حرف الدال / داود عليه السلام

           

هو: داود عبد الله ونبيّه عليه السلام[1]، وخليفته في أرضه بيت المقدس، قيل هو: ابن إيشا بن عويد بن باعز بن سلمون بن نحشون بن عويناذب بن إرم بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحق ابن إبراهيم الخليل[2]. وقيل: هو إيشا بن عوفيذ بن باعز بن سلمون بن نحشون بن عمينوذب بن رام بن حصرون بن فارض بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق[3].


[1] صحيح قصص الأنبياء لابن كثير، للهلالي (405) [دار غراس، ط1، 1422هـ].
[2] انظر: قصص الأنبياء لابن كثير (2/265) [مطبعة دار التأليف، القاهرة، ط1]، والبداية والنهاية (2/300) [دار هجر، ط1]، وقصص الأنبياء ومناقب القبائل من التوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن (213) [المكتبة المكية، ومؤسسة الريان، ط1، 1418هـ].
[3] الكامل في التاريخ لابن الأثير (1/169) [دار الكتب العلمية، ط2، 1415هـ].


ذكر الله نبوة داود عليه السلام بقوله: {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} [البقرة: 251] ، وبقوله: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ *} [ص] ، فالمراد بالحكمة هنا النبوة[1]، وهكذا جمع الله له بين النبوة والملك.
وبقوله سبحانه: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] .


[1] انظر: تفسير الطبري (4/513) [دار هجر، ط1]، وتفسير ابن كثير (1/669، و7/59) [دار طيبة، ط2]، وقصص الأنبياء لعبد الوهاب النجار (311) [دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط3].


لقد أيد الله نبيَّه داود عليه السلام، وأكرمه بجملة من الدلائل البينة والمعجزات الباهرة على نبوته، وهي: تسخير الجبال، وحشر الطيور للتسبيح معه في أول النهار وآخره، وتليين الحديد له، قال الله تعالى: {...وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ *وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ *} [ص] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ *} [سبأ] .



لقد أنزل الله عزّ وجل على نبيِّه داود عليه السلام كتابه الزبور، وقد جاء ذكره في كتاب الله مرتين:
الأولى: في قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا *} [النساء]
والثانية: في قوله سبحانه: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعَضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا *} [الإسراء] .
وقد جاء في السُّنَّة ما يبين تحديد وقت نزوله، فعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «نزلت صحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان، وأنزلت التوراة لستٍّ مضين من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة مضت من رمضان، وأنزل الزبور لثمان عشرة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان» [1]. والزبور كان مشتملاً على حكم ومواعظ[2]


[1] أخرجه أحمد (28/191، رقم 16984) [مؤسسة الرسالة، ط2]، والطبراني في المعجم الأوسط (4/111) [دار الحرمين، القاهرة، 1415هـ] واللفظ له، وقال الهيثمي في المجمع (1/197) [مكتبة القدسي]: «فيه عمران بن داور القطان، ضعفه يحيى، ووثقه ابن حبان، وقال أحمد: أرجو أن يكون صالح الحديث، وبقية رجاله ثقات»، وحسَّنه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 1575).
[2] تفسير القرطبي (6/17) [دار الكتب المصرية، القاهرة، ط2، 1384هـ].


توفي نبي الله داود عليه السلام بعد أن أكمل مائة عام، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لما خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصًا من نور، ثم عرضهم على آدم فقال: أي رب من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلاً منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال: أي رب من هذا؟ فقال: هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له: داود، فقال: رب كم جعلت عمره؟ قال: ستين سنة، قال: أي رب زده من عمري أربعين سنة. فلما قضي عمر آدم جاءه ملك الموت، فقال: أولم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أَوَلم تعطها ابنك داود؟ قال: فجحد آدم فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت ذريته»[1].
وجاء في كيفية وفاته حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كان داود النبي فيه غيرة شديدة، وكان إذا خرج أغلقت الأبواب، فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع... فخرج ذات يوم، وأغلقت الدار، فأقبلت امرأته تطلع إلى الدار، فإذا رجل قائم وسط الدار، فقالت لمن في البيت: من أين دخل هذا الرجل الدار، والدار مغلقة؟ والله لتفتضحن بداود، فجاء داود فإذا الرجل قائم وسط الدار، فقال له داود: من أنت؟ قال: أنا الذي لا أهاب الملوك، ولا يمتنع مني الحجاب، فقال داود: أنت والله إذن ملك الموت، مرحبًا بأمر الله، فرمل داود مكانه حيث قبضت روحه حتى فرغ من شأنه، وطلعت عليه الشمس، فقال سليمان للطير: أظلي على داود، فأظلت عليه الطير حتى أظلمت عليهم الأرض، فقال لها سليمان: اقبضي جناحًا جناحًا»[2].


[1] أخرجه الترمذي (أبواب تفسير القرآن، رقم 3076)، وقال: حسن صحيح، والحاكم في المستدرك (كتاب التفسير، رقم 3257) وصحَّحه، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع (رقم 5208).
[2] أخرجه أحمد (15/254، رقم 9432) [مؤسسة الرسالة، ط1]، قال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء (ص1843) أخرجه أحمد بإسناد جيد، وقال ابن كثير: «إسناده جيد». البداية والنهاية (2/320) [دار هجر، ط1].


المسألة الأولى: نبأ الخصم:
لقد نسجت حول هذه القصة حكايات غريبة نسبت إلى نبي الله داود عليه السلام، وهي لا تليق بحالٍ بمقام الأنبياء عليهم السلام؛ إذ فيها غمز ولمز بهذا النبي الكريم، ولقد أجاد الإمام ابن كثير إجادة عظيمة حين قال: «وقد ذكر كثير من المفسرين من السلف والخلف هاهنا قصصًا وأخبارًا أكثرها إسرائيليات، ومنها ما هو مكذوب لا محالة، تركنا إيرادها في كتابنا قصدًا؛ اكتفاءً واقتصارًا على مجرد تلاوة القصة من القرآن العظيم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم»[1].
وعليه؛ فأسعد الناس بالصواب من اكتفى باستقاء القصة من قوله عزّ وجل: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ *إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ *إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ *قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ *فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ *} [ص] .
وأصح ما في قصة الآية ـ الذي عليه الجمهور ـ ملخصه: أن ملكين من الملائكة تسورا المحراب على داود عليه السلام دون علمه بهما، وأتياه على هيئة الخصمين، فسأله أحدهما من باب الفتنة والاختبار؛ أيجيب ويحكم قبل أن يستمع إلى الطرف الثاني أم لا؟ وذكر له أن صاحبه ظلمه بطلب نعجته الواحدة، فأجاب قبل أن يسمع من الطرف الآخر، فاختفيا عنه، فعلم داود عليه السلام أنهما ملكان أرادا اختباره فاستغفر ربه وخرَّ راكعًا وأناب.
وهناك احتمال آخر لتفسير هذه الفتنة، يلي التفسير السابق في القوة، وهو أنهما رجلان من بني آدم، دخلا عليه مباغتة فشكا إليه أحدهما ظلم صاحبه إياه في النعاج، فحكم قبل أن يستمع من الطرف الثاني، فعوتب داود على هذا الصنيع وكان عليه أن يستمع من الطرفين، فاستغفر ربه فغفر له[2].
المسألة الثانية: قتله لجالوت:
كان جالوت رجلاً قد أعطي بسطة في الجسم، وقوة في البطش، وشدة في الحرب، مذكورًا بذلك في الناس، وكان ملك العمالقة، وكانت بنو إسرائيل تقاتلهم، ثم ظهر جالوت وقومه على بني إسرائيل، فضربوا عليهم الجزية، وأخذوا توراتهم، وكانت بنو إسرائيل يسألون الله أن يبعث لهم نبيًّا ليجاهدوا معه في سبيل الله جالوتَ وجنودَه[3]، وتقدم ملأ منهم بطلب إلى نبي لهم من بعد موسى أن يبعث لهما ملكًا يقاتلون معه، وأعطوه عهودًا ومواثيقَ على الوفاء بذلك، فبعث الله لهم طالوت ملكًا، فنكث كثير منهم عن عهده في القتال معه، متشبثين ببعض الاعتراضات الواهية، ولم يثبت منهم معه إلا عدد قليل[4]، عددهم كعدد أصحاب بدر[5]، وكان من هؤلاء الثابتين نبي الله داود عليه السلام، وذلك قبل نبوته، فشرعوا مستعينين بالله في الجهاد في سبيل الله، فقتل داودُ جالوتَ ملك الكفار فهُزموا، كما أخبر الله تعالى بقوله: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ *فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ *} [البقرة] .
قال السمعاني: «فبرز جالوت وطلب البِراز، وخرج إليه داود، ورماه بالمقلاع الحجرَ بين عينيه، وخرج من قفاه، وأصاب قومًا آخرين وقتلهم»[6]
المسألة الثالثة: في جملة من فضائله وأحواله:
أ ـ أنه كان أعبد البشر:
فقد جاء من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا ذكر داود يحدث عنه قال: «كان أعبد البشر»[7].
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال له: «أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام ، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، ويصوم يومًا ويفطر يومًا»[8].
ب ـ كان جميل الصوت في قراءة الزبور:
فقد كان مضرب المثل في حسن الصوت في قراءة القرآن، لما ثبت من حديث أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال له: «يا أبا موسى؛ لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود»[9].
ج ـ تخفيف قراءة الزبور عليه:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «خُفف على داود عليه السلام القرآن، فكان يأمر بدوابه فتسرج، فيقرأ القرآن قبل أن تسرج دوابه»[10].
والمراد بالقرآن هنا مصدر القراءة، لا القرآن الكريم[11].
د ـ أنه كان يأكل من عمل يده:
فعن المقدام رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده»[12].


[1] البداية والنهاية (2/309).
[2] انظر: فبهداهم اقتده قراءة تأصيلية في سير وقصص الأنبياء عليهم السلام لعثمان الخميس (298 ـ 299) [دار إيلاف الدولية، ط1، 1431هـ].
[3] انظر: تفسير الطبري (4/441، و462).
[4] راجع الآيات: من (146 ـ 149) من سورة البقرة.
[5] انظر: صحيح البخاري (كتاب المغازي، الأرقام: 3957، 3958، 3959).
[6] تفسير السمعاني (1/254) [دار الوطن، الرياض، ط1، 1418هـ].
[7] أخرجه الترمذي (أبواب الدعوات، رقم 3490) وحسَّنه، وأخرجه البزار، كشف الأستار (3/105) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/206): رواه البزار وفيه حديث طويل وإسناده حسن. انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/324، رقم 707).
[8] أخرجه البخاري (كتاب التهجد، رقم 1131)، ومسلم (كتاب الصيام، رقم 1159).
[9] أخرجه البخاري (كتاب فضائل القرآن، رقم 5048)، ومسلم (كتاب صلاة المسافرين وقصرها، رقم 793).
[10] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3417).
[11] انظر: فتح الباري لابن حجر (8/397).
[12] أخرجه البخاري (كتاب البيوع، رقم 2072).


1 ـ «تفسير الطبري» (ج4).
2 ـ «قصص الأنبياء المسمى بالعرائس»، للثعلبي.
3 ـ «تفسير القرطبي» (ج6).
4 ـ «تفسير ابن كثير» (ج1).
5 ـ «قصص الأنبياء» (ج2)، لابن كثير.
6 ـ «صحيح (قصص الأنبياء) لابن كثير»، لسليم الهلالي.