الاستسقاء بالأنواء مصطلح مركب من كلمتين هما:
1 ـ الاستسقاء: وهو استفعال من طلب السقيا، والاسم السُّقيا بالضم، يقال: استسقيت فلانًا؛ إذا طلبت منه أن يسقيك.
2 ـ الأنواء: هي النجوم واحدها نوء، قيل: إنما سمي نوءًا؛ لأنه إذا سقط الساقط منها بالمغرب ناء الطالع بالمشرق، ينُوء نوءًا؛ أي: نهض وطلع، وذلك النهوض هو النَّوْء، فسُمِّي النجم به.
قال أبو عبيد: «الأنواء، ثمانية وعشرون نجمًا معروفة المطالع في أزمنة السنة كلها من الصيف والشتاء والربيع والخريف، يسقط منها في كل ثلاث عشرة ليلة نجم في المغرب مع طلوع الفجر ويطلع آخر يقابله في المشرق من ساعته، وكلاهما معلوم مسمًّى»[1].
[1] تهذيب اللغة (5/232)، وانظر: لسان العرب (1/174).
الاستسقاء بالأنواء هو: طلب السُّقيا من النجوم أو نسبة ذلك بعد وقوعه إليها.
قال سليمان بن عبد الله: «المراد نسبة السقيا ومجيء المطر إلى الأنواء جمع نوء وهي منازل القمر»[1].
العلاقة بين المعنى اللغوي والشرعي:
المعنيان متطابقان؛ فالاستخدام واحد في اللغة والشرع.
الأسماء الأخرى:
الاستسقاء بالكواكب، الاستسقاء بالنجوم.
[1] تيسير العزيز الحميد (451) [المكتب الإسلامي، ط6، 1405هـ].
ورد النهي عن الاستسقاء بالأنواء، وذم فاعله ونسبته إلى الكفر في عدد من الأحاديث، فمن ذلك حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركوهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة»[1].
والاستسقاء بالأنواء ينقسم من جهة حكمه إلى ثلاثة أقسام:القسم الأول: أن يدعو الأنواء بالسقيا؛ كأن يقول: يا نوء كذا! اسقنا أو أغثنا، أو ينسب حصول الأمطار إلى هذه الأنواء أو إلى بعضها على أنها هي الفاعلة بنفسها دون الله ولو لم يدْعُها، فهذا شرك أكبر مخرج من الملة.القسم الثاني: شرك أصغر، وهو أن يجعل هذه الأنواء سببًا لنزول المطر مع اعتقاده أن الله هو الخالق الفاعل؛ لأن كل من جعل سببًا لم يجعله الله سببًا لا بوحيه ولا بقدره، فهو مشرك شركًا أصغر.القسم الثالث: اختلف فيه العلماء، وهو إذا قال ذلك معتقدًا أن نزول المطر من الله تعالى وأن الكواكب ليست سببًا في ذلك، وإنما هي ميقات وظرف لذلك في العادة، فقال ذلك مريدًا للوقت، وللعلماء في ذلك قولان:
أحدهما: كراهة ذلك والمنع منه؛ لظاهر الحديث، ولأن ذلك من أمر أهل الجاهلية، وقد نهينا عن مشابهتهم.
القول الثاني: الإباحة مع كراهة اللفظ كراهة تنزيه؛ لأنه إنما قصد معنًى جائزًا وهو وقت نزول المطر، فكأنه قال: مطرنا في وقت كذا، أو شهر كذا[2].
[1] أخرجه مسلم (كتاب الجنائز، رقم 934).
[2] انظر: شرح مسلم للنووي (2/60)، والقول المفيد على كتاب التوحيد لابن عثيمين (2/18 ـ 19).
الاستسقاء بالأنواء كان عند العرب في الجاهلية مرتبطًا بسقوط نجم وطلوع آخر، قالوا: لا بُدّ من أن يكون عند ذلك مطر أو رياح، فكانوا إذا نزل مطر في وقت نجم معين نسبوا المطر إلى ذلك النجم، فيقولون: مطرنا بنوء كذا، أو هذا مطر الوسمي، أو هذا مطر الثريا، وينسبون إنزال الغيث إلى النجم[1].
[1] انظر: تيسير العزيز الحميد (387 ـ 388) [المكتب الإسلامي، ط1، 1423هـ]، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير (5/122) [دار الكتب العلمية]، والتمهيد لابن عبد لبر (16/287) [وزارة عموم الأوقاف بالمغرب].
من القرآن: قوله عزّ وجل: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ *} [الواقعة] . قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيرها: «يقول: شكركم على ما أنزلت عليكم من الغيث والرحمة تقولون: مُطرنا بنوء كذا وكذا؛ قال: فكان ذلك منهم كفرًا بما أنعم عليهم»[1]. وهكذا قال مجاهد والضحاك وغير واحد[2].
وأما من السُّنَّة: ما ثبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما أنزل الله من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين، ينزل الله الغيث فيقولون: الكوكب كذا وكذا»[3].
وعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة الصبح على إثر سماء كانت من الليل قال: «أتدرون ماذا قال ربكم»؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فمن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، ومن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب»[4].
[1] تفسير الطبري (11/662 ـ 663) [دار الكتب العلمية، ط1، 1412هـ]، وتفسير ابن كثير (4/298 ـ 299) [مكتبة دار التراث].
[2] انظر: تفسير الطبري (11/662 ـ 663)، وتفسير ابن كثير (4/299).
[3] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان رقم 72).
[4] أخرجه البخاري (كتاب الأذان، برقم 846)، ومسلم (كتاب الإيمان برقم 71).
قال القرطبي رحمه الله: «وكانت العرب إذا طلع نجم من الشرق، وسقط آخر من المغرب فحدث عند ذلك مطر أو ريح، فمنهم من ينسبه إلى الطالع، ومنهم من ينسبه إلى الغارب نسبة إيجاد واختراع، ويطلقون ذلك القول المذكور في الحديث، فنهى الشارع عن إطلاق ذلك؛ لئلا يعتقد أحد اعتقادهم ولا يتشبه بهم في نطقهم»[1].
وقال ابن تيميّة رحمه الله: «وقد ذمَّ سبحانه من كفر بعد إيمانه، كما قال: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} الآية [الأنعام: 63] . فهذا في كشف الضر، وفي النعم قال: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ *} [الواقعة] ؛ أي: شكركم، وشكر ما رزقكم الله، ونصيبكم تجعلونه تكذيبًا وهو الاستسقاء بالأنواء»[2].
وقال ابن رجب رحمه الله: «ولا تضاف النعم إلى الأسباب، بل إلى مسببها ومقدرها، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: أنه صلى بهم الصبح في أثر سماء ثم قال: «أتدرون ما قال ربكم الليلة؟ قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما المؤمن فقال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما الكافر فقال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب»[3]. وهذا مما يدل على أن المراد نفي تأثير هذه الأسباب بنفسها من غير اعتقاد أنها بتقدير الله وقضائه، فمن أضاف شيئًا من النعم إلى غير الله مع اعتقاده أنه ليس من الله فهو مشرك حقيقة، ومع اعتقاد أنه من الله فهو نوع شرك خفي»[4].
[1] انظر: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد (327) [مطبعة السُّنَّة المحمدية، ط7، 1377هـ].
[2] مجموع الفتاوى (8/32 ـ 33) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف، 1416هـ].
[3] تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
[4] لطائف المعارف (71) [دار ابن حزم، ط1، 1424هـ].
الاستسقاء بالأنواء ينقسم من جهة حكمه إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: شرك أكبر مخرج من الملة، وله صورتان:
الأولى: أن يدعو الأنواء بالسقيا؛ كأن يقول: يا نوء كذا! اسقنا، أو أغثنا، وما أشبه ذلك، فهذا شرك أكبر في الألوهية والعبادة؛ لأنه دعاء لغير الله، ودعاء غير الله من الشرك الأكبر، وهو متضمن للشرك في الربوبية؛ لأنه لم يدْعُها إلا وهو يعتقد أنها تنفع، وتقضي الحاجات. قال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [المؤمنون: 117] ، وقال تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ *} [يونس] .
الثانية: أن ينسب حصول الأمطار إلى هذه الأنواء، أو إلى بعضها، على أنها هي الفاعلة بنفسها دون الله، ولو لم يدعها، فهذا شرك أكبر في توحيد الربوبية، وهو ما كان عليه أهل الجاهلية.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: «من قال: مطرنا بنوء كذا، وهو يريد أن النوء أنزل الماء، كما عنى بعض أهل الشرك من الجاهلية بقوله فهو كافر، حلال دمه، إن لم يتب»[1].
وقال ابن الأثير رحمه الله: «وإنما غلَّظ النبي صلّى الله عليه وسلّم في أمر الأنواء؛ لأن العرب كانت تنسب المطر إليها»[2].
القسم الثاني: شرك أصغر؛ وهو أن يجعل هذه الأنواء سببًا لنزول المطر مع اعتقاده أن الله هو الخالق الفاعل؛ لأن كل من جعل سببًا لم يجعله الله سببًا لا بوحيه ولا بقدره، فهو مشرك شركًا أصغر.
القسم الثالث: اختلف فيه العلماء؛ وهو إذا قال ذلك معتقدًا أن نزول المطر من الله تعالى، وأن الكواكب ليست سببًا في ذلك، وإنما هي ميقات وظرف لذلك في العادة، فقال ذلك مريدًا للوقت، وللعلماء في ذلك قولان:
أحدهما: كراهة ذلك، والمنع منه؛ لظاهر الحديث؛ ولأن ذلك من أمر الجاهلية، وقد نهينا عن مشابهتهم. قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ـ بعد كلامه عن الباء في قوله: بنوء كذا، وهل هي سببية، أو ظرفية ـ: «الأقرب المنع ولو قصد الظرفية»[3].
القول الثاني: الإباحة مع كراهة اللفظ كراهة تنزيه؛ لأنه إنما قصد معنًى جائزًا، وهو وقت نزول المطر، فكأنه قال: مطرنا في وقت كذا، أو أشهر كذا.
قال النووي ـ بعد ذكر الخلاف في ذلك ـ: «والأظهر كراهته لكنها كراهة تنزيه، لا إثم فيها، وسبب الكراهة أنها كلمة مترددة بين الكفر وغيره، فيساء الظن بصاحبها، ولأنها شعار الجاهلية ومن سلك مسلكهم»[4].
[1] الأم للشافعي (1/252).
[2] النهاية في غريب الحديث والأثر (5/122) [دار الكتب العلمية].
[3] القول المفيد (5/128) [دار العاصمة، ط1، 1415هـ].
[4] شرح النووي على صحيح مسلم (2/60).
الفرق بين الاستسقاء بالأنواء والتنجيم:
الاستسقاء بالأنواء نوع من أنواع التنجيم، وذلك أن التنجيم عامٌّ في كلِّ ما يعتقده الإنسان في النجوم من الكفر والضلال والباطل من استسقاء وغيره، والاستسقاء خاصٌّ بمسألة واحدة من مسائل التنجيم، وهي مسألة طلب السقيا من النجوم أو نسبة ذلك إليها[1].
الفرق بين قول: مطرنا بنوء كذا ومطرنا في نوء كذا:
قال العلماء: (الباء) في قوله: مطرنا بنوء كذا للسببية؛ أي: بسبب نوء كذا، وأما (في) في قوله: مطرنا في نوء كذا فهي للظرفية؛ أي: إن هذا النوء كان وقتًا لنزول المطر، ولهذا أجاز العلماء قول: مطرنا في نوء كذا بخلاف قول: مطرنا بنوء كذا كما سيأتي.
قال ابن مفلح رحمه الله: «وإضافة المَطرِ إلى النَّوْءِ دون الله كفر، وَلاَ يُكْره: فِي نَوْءِ كذا».
واختلف العلماء فيما إذا قال: مطرنا بنوء كذا، وأراد الظرفية.
قال ابن عثيمين رحمه الله: «قال أهل العلم: إنه إذا قال: مُطرنا بنوء كذا وجعل الباء للظرفية فهذا جائز، وهذا وإن كان له وجه من حيث المعنى، لكن لا وجه له من حيث اللفظ؛ لأن لفظ الحديث: «من قال: مطرنا بنوء كذا» ، والباء للسببية أظهر منها للظرفية، وهي وإن جاءت للظرفية كما في قوله تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ *وَبِاللَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ *} [الصافات] ، لكن كونها للسببية أظهر، والعكس بالعكس، (في) للظرفية أظهر منها للسببية وإن جاءت للسببية، كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «دخلت امرأة النار في هرة»[2].
والحاصل: أن الأقرب المنع ولو قصد الظرفية، لكن إذا كان المتكلم لا يعرف من الباء إلا الظرفية مطلقًا، ولا يظن أنها تأتى سببية، فهذا جائز، ومع ذلك فالأولى أن يقال لهم: قولوا: في نوء كذا»[3]
[1] انظر: التمهيد لشرح كتاب التوحيد (349) [دار التوحيد، ط1، 1424هـ].
[2] أخرجه البخاري (كتاب بدء الخلق، رقم 3318)، ومسلم (كتاب السلام، رقم 2242).
[3] القول المفيد (5/128) [دار العاصمة، ط1، 1415هـ].
من الآثار المترتبة على الاستسقاء بالأنواء:
ـ تعلق القلب بغير الله الخالق المدبر.
ـ وقوع صاحبه في أعمال الجاهلية.
ـ وقوع صاحبه في الكفر.
ـ الوقوع في شناعة الظلم حيث نسب النعمة والفضل إلى غير مستحقها، وهو الله سبحانه[1].
[1] انظر: إعانة المستفيد للفوزان (2/25) [مؤسسة الرسالة، ط3، 1423هـ]، والتمهيد لشرح كتاب التوحيد (349، 353) [دار التوحيد، ط1، 1424هـ].
قد أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن مما يبقى من أمر الجاهلية في أمته: الاستسقاء بالأنواء، فوقع ما أخبر به صلّى الله عليه وسلّم ووجد في هذه الأمة من ينسب نزول المطر إلى الظواهر الطبيعية، فيعتقدون أن الكون له محركات غير الله عزّ وجل، أو يعتقدون سببًا لم يسببه الله جلَّ في علاه فيقولون مثلاً: غدًا ستهطل الأمطار بسبب المنخفضات الجوية، أو الظواهر الطبيعية، أو هبوب الرياح الشمالية، فينسبون المطر إلى غير الله جلَّ في علاه، ولذلك فإنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم ذمهم، وبيَّن أن هذه الأفعال من اعتقادات الجاهلية، وعلى المرء أن ينأى بنفسه عن هذا الاعتقاد ولو بالقول[1]، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن، وذكر منها: الاستسقاء بالنجوم»[2].
[1] انظر: إعانة المستفيد للفوزان (2/236 ـ 237)، وخطبة بعنوان (نعمة المطر) لابن عثيمين.
[2] تقدم تخريجه.
1 ـ «التمهيد»، لابن عبد البر.
2 ـ «التنجيم والمنجمون وحكمهم في الإسلام»، لعبد المجيد المشعبي.
3 ـ «تيسير العزيز الحميد»، لسليمان بن عبد الله.
4 ـ «شرح صحيح مسلم»، للنووي.
5 ـ «فتح الباري»، لابن حجر.
6 ـ «فتح المجيد»، لعبد الرحمن بن حسن.
7 ـ «القول المفيد شرح كتاب التوحيد»، لابن عثيمين.
8 ـ «القول في علم النجوم»، للخطيب البغدادي.
9 ـ كتاب «الفروع»، لأبي عبد الله محمد بن مفلح.
10 ـ «مجموع الفتاوى»، لشيخ الإسلام ابن تيمية.
11 ـ «النهاية في غريب الحديث والأثر»، لابن الأثير.