [دار الجيل، ط1، 1997م]، والقواعد المثلى (16) [دار ابن القيم، ط1، 1406هـ]، والمنهاج الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى (66 ـ 67) [مكتبة العواصم، ط10، 1422هـ].
[4] إيثار الحق على الخلق (159) [دار الكتب العلمية، ط2، 1987م]، وأثبته من المعاصرين الشيخ عبد الرحمن البراك فقال في شرح الواسطية (81) [شرح صوتي مفرّغ ولم يطبع] فقال: «لكن يمكن أن يقال: إن من أسمائه أنه تعالى أحسن الخالقين، وأنه خير الراحمين... فهل يقال لأحد: إنه أرحم الراحمين، إلا هو، وهل يقال لأحد: إنه خير الرازقين إلا الله، فهذا كله ألفاظ تختص بالرب سبحانه وتعالى فيمكن أن يدعى بها تقول: يا خير الراحمين، يا خير الرازقين».
[5] المستدرك على مجموع فتاوى ابن تيمية (1/34) [ط1، 1418هـ].
[6] مجموع الفتاوى (2/491 ـ 493)، وانظر منه: (16/449)، ومختصر الفتاوى المصرية (1/95) [دار ابن القيم، 1406هـ]، والنبوات له (241) [المطبعة السلفية، القاهرة، 1386هـ].
[7] انظر: أسماء الله الحسنى الثابتة في الكتاب والسُّنَّة (61) [مكتبة سلسبيل، ط1، 1426هـ].
[8] أخرجه مسلم (كتاب صلاة المسافرين وقصرها، رقم 771).
[9] أخرجه اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (4/675، رقم 1236) [دار طيبة، ط2، 1411هـ].
[10] مجموع الفتاوى (12/436).
[11] أخرجه مسلم (كتاب الصلاة، رقم 486).
[12] مجموع الفتاوى (6/229).
[13] مجموع الفتاوى (8/126).
[14] المصدر السابق (2/118 ـ 119).
[15] تقدم تخريجه في الأدلة.
[16] انظر: القول المفيد لابن عثيمين (2/324).


الفرق بين الفطر والفعل:
«الفطر إظهار الحادث بإخراجه من العدم إلى الوجود كأنه شق عنه فظهر، وأصل الباب الشق ومع الشق الظهور ومن ثمّ قيل: تفطر الشجر إذا تشقق بالورق، وفطرت الإناء: شققته، وفطر الله الخلق أظهرهم بإيجاده إياهم كما يظهر الورق إذا تفطر عنه الشجر، ففي الفطر معنى ليس في الفعل وهو الإظهار بالإخراج إلى الوجود قبل ما لا يستعمل فيه الظهور ولا يستعمل فيه الوجود»[1].
الفرق بين الخالق وبين الفاطر والرب:
«الخلق عبارة عن التقدير، وهو في حق الله تعالى عبارة عن علمه النافذ في جميع الكليات والجزئيات، وأما كونه فاطرًا فهو عبارة عن الإيجاد والإبداع، فكونه تعالى خالقًا إشارة إلى صفة العلم، وكونه فاطرًا إشارة إلى صفة القدرة، وكونه تعالى ربًّا ومربّيًا على الأمرين فكان ذلك أكمل»[2].


[1] الفروق اللغوية للعسكري (407) [مؤسسة النشر الإسلامي، ط1].
[2] اللباب في علوم الكتاب لابن عادل (8/7) [دار الكتب العلمية، ط1، 1419هـ].


1 ـ تعميق الإيمان بتوحيد الربوبية، بأن الله تعالى خالق كل شيء، ومالكه، ومدبر أموره، وأن إيجاده للمخلوقات على أبدع ما يكون وأحكم وأتقن.
2 ـ الإيمان بالمعاد؛ بأن الذي فطر ابتداء قادر على البعث والإعادة.
3 ـ التفكر في خلق الله تعالى المحكم، وصنعه المتقن، بما يجعل العبد معظِّمًا لربِّه، معلق القلب به.
4 ـ تحقيق توحيد الألوهية الدال عليه فطر الله تعالى للسماوات والأرض وسائر المخلوقات؛ فهو المستحق للعبادة وحده دونما سواه؛ لما له من صفات الكمال والجلال، وأفعال الحمد والإحكام.
5 ـ الردُّ على الشبه التي يوردها المبطلون على توحيد الربوبية والألوهية؛ بأننا وهذه المخلوقات التي نشاهدها موجودون على غاية الإتقان في الإيجاد والتصوير، وهذا مستلزم أن يوَحَّد فاطرها في العبادة.



1 ـ أن العبد حينما يعتقد أن الله هو الذي خلق السماوات والأرض، وما اشتملتا عليه من المخلوقات، يستشعر كمال قدرته، وسعة ملكه، وعموم رحمته، وبديع حكمته، وإحاطة علمه، فيزداد لربِّه محبة وتوكلاً عليه وطلبًا لهدايته، ويبرأ من كل ما يعبد من دون الله كما قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَِبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ *إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ *} [الزخرف] .
2 ـ وكذلك يُسلم وجهه لربِّه فيخلص عمله له، كما قال تعالى: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ *} [الأنعام] . وكما في دعاء الاستفتاح في الصلاة، ويحمد الله تعالى كما حمد سبحانه نفسه فله الحمد فاطر السماوات والأرض.
كما أنه لا يشك ولا يرتاب في ربِّه كفعل المشركين الذين جادلوا رسلهم؛ بل هو على يقين بربوبيته وألوهيته.
3 ـ وعلى العبد ألا يتخذ وليًّا من دون الله الذي فطره والذي يطعمه ويسقيه، وهو منزه عن الطعام والشراب؛ بل يتخذه وليًّا فهو نعم المولى والولي ونعم النصير؛ كدأب الرسل عليهم السلام، كما قال يوسف عليه السلام: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [يوسف: 101] .
4 ـ الاقتداء برسول الله في توسله بفاطر السماوات والأرض، فيتوسل به لأن يهديه الله لما اختلف فيه من الحق بإذنه؛ فإن الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ويتوسل به بأن يعيذه من شرور نفسه من رياء وشرك وحقد وحسد وغيرها من الشرور، ومن شر الشيطان وشركه.
5 ـ الموافقة الظاهرة لكل عاقل بين ما أنزله الله تعالى وشرعه على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام والفطرة التي يجدها كل إنسان في نفسه مما فيه أبين الدلالة على صدق ما جاء به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم.



1 ـ يرى كثير من طوائف المتكلمين أن الخلق هو المخلوق، وبعضهم يرى أنه معنى آخر غير المخلوق كالإرادة مثلاً، وليس الخلق ـ بزعمهم ـ صفة قائمة بذات الرب، يقول الجويني: «ولا ترجع من الخلق صفة متحققة إلى الذات، فلا يدل الخالق إلا على إثبات الخلق، ولذلك قال أئمتنا: لا يتصف الباري تعالى في أزله بكونه خالقًا، إذ لا خلق في الأزل، ولو وصف بذلك على معنى أنه قادر كان تجوُّزًا»[1]. والماتريدية يجعلون الخلق من متعلقات التكوين، وليس صفة حقيقية تعود على الذات بمعنى[2]. أما المعتزلة فمذهبهم نفي الصفات ومنها الخلق، واختلفوا في معنى الخلق، هل هو المخلوق أم إرادة الشيء، على قولين[3]. وقد ذكر شيخ الإسلام والإمام ابن القيِّم شبهة المتكلمين في ذلك، وردُّوا عليهم[4].
وقد بيَّن ابن تيمية المذهب الصحيح بقوله: «وأما جمهور الفقهاء، وأهل الحديث، والصوفية، وطوائف من أهل الكلام، فيقولون: إن الفعل نفسه والخلق من صفاته، ولكن المخلوق ليس من صفاته»[5].
وفي التفريق بين الخلق والمخلوق يقول البخاري: «باب ما جاء في تخليق السماوات والأرض وغيرهما من الخلائق، وهو فعل الرب تبارك وتعالى وأمره، فالرب بصفاته وفعله وأمره وهو الخالق المكون غير مخلوق، وما كان بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه فهو مفعول مخلوق مكون»[6].
وقال ابن تيمية: «لفظ الخلق المراد به الفعل الذي يسمى المصدر، كما يقال: خلق يخلق خلقًا؛ كقوله عزّ وجل: {مَا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28] ، وقوله: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر: 6] ، وقوله: {مَا أَشْهَدْتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} [الكهف: 51] وليس الكلام في لفظ خلق المراد به المخلوق ومنه قوله: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان: 11] »[7].
وأما قول الفلاسفة في الخلق فيقول ابن سينا: «حد الخلق: هو اسم مشترك، فيقال: خلق لإفادة وجود كيف كان، ويقال: خلق لإفادة وجود حاصل عن مادة وصورة كيف كان، ويقال: خلق لهذا المعنى الثاني، بعد أن يكون لم يتقدمه وجود بالقوة؛ كتلازم المادة والصورة في الوجود»[8].
وبتأمل معاني الخلق التي ذكرها ابن سينا، والغزالي على أنها حد للخلق عند الفلاسفة، نجد أنها مبهمة، ليس فيها توضيح لمعنى الخلق؛ بل فيها أن الخلق؛ يعني: إفادة الوجود، دون سبق بالعدم، أو ذكر للخالق، وهذا ظاهر البطلان. فهم يريدون بخلق الملائكة وهي التي يسمونها العقول والنفوس، أنها صادرة عن الله ومعلولة له، والمعلول ملازم للعلة غير متأخر عنها، فهي ليست مخلوقة ومسبوقة بالعدم، وهذا مناقض لما ورد عن خلق الملائكة في الكتاب والسُّنَّة.
ومن وجوه الرد على الفلاسفة في تحريفهم لمعنى لفظ الخلق ما يلي:
أولاً: أن القرآن والتوراة قد نصَّا أنه سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وتواترت بذلك الأحاديث، ثم اتفق عليه أهل الملل، فكيف يجوز أن يفسر بالاختراع اللازم لذاته من غير سبق مادة؟ كما ذكروه في المعنى الثالث[9].
ثانيًا: أن لفظ الخلق المذكور في القرآن، يتضمن معنيين، كلاهما يناقض قولهم، يتضمن الإبداع والإنشاء المعروف، ويتضمن التقدير، وعندهم العقول والنفوس ليس لها مقدار، ولا هي أيضًا مبدعة الإبداع المعروف، والسماوات ليست مبدعة الإبداع المعروف، وقد قال عزّ وجل: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا *} [الفرقان] [10].
ثالثًا: أن المعنى الثاني وهو قولهم: «يقال: خلق لإفادة وجود حاصل عن مادة وصورة كيف كان»؛ يشير إلى قولهم بقدم المادة وهو قول باطل، وينفي صفة الخلق عن الله، وهذا تضليل بيِّن، وتحريف ظاهر، يريدون به ستر قولهم بأن العالم قديم؛ يعني: غير مخلوق الخلق المعروف.
2 ـ أن معرفة الله عزّ وجل من الأمور التي فطر الله عزّ وجل الناس عليها، فمعرفته سبحانه مركوزة في النفس الإنسانية، منذ أخذ الله الميثاق والعهد على بني آدم لما أخرجهم من ظهر أبيهم آدم عليه السلام، ووجوده سبحانه لا يحتاج إلى دليل، فهو أظهر من الشمس في رابعة النهار، فهو فاطر السماء والأرض، لذلك قالت الرسل لأقوامها: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}؟ [إبراهيم: 10] إلا أن الجهمية ومن سار على نهجهم من المعتزلة والأشاعرة والماتريدية ـ متأثرين بالفلاسفة ـ خالفوا ذلك، ووضعوا أصولاً وسنُّوا قوانين لإثبات وجود الخالق مثل دليل حدوث الأجسام والأعراض وغيرها[11]. وجعلوا النظر في ذلك أوجب الواجبات وأولها، ويكفي لبطلانها أنها أصول وقواعد جرَّتهم إلى نفي صفات الله تعالى، ولوازم فاسدة، ومخالفة لطريق الرسل وسلف الأمة، فصعَّبوا ما هو سهل ومعروف لدى العام والخاص؛ إذ إن «وجوده سبحانه وربوبيته وقدرته أظهر من كل شيء على الإطلاق، فهو أظهر للبصائر من الشمس للأبصار، وأبين للعقول من كل ما تعقله وتقر بوجوده، فما ينكره إلا مكابر بلسانه وقلبه وعقله وفطرته وكلها تكذبه»[12].
ويقول ابن القيِّم رحمه الله: «فأما الاستدلال بالصنعة فكثير، وأما الاستدلال بالصانع فله شأن وهو الذي أشارت إليه الرسل بقولهم لأممهم: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ}؟ [إبراهيم: 10] . حتى يطلب إقامة الدليل على وجوده وأي دليل أصح وأظهر من هذا المدلول فكيف يستدل على الأظهر بالأخفى ثم نبهوا على الدليل بقولهم: فاطر السماوات والأرض. وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية ـ قدس الله روحه ـ يقول: كيف يطلب الدليل على من هو دليل على كل شيء!؟ وكان كثيرًا ما يتمثل بهذا البيت:
وليس يصح في الأذهان شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل
ومعلوم أن وجود الرب تعالى أظهر للعقول والفطر من وجود النهار ومن لم ير ذلك في عقله وفطرته فليتهمها»[13].


[1] الإرشاد (143)، وانظر: الأسماء والصفات (138) [دار الكتب العلمية].
[2] انظر: شرح الفقه الأكبر (35) [دار الكتب العلمية، 1404هـ].
[3] مقالات الإسلاميين (2/51 ـ 52) [مكتبة النهضة المصرية، ط2، 1389هـ].
[4] انظر: مجموع الفتاوى (5/528 ـ 536)، ومجموعة الرسائل (5/322) [دار الكتب العلمية، ط1، 1403هـ]، وشفاء العليل (153) [مكتبة الرياض الحديثة، ط1].
[5] بيان تلبيس الجهمية (1/546) [مؤسسة قرطبة]، وانظر: الاستقامة (1/183) [مكتبة ابن تيمية].
[6] فتح الباري (13/447) [دار الفكر]، وانظر: خلق أفعال العباد 188) [الدار السلفية، ط1، 1405هـ].
[7] بيان تلبيس الجهمية (1/546).
[8] الحدود لابن سينا ضمن كتاب المصطلح الفلسفي عند العرب (262) [المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2، 1997م]، وانظر: معيار العلم (284) [دار الكتب العلمية، ط1، 1410هـ].
[9] انظر: بغية المرتاد (239).
[10] انظر: بغية المرتاد (240 ـ 241)، والصفدية (1/240).
[11] انظر أقوالهم والرد عليها في: الأصول التي بنى عليها المبتدعة مذهبهم في نفي صفات الله عزّ وجل والرد عليها من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية (ج1 و2 و3) لعبد القادر عطا صوفي [أضواء السلف، ط2، 1426هـ].
[12] مفتاح دار السعادة (1/212)، وانظر: شفاء العليل (253) [دار الفكر].
[13] مدارج السالكين (1/60).


1 ـ «مجموع الفتاوى» (ج2، 6، 8، 12)، لابن تيمية.
2 ـ «النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى» (ج1)، لمحمد النجدي.
3 ـ «صفات الله عزّ وجل الواردة في الكتاب والسُّنَّة»، لعلوي السقاف.
4 ـ «معتقد أهل السُّنَّة والجماعة في أسماء الله الحسنى»، لمحمد بن خليفة بن علي التميمي.
5 ـ «المنهاج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى» (ج1)، لمحمد زين.
6 ـ «الألفاظ والمصطلحات المتعلقة بتوحيد الربوبية»، لآمال العمرو [رسالة دكتوراه].
7 ـ «خلق أفعال العباد»، للبخاري.
8 ـ «شرح الطحاوية»، لابن أبي العز.
9 ـ «الحجة في بيان المحجة»، لقوام السُّنَّة الأصبهاني.
10 ـ «القواعد المثلى»، لابن عثيمين.